“عقيلة راتب”.. السندريلا الأولى التي شهدتها السينما المصرية

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/15 الساعة 12:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/15 الساعة 12:25 بتوقيت غرينتش
الفنانة المصرية عقيلة راتب

كنت أحكي لصديقتي بضيق أنني أجيد أموراً كثيرة، وأنني أقدم أقل من 10% مما أستطيع تقديمه حقاً، إنني جيدة في مجال الأداء الصوتي، حتى إنني شاركت بأكثر من عمل كارتوني، وأنا أعمل صحفية منذ سنوات طويلة، وقد نلت عن ذلك جوائز عديدة، وأجيد كتابة القصص والحكايات، وصناعة المحتوى، مع ذلك أشعر أن شيئاً ما يفوتني، ثمة شيء أكبر يمكنني القيام به ولم أفعله بعد، ثم ختمت حديثي بالمقولة الشهيرة "سبع صنايع والبخت ضايع"، كان هذا قبل أن أبدأ التأمّل في قصة حياة السيدة الجميلة الراحلة عقيلة راتب، لأتعلم درساً خاصاً جداً من امرأة لطالما رسمت الابتسامة على وجهي، قبل أن تنجح في رسم علامات الاستغراب والإعجاب والفخر أيضاً.

هل تسببت حقاً في شلل والدها؟

عقيلة راتب
عقيلة راتب

لا يبدو الأمر غريباً حين أستمع إلى البدايات، فكلها متشابهة تقريباً، شابة تقع في غرام الفن، تعارضها عائلتها، ثم تحدث مقاطعة، قبل أن تعود المياه إلى مجاريها أو لا تعود أحياناً، لكن كاملة محمد شاكر كانت لها تفاصيل مختلفة، الشابة التي وُلدت في حي الجمالية، في 22 مارس/آذار 1916، برزت موهبتها منذ عامها الأول في المرحلة الابتدائية بالمدرسة التوفيقية القبطية، حين رأت زميلاتها على مسرح المدرسة، فاشتعلت الرغبة بداخلها، وقررت أنها ترغب في أن تفعل مثلهن، لكن كان الشرط "موافقة مكتوبة من ولي الأمر"، وهو ما لم يرضَ به الوالد أبداً، بل إنه قام بضربها "علقة" لم تنسَها أبدها، مع ذلك لم تشعر بالخوف أو تتراجع ولو لثانية، في الواقع صممت أكثر، وظلَّت تحضر البروفات، منذ الصف الثاني الابتدائي، وفي داخلها أمل أنها قد تصير مثلهن في يوم من الأيام، حتى حدث طارئ لبطلة العرض، فقامت بتقديم الدور بدلاً منها، حيث شاهدها زكي عكاشة، صاحب إحدى الفرق المسرحية وقتها، لكن رد فعل والدها كان عنيفاً جداً، حتى إنها انتقلت من منزل والدها إلى بيت عمتها فاطمة، السيدة التي عاملتها برفق وطاوعتها فيما تريد، فالتحقت بالفرقة، ليصاب والدها بالشلل، يقال إن سبب الإصابة هو عملها، ويقال أيضاً إنه رآها تؤدي حركات راقصة على المسرح فشعر الرجل الذي كان يعمل رئيساً لقسم الترجمة بوزارة الخارجية، بأن ابنته قد ضاعت للأبد، كيف لا وقد تخلت حتى عن اسمها، فصارت تحمل اسم شقيقها راتب، وعرفها الناس باسمها الحالي "عقيلة راتب"، وربما كان سبب الإصابة بعيداً عن هذا كله، لا شيء مؤكداً في هذا الشأن، فلقاءات عقيلة راتب محدودة جداً، وقد كانت تتحرج من الحديث في هذا الأمر بالذات.

أذكر ذلك اللقاء لها ببرنامج "اثنين على الهواء"، الذي بدأته منذ اللحظة الأولى بابتسامة عميقة ولطف شديد، وصوت عامر بالمرح، كيف تحولت فجأة خلاله حين سألتها المذيعة "إيمته بدأتي؟" فردت عقيلة فوراً: "دي مش لازم، خليها على جمب" لتغالبها الدموع، لكن البرنامج لم يركز على الأمر، وحدث قطع سريع، عادت من بعده وقد خلعت نظارتها، فيما بدا- بالنسبة لي- تأكيداً على أنها بكت بسبب هذا السؤال، الذي تغيرت ملامحها من بعده بشدة، قبل أن تحاول استعادة ذاتها من جديد، لم ينكشف أمر العلاقة بين كاملة ووالدها إلى عقب وفاتها بواسطة ابنتها الوحيدة وحفيدتها جيني، حيث لم يبدُ الأمرُ محرجاً لأيٍّ منهن، خاصةً مع التأكيد على أن الصلح حدث في النهاية، حين شارف الوالد على الموت، وكانت عقيلة راتب قد أنجبت ابنتها بالفعل، طلبها فذهبت إليه وظلت تمرّضه حتى وفاته راضياً عنها، بعد أن أوصاها ألا تعمل ابنتها في مجال التمثيل، وهو ما حدث فعلاً. 

