شاب يسرق مبلغاً كبيراً من المال، يلاحقه الأمن، فيضطر للجوء إلى أحد الجبال المقفرة، يرم مرتفعاً من ذلك الجبل، يحفر حفرة بمثابة قبر، يدفن المال، ثم يولي مسرعاً، قبل أن يقع في قبضة الأمن، يدخل السجن، يقضي مدة حبسه، بعد خروجه من السجن، يحاول البحث عن المال، يجد أنه قد بني مكانه ضريح، واستقر حوله مجموعة من الناس، يوكلون حارساً يحرس الضريح من الغرباء، مخافة أن ينبش قبره أحدهم، يلجأ الناس إلى الضريح، ويتضرعون إليه، يسألونه الغيث ويطلبونه ما استعصى عليهم في حياتهم، يقرر صاحب المال النفاذ إلى داخل الضريح، بغية أخذ ماله، لكنه في كل ليلة يحاول الدخول إلى الضريح يعترضه أمر ما، واللافت للانتباه، أنه، وهو متأكد من أنه هو من دفن المال هناك، وأن لا ولي يسكن ذاك الضريح، يعتريه خوف في إحدى الليالي وهو مقدم على فك أقفال الضريح فيولي دبره، هذه ليست قصة حقيقية، وإنما هي مختصر للفيلم المغربي سيدي المجهول، للمخرج علاء الدين الجم، وكما لا يخفى من العنوان، فالفيلم يعالج قضية الإيمان بالخرافات ومدى التصديق بها من قبل الناس، مهما كانت أنواع تلك الخرافات، وحتى أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن صدق ما يؤمنون به، هل هو صحيح أم لا، وهذه الظاهرة لا تقتصر فقط على المجتمعات العربية والإسلامية، بل هي مبثوثة في جميع المجتمعات، ومن قبل جميع شرائح المجتمع، مهما اختلفت طبقاتهم أو مستوياتهم الثقافية أو العلمية، وهذا يطرح سؤالاً محيراً، لماذا يؤمن الناس بالخرافة؟ وخصوصاً في أوقات الأزمات والكوارث؟
الخرافة، الدين، العلم
يرى بعض علماء الأنثروبولوجيا، أن التاريخ البشري هو مثل تاريخ الإنسان الفرد، فكما أن الإنسان الفرد يمر من مرحلة الطفولة، ثم المراهقة، ثم النضج، فكذلك تاريخ الإنسان، فهو في بدايته كان مثل طفل، لا يمكن إلا أن يؤمن بالخرافة، أي إنه لم يكن مهيأ بعد لأن يصل إلى مرحلة المنطقية كما يرى بياجي في مراحل نمو الطفل، وبالتالي فهو حتى يدرك معنى أمر ما، كان لا بد له من أن يجسده، أو يخلق قصة حوله، ولهذا الإنسان البدائي حينما كان يرى تلك المظاهر الطبيعية التي كان يستعصي عليه حلها أو فهمها، كان يلجأ إلى إعطائها معنى ونسج قصص وخيالات حولها، لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يؤمن بالشيء الغامض، فهو يحتاج إلى أن يعطيه معنى حتى يؤمن به، ولذلك نجد طغيان الخرافات والقصص الأسطوري في المجتمعات القديمة، وبعد عهد الخرافة أتى زمن الدين، حسب رأي هؤلاء، فالدين يختلف عن الخرافة، فالأديان كما هو معلوم هناك نوعان من الأديان، هناك أديان سماوية، وأديان وضعية، وتختلف هذه الأديان عن الخرافة، بأن الدين له أربع ركائز، وهي وجود عقائد غيبية، طقوس وشعائر، نظام أخلاقي، تفسير للكون، وهنا يبدو واضحاً أن الدين ليس هو الخرافة، غير أن هذه التفسيرات كما لا يخفى فإنها تروم إعطاء تفسير مادي للدين، وأنه نتاج بشري، وإلا فإننا إذا رمنا مقاربة الدين من داخله، فإن الأمر يختلف، لكن هنا فقط نصف، ولا ندخل في تأكيد أو نقد ذلك، وأما العلم فإنه واضح أنه هو انفجر بعد ثورة الأنوار، ومع ظهور المنهج التجريبي، وقبله بحدوث بعض الثورات العلمية، مثل ثورة كوبرنيكوس وغيرها، طبعاً بعد هذه الثورات سيبدأ صراع جديد من نوعه، وبدل أن كان الصراع في القديم فإنه سيصبح الصراع الجديد بين العلم والدين، ومن ثم سيبدأ مسلسل التوفيق بينهما، ومحاولة إخضاع أحدهما للآخر، ولكن مع ذلك يبقى السؤال قائماً، لم رغم ما عاشه الإنسان من ثروات علمية، ومعرفية، وما راكمه من معارف وتجارب عبر العصور فإنه ما زال يتشبث بالخرافة، بل وبشدة، هل الإنسان لا يمكنه أن يعيش دون خرافة، كما أنه لا يمكن أن يعيش دون دين.
