أُكمل في هذا المقال الثالث قصتي مع الدواعش الذين التقيتُهم في السجن أثناء تجربة اعتقالي.
شعرتُ بانهيار عالمي، وتلاشِي الأشياء من حولي، وانتقالي الآنيّ إلى عالم آخر، مُحاطاً بجُدران أسمنتية كئيبة، حيث تخضع الحياة داخله لقوانين مُغايرة. كنت أبحث عن معنى ذلك الانتقال وكيفية التعايش والبقاء في ذلك العالم المُغاير. حين نُدرك واقعنا الجديد نعتاد على أنين أرواحنا المكلومة، ووطأة أغلال أفكارنا المقموعة، وندبات أجسادنا المقهورة، داخل أقفاص حديدية وتوابيت أسمنتية مُصمتة، بُنيت لإلغائنا من دفاتر الحياة والحُرية، وتسجيلنا بأقلام مسمومة كأرقام في سجلات سوداء تُكتب بأيادٍ كالسياط.
"دائماً أشعر أن لهم عالمهم ولِي عالمي، أو ليس لديّ عالم أبداً، لكن قطعاً لا أنتمي لعالَمهم"، مصطفى خليفة، رواية القوقعة: يوميات مُتلصص.
مرت بضعة أيام والتقيت بوالدتي في قاعة الزيارة، وعند الانتهاء وفي طريق العودة إلى زنزانتي بصُحبة مُخبر العنبر قابلت (م.ح) قادماً من مبنى الإدارة المُجاور لقاعة الزيارة، وحين رآني حيّاني وسار معنا إلى العنبر، كان باقي السجناء ممن عادوا من مُقابلة ذويهم قد اصطفوا في طابور انتظاراً لمُخبر العنبر كي يقوم بتفتيش أغراضهم المرصوصة في شنط بلاستيكية بيضاء، وتحضير السجائر أو الأموال لرشوته، في مقابل عدم بعثرة محتويات الزيارة، أو منع ما قد يكون ممنوعاً. انشغل المُخبر بالتفتيش، حينها تحدَّث معي (م.ح) في أحد جنبات بهو العنبر، وسألني عن الزيارة، وكيف كانت، وعن حال والدتي واطمئناني عليها؟ وعلّقَ بأن وجودنا في هذه القلعة الحصينة البعيدة الصحراوية يُمثل إرهاقاً وعذاباً لذوينا، ثم اعتذرَ عن عدم حضوره لاستكمال حديثه معي بسبب بعض المشكلات بينهم وبين الإخوان، وأردف قائلاً إنه منتظر مني استكمال تصنيفاتي لهم داخل السجن.
كنتُ قد ذكرتُ له سابقاً رؤيتي لداعش داخل السجون، وتقسيمهم إلى ست فئات، وذكرت له أول فئة، وكان المثال لهذه الفئة السجين دبور. أما الفئة الثانية من الدواعش في السجون المصرية فهي لشباب يدّعي انتماءه إلى فكر تنظيم الدولة الإسلامية، لتعويض ضعف شخصيتهم، وذلك بالانتماء إلى تنظيم يُكْسِبهم هيبة ورهبة أمام الإدارة الأمنية للسجون وأمام باقي السجناء أيضاً؛ فهو التنظيم المرعب القادر على الإطاحة بالرقاب.
تُبالغ هذه الفئة في إبراز المظاهر الشكلية للدواعش بتكلُّفٍ شديد؛ مثل تكحيل الأعيُن بفجاجة، وارتداء الإزار (لباس يلف على الجزء السفلي من الجسم يرتديه بعض الرجال في شبه الجزيرة العربية). في بعض الأحيان ينجح الشاب في تحقيق هدفه بوضع هالة من الهيبة، فيحقق مكاسب شخصية له، وفي أحيان أخرى يأتي هذا بنتيجة عكسية، ويواجه صعوبات وتعاملاً عنيفاً من قِبل إدارة الأمن الوطني بالسجن.