أول سندريلا في تاريخ السينما المصرية 

عقيلة راتب
عقيلة راتب

أحياناً يبتسم الحظ بشدة، هكذا صارت عقيلة راتب بطلة فرقة علي الكسار، وتحولت إلى ورقة رابحة، فهي مغنية جميلة الصوت، وهي فنانة استعراضية شاملة، ومونولوجيست خفيفة الدم، وهي أيضاً شابة جميلة جداً، وخلوقة، تصلح لأدوار البطولة، وتقدم أداء مميزاً جداً كممثلة، هكذا لقبوها بالسندريلا، كيف لا وهي الاسم الذي يأتي لأجله الجمهور، بمجرد إعلان اسمها يصبح الحجز "كامل العدد"، ولأجل عيونها قد تجتمع الحكومة كاملة في صالة تمثل على خشبتها مسرحية هي البطلة فيها.

هي سندريلا، ليس لأنها كانت الأجمل على الإطلاق، ولكن لأنها كسندريلا في القصة الأصلية تترك كل شيء عند اللحظة الحاسمة، هكذا تركت عرضاً مغرياً كانت ستصير بموجبة فنانة استعراضية عالمية في فرقة مزاي المجرية، وكانت ستتزوج زيجة مهمة جداً فقط لو أرادت، كان وجودها يحرك الأحداث منذ طفولتها، فبحسب المحرّرة الفنية زينب عبد اللاه، عندما وصلت عقيلة إلى عمر الـ5 سنوات قامت بسببها معركة بين المصريين والإنجليز، أطلق عليها حادثة الخليج المصري بعد أن حاولت قوات الاحتلال القبض على والدها، وضرب أحد الجنود الإنجليز الطفلة على رأسها فأغمي عليها، وثار الأهالي وحدث اشتباك بينهم وبين الجنود الإنجليز وراح ضحيته 5 شهداء.

"على فكرة أنا عملت كل حاجة واشتغلت كل حاجة، مونولوجات، كنت مطربة أولى للأوبريتات، أيوة اشتغلت دراما، اشتغلت في الفرقة القومية، شهرزاد وقطر الندى، كوميديودراما، كل حاجة عملتها"

"السندريلا" كانت مشهورة للدرجة التي حضر لأجلها الملك فاروق أحد العروض، مرتين -بحسب حفيدتها- ثم قام بتكريمها على خشبة المسرح، الحق أنها تألقت لاحقاً، حيث صارت بطلة لعدد من الأفلام، والتي قامت خلالها بالغناء أيضاً، مثل أنا وابن عمي، والمظلومة، وسعاد هانم، والمال والبنون، لكن الأوضاع الطيبة جداً تبدلت سريعاً، ومن بعد مسرحيات شهيرة مثل "مطرب العواطف"، و"حلمك يا شيخ علام" و"الزوجة آخر من يعلم" و"خلف البنات"، وأفلام مثل "عيون سهرانة" و"الفرسان الثلاثة" و"زقاق المدق" و"القاهرة 30″ و"حب ودموع"، تحولت الأوضاع من النقيض إلى النقيض بطريقة درامية جداً.

التمثيل حتى السبعين

تأسرني ابتسامة تلك السيدة التي كانت تؤمن بأنه على المرء أن يفعل ما يحب حتى اللحظة الأخيرة، المهم أن يبقى موجوداً مهما كانت مساحة الدور الذي يقدم: "الفنان عمره ما يبقى على المعاش أبداً، لأنه مش موظف، عندك جوزفين بيكر، سارة برنار، كانت بتشتغل على المسرح وهي عمرها 80 سنة تقريباً"، ربما كانت تلك "المرونة" درساً جعلها تقبل دور الأم وتبدع فيه، بل وتؤكد في لقائها مع طارق حبيب: "مفيش حاجة ندمت عليها أبداً، لو لم أكن فنانة لوددت أن أكون فنانة فنانة فنانة، الفنانين نوعين، نوع مالهوش مورد غير شغله بيرضى بأي دور، ونوع تاني بيحب فنه حتى لو له مصدر رزق، ده بيخليه ياخد أي دور عشان يكمل". 