الخرافة وعلم النفس
لا يمكن الجزم حول سبب إيمان الأشخاص بالخرافات، لكن المؤكد أن الخوف يلعب دوراً مهماً في هذا الأمر، حيث إن الدافع الأساسي للأشخاص ليؤمنوا بالخرافة هو خوفهم من المجهول، والذي يجعلهم يدخلون في دوامة من التفكير السلبي الذي قد يقودهم إلى القلق، وحتى يتفادوا ذلك فإنهم بحاجة إلى الإيمان بقوة خارقة، قادرة على حمايتهم وتجنيبهم تلك المصاعب التي قد تواجههم في المستقبل، الخرافة هي ذلكم الملاذ الآمن الذي نلجأ إليه كلما هز وجداننا وكياننا، الصدمات والأزمات التي تعترينا، أو كلما أرهق ذهننا التفكير في معضلة ما، فبدل البحث والتفكير والتنقيب عن حل للمشكلة، نطبعها بطابع أسطوري أو نعلقها بقوة خارقة، حتى لا نتحمل مسؤولية ما يقع لنا، فأساس الإيمان بالخرافة هو الخوف من المجهول، كما أن التفكير اللامنطقي وغير النقدي قد يدفع الناس في الكثير من الأحيان إلى التصديق بالخرافات، وذلك مهما كان مستواهم التعليمي أو الثقافي، وذلك بسبب غياب التفكير المنطقي أو النقدي لديهم، كما أن الكوارث والأزمات كما أسلفت قد تعد أهم دافع للإيمان ببعض الخرافات، فإذا كان شخص ما قد حلت به مصيبة، فإن ذلك يجعله مستعداً للتصديق بأي خرافة، بغية الخلاص من المصيبة التي حلت به، والأمثلة كثيرة على هذا الأمر.
الدين والخرافة
أتذكر واقعة انتشرت فترة الكوفيد انتشار النار في الهشيم، كان الخبر عبارة عن شائعة أو خرافة يتم تداولها بين الناس، وما أثار استغرابي أنني سمعتها من شخص لا يستعمل وسائط التواصل الاجتماعي، ما يعني أن أحدهم اتصل به وأخبره، كانت الشائعة تقول إنك إذا فتحت المصحف واستمررت في القراءة إلى أن تجد شعرة صغيرة، فأنت محظوظ، يجب عليك أخذ تلك الشعرة الصغيرة ووضعها في إناء كبير من الماء، ومن ثم اشربه واسق منه الناس، فإنه شفاء من كل داء، ودون شك الداء الذي كان مستعصياً آنذاك، وهو كوفيد، الخرافة هنا كما هو واضح اكتسبت طابعاً دينياً، وذلك حتى تزيد من مصداقيتها، أو يطبعها من يؤمنون بها بطابع عقلي، غير أنه إذا استخدمنا القليل من التفكير سنلاحظ أنه من الطبيعي وأنت تقرأ أن تقع شعرة أو شعرات منك داخل المصحف إذا استمررت في القراءة مدة طويلة، لكن ما يهمني هنا أن الخرافة للأسف في الغالب يتم لصقها بالدين، وهو منها براء، بل الذي أراه في الدين هو التفكير النقدي العقلي، وهو جاء بغية محاربة هذه الخرافة، كيف لا وهو أول ما ابتدأ به دعاء الناس إلى استعمال عقولهم وفكرهم، وتأمل حالهم، وأن ما يؤمنون به ما هو إلا ضلال وبهتان، غير أنه مع مرور الوقت تم إلصاق الكثير من الخرافات به، وما زالت إلى اليوم للأسف، حتى أضحى عند بعضهم أن التفكير الديني هو والخرافة في زاوية والعلم في زاوية أخرى. أستذكر هنا مقولة للمقرئ أبو زيد يقول فيما معناه، إذا كانت الخرافة دون مستوى تفكير العقل، فالدين وشقه الغيبي طبعاً، هو فوق مستوى تفكير العقل، حتى وإن كانا كلاهما يتضمنان أموراً كثيرة يستحيل على العقل التصديق بها، غير أن زاوية التصديق بهما تختلف كما سبق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.