اتّخذت لهذه الفئة مثالاً لسجين قابلته أثناء وجودي في أحد سجون التحقيق بالقاهرة، والذي قام بإيقافي أثناء صعودي إلى زنزانتي، وكان شاباً مُمتلئ الجسد، داكن البشرة، ذا لحية كثيفة غير مهندمة، وجدته أمامي، ودون سابق إنذار وجّه سؤالاً لي عما إذا كنت نصرانياً (مسيحيّ الديانة)، فسألتُه مُستنكراً عن أسباب سؤاله، فقال لي لأنني حليق اللحية! ثم تابع حديثه عن الكافرين، وأن الله أحلَّ للمؤمن ما لدي الكافر من مال وعِرْض. كان يراني مسيحياً لمُجرد أنني حليق اللحية، ويُحاول إرهابي بما يقوله لي حتى أدخل الإيمان، ثم دعاني إلى حلقة من دروس العقيدة والتوحيد، يُقدمها شيخ سجين أثناء التريّض في زنزانته، فاعتذرت له بأنني غير مُهتم، وتركتُه مُبتعداً.
"قد يكون أسوأ ما في السجن أن عيوبنا ونواقصنا تنكشف لمن هم حولنا بسهولة وسرعة، خلافاً لما عليه الحال في العالم الخارجي"، ياسين الحاج صالح، كتاب بالخلاص، يا شباب! 16 عاماً في السجون السورية.
الفئة الثالثة من الدواعش هي لشباب مُحبين للدين، وتم اعتقالهم ولم يجدوا من يحتويهم من الفصائل الإسلامية، والاحتواء هنا ليس احتواءً فكريّاً فقط؛ بل على المستوى الاجتماعي. الدارج في السجن وجود تكافل اجتماعي بين كل مجموعة من السجناء، بحيث يساعد هذا النظام على سد احتياجات السجناء الفقراء، ممن يعاني ذووهم من مشقة الأعباء المالية وتكلفة الزيارات، وليس ذلك فحسب، بل يكْفُل هذا النظام توفير الحماية والمأوى. حين لا تجد تلك الفئة من الشباب مكاناً بين السجناء الإخوان فلا يجدون سبيلاً اَخرَ غير الالتحاق والتسكين بزنازين الدواعش، من أجل سد احتياجاتهم. الانتماء لداعش في هذه الفئة قائم على علاقة نفعية بحتة، هي البحث عن الأمان وسد الاحتياجات.
كان إبراهيم شاباً بسيطاً مُتديناً من الفئة الثالثة للدواعش، في منتصف العشرينيات، ملامحه هادئة، وحاصل على تعليم متوسط، ولا يَغْلُب عليه التّشَدُّد في الدين، وكان دائم الابتسام. أثناء محادثته تكتشف أنه لم يجد مكاناً له بين الإخوان المسلمين، فلم يجد سبيلاً غير الالتحاق بالدواعش. كي يتواجد معهم عليه الالتزام بالعديد من المظاهر؛ مثل ارتداء زي خاص بهم، ويجب أن يضع قبعة سوداء على رأسه، وهي تقليد يتخذه الدواعش لتمييزهم عن باقي السجناء، فضلاً عن ارتداء الإزار، والقيام بالفرائض والسنن، والاستماع إلى دروس العقيدة والتوحيد. ممنوع عليه منعاً باتاً قراءة الروايات والكتب، إلا الكتب الخاصة بالأمور الشرعية، ويسمح له فقط باستخدام الكُتب الدراسية الدنيوية إذا ما كان طالباً. وعليه ألا يُحادث أو يجالس أي مسجون إلا فيما يتعلق بدعوته واستقطابه وهدايته. كان إبراهيم يأتيني خِلْسة حتّى يسْتعير رواية ليقرأها، ووجدته يقوم بإخفائها بين طَيّاتِ ملابسه، فسألته ذات مرة كيف بإمكانك قراءتها، لما في ذلك من مُخاطرة، فأجابني بأنه ينتظر حتى يخلد الجميع للنوم، ثم يقوم بإضاءة كشّاف صغير بحجم القلم، ويختبئ أسفل غطاءٍ ويبدأ القراءة في الخفاء.
انتهى مُخبر العنبر من التفتيش، وبدأ باصطحابي إلى زنزانتي، وكان (م.ح) مُحَدِّقاً في عينيّ، ولم يَنْبَس ببنت شَفَةٍ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.