في الواقع واصلت عقيلة التمثيل فعلاً حتى قاربت على السبعين، وكان من الممكن أن تواصل حتى الثمانين، لكن القدر عاجلها بنهاية مختلفة للغاية عما توقعته وأرادته لنفسها.

أغرب طلاق على الإطلاق!

في العمارة رقم 76 بشارع الجمهورية، بحي الأزبكية العريق في القاهرة، كانت تعيش الفنانة القديرة عقيلة راتب زيجة واحدة فقط في حياتها بالكامل، من "بلبل مصر الوحيد" حامد مرسي، أول من غنى "زوروني كل سنة مرة" فاشتهر في الإسكندرية بعد أن طالبه الجمهور بتكرار الأغنية 13 مرة متتالية، كانت عقيلة راتب تعلم جيداً أنه تزوج قبلها عدداً لا يعلمه أحد من المرات، وكانت مرغوبة من عدد من البشاوات والمشاهير، لكنها رغم كل شيء وثقت فيه، وأنجبت منه ابنتهما الوحيدة أميمة، تقول الابنة: "والدتي كانت بتثق فيه ثقة مطلقة، كانت عملاله توكيل في حاجات كتير وفلوسها كلها كانت تحت تصرفه".

علاقة طيبة جداً وزواج ناجح استمر لـ26 عاماً، قبل أن ينتهي الزواج بطلاق، ولكن بطريقة غريبة جداً، تحكي أميمة: "كنا قاعدين عادي بنتعشى، وبدأوا كلام عن إنهم مش مبسوطين مع بعض كفاية، وإن الطلاق أفضل، وفعلاً اتطلقوا واحنا قاعدين، وكملنا قعدتنا عادي جداً، كأن شيئاً لم يكن"، ظلَّ حامد مرسي حتى وفاته جزءاً من بيت عقيلة راتب: "كان لازم يتغدى عندنا كل يوم، وكانت بتستشيره في كل حاجة، ولو فيه أي مشكلة تكلمه تقوله ويحلها معاها".

الحق أن الطليق الذي اعتزل الغناء 20 عاماً قبل وفاته لم تتزوج من بعده عقيلة راتب، ظل بيتها مفتوحاً بواسطة ابنتها الوحيدة وحفيدتها الوحيدة أيضاً، تحكي ابنتها أميمة: "ماما صممت أتجوز معاها في البيت، ولما بنتي اتولدت صممت تتجوز معانا"، هكذا ظلت عقيلة التي تصفها ابنتها وحفيدتها بـ"ست بيت من الدرجة الأولى قوية جداً"، تعلّم الاثنان كيف تظل المنازل مفتوحة، وأنه يجب أن يكون هناك خزين دائماً؛ تحسباً لأي زيارة، وأن المنزل يجب أن يظل مهيأً للوافدين في أي وقت. 

هكذا احترق تاريخها عقب وفاتها 

في العام 2016 اندلع حريق هائل في شركة مصر للصوت والضوء بشارع الهرم في الجيزة، والتهمت النيران وقتها مجموعة من الاستوديوهات والديكورات والأشجار، والكثير من الأغراض، على مساحة 3 آلاف متر، من كافة الاتجاهات، حريق تطلّب وقتها 20 سيارة إطفاء و3 خزانات مياه، ليتبيّن أن الحريق التهم الكثير، من بينها أفلام عقيلة راتب التي لعبت بطولتها.

حين سألتها المذيعة "استفدتي إيه من عملك في الفن؟" قالت: "لما بمثل باشعر بغاية السعادة، بحس إني ملكت قلوب الناس، الأصعب إنك تضحّكي الناس، وأنا طبيعتي مرحة والحمد لله، لما انزل أشتري حاجة الناس بترحب بيّا، التاكسي ميقفش لحد أبداً، لكن أول لما يشوفوني يقولي اتفضلي يا حفيظة هانم".

قد يحترق كل شيء في لحظة، فلا يبقى سوى لحظات المتعة الصافية، والاستمتاع الحقيقي في وقت العمل، ذلك الذي أعربت عنه عقيلة وهي تتحدث عن عملها في 338 حلقة من مسلسل "عادات وتقاليد"، واحد من أطول المسلسلات التي شهدتها مصر في خلال عقدي الستينات والسبعينات، ذلك الذي اشتهرت خلاله عقيلة بجملتها الأبرز من خلال شخصية حفيظة هانم: "توبة.. يا رب توبة"، والذي اصطحبت حفيدتها فيه، فظهرت منذ الحلقات الأولى "في اللفة"، ومع بلوغ الحلقات الأخيرة كانت جيني قد بدأت الدراسة الابتدائية، احترق جزء كبير من تاريخ السيدة التي كافحت لتفعل ما تحب، فلم يبقَ سوى المتعة الصافية! صحيح أن ابنتها ظلت تحاول حتى وفاتها أن تستعيد تراث والدتها، لكنها لم تنجح في استعادة كل شيء: "جبت أفلام من لندن، زي أنا وابن عمي، والمظلومة، وسعاد هانم، والمال والبنون"، أتمنى يتعرضوا في التلفزيون.

11 سنة بعد فقد البصر 

عقيلة راتب
عقيلة راتب

ربما تبدو نهاية عقيلة راتب تعيسة، السيدة التي كرَّمها رؤساء مصر وملوكها من الملك فاروق إلى الرئيس السابق حسني مبارك كانت صديقة لأم كلثوم، حتى إن الأخيرة حضرت مسرحية لها وهي تحمل حفيدة عقيلة "جيني" على قدميها، بين الحضور، كانت ترغب بعمق أن تواصل التمثيل حتى الموت.

حين سألوا الراحلة أمينة رزق عن أكثر ما يميز عقيلة راتب لم تتردد في القول "ست ملتزمة جداً بشغلها"، الواقع أن هذه بالفعل هي الصفة الأبرز في السيدة التي تسبب لها ارتفاع ضغط الدم الشديد بمشاكل في عينيها، تسببت لاحقاً في فقدانها للبصر خلال تصوير فيلم المنحوس، حين أشاهد الفيلم لا أشعر لحظة أن تلك السيدة لا ترى، هكذا أضافت إلى مهامها في حفظ الحوار، حفظ الحركات مؤكدة للجميع: "المنتج مالهوش ذنب".

صارت عقيلة مكفوفة فجأة، وظلت كذلك لـ11 عاماً، اعتادت خلالها على الحياة الجديدة، وصارت تجد فيها ما يُمتعها أيضاً، تقول ابنتها "لما كان يجي فيلم ليها كانت تقف تسألني أنا كنت لابسة إيه وحاطة البروش أنهي والإكسسوارات شكلها إيه؟ صاحبت الراديو والتلفزيون، كانت بتحب هاني شاكر ومحمد فؤاد".

 بالإضافة لهذا ظلت تباشر المطبخ وأعمال التنظيف في المنزل، تحكي حفيدتها: "عمري ما سيبتها من وقت ما اتولدت لحد لما اتوفت، كنت بروح معاها كل مكان، حضرت أولادي، وكانت زعلانة إنها مش قادرة تشوفهم، كانت تقولي أوصفيهم، وكانت بتلعب معاهم كوتشينة، كنت ممكن أسيب معاها ابني ومطمنة إنه مش هيحصل له حاجة، كانت بتسمع الخطوات كويس بعد ما فقدت البصر".

في اللقاء التلفزيوني الوحيد الذي عثرت عليه لها "اثنين على الهواء" قالت: "تخليد ذكرى الفنان بعد وفاته غير مجدي، مش هيشعر بحاجة"، ربما لهذا ومن بين تكريمات رؤساء مصر جميعاً لها، كان تكريم مبارك لها الأقرب إلى قلبها "كان بقالها 11 سنة بعيد عن التمثيل، كان ده بالنسبة ليها فرحة الدنيا، قليلين اللي فضلوا على تواصل معاها أشهرهم صلاح ذو الفقار وآثار الحكيم"، ربما كان التكريم الحقيقي لعقيلة ما نشر في يوليو/تموز 1992، عن أن أحد المعجبين أبدى استعداده التبرع بواحدة من عينيه لها: "الموضوع ده أثر فيها جداً، وقعدت تعيط، وحاولت تكلم الأهرام تجيب رقم تليفونه، وكلمته وشكرته في التليفون، كان مؤثر جداً بالنسبة ليها، خاصة أنه كان صغير في السن".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رحاب لؤي
كاتبة صحفية متخصصة في الفن
كاتبة صحفية، عملتُ في العديد من الصُحف والمواقع الإلكترونية، أحب الرسم والقراءة والأداء الصوتي
تحميل المزيد