لم أقدّر حجم الزوبعة حول "أفول الغرب"، ذلك أن شظاياها بلغت بلد كاتب المقال، المغرب، وانتهى أوراها، كما قنابل انشطارية، إلى الولايات المتحدة، في بعض الأوساط الجامعية من أصول عربية.
وقد تنطوي الزوبعة على جوانب صحية إن دفعت للوقوف بطريقة علمية على الأسس النظرية للغرب، وأفضت إلى نقاش هادئ حول المنعطف الذي يمر منه وبالتبعية البشرية.
ومن المهم استشراف الفرص، أو السوانح، في الظرفية الراهنة، التي من شأنها أن تُخرج مجتمعاتنا من حالة التبعية التي تتخبط فيها أو الارتهان للآخر. هذا ما ينبغي أن تقودنا إليه الزوبعة وليس النيل من صاحب الكتاب بأحكام جاهزة، من قبيل رميه بالتفاهة والتنطع والجهل، وهي أحكام لا تستحق أن يقف عندها المرء، إذ كل ما يطبعه الغلو، يخلو من قيمة، حسب مقولة مأثورة للسياسي الفرنسي القديم تاليران.
لا يتستر الغربيون في الخطاب السياسي والأكاديمي عن وجود أزمة وجودية تعود إلى الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من تساؤلات حول مآل التقدم.. وهي الأزمة المستمرة إلى الآن، بأشكال متعددة.
كنت أشرت في مقالي السابق في هذا الموقع، إلى بعض من الأكاديميين الرصينين الذي وقفوا على دورة الحضارات، كما المؤرخ البريطاني بول كينيدي حول نشأة الحضارات وأفولها، حين لا تستطيع أن تتجاوز حداً معيناً من الانتشار. والكتابات من هذا القبيل التي تقف على الأزمة الوجودية للغرب لا يحدها حصر.
وينبغي أن ننظر إلى قدرة الغرب على النقد، ونقد ذاته، بصفته مصدر قوة، وكل الكتابات حول الأزمة التي يمر منها التي يقوم بها بنوه، هي من قبيل تجاوز عثراته. أن ننقل هذا النقاش أو نقف عنده ليس معناه التشفي، أو إعلان النعي، ولكن السعي لرصد الانعكاسات الممكنة التي يمكن أن تقع على مجتمعاتنا جراء التحول الذي يعرفه الغرب، أو ما يسمى بمصطلحات عدة، التحول الكبير، أو اللعبة الطويلة، أو تغيير المواقع.
منذ 3 سنوات، أي قبل كورونا، وقبل الحرب الروسية الأوكرانية، طُرح النقاش مع الذكرى الثلاثين لسقوط حائط برلين، حول أطروحة "نهاية التاريخ"، أو انتصار القيم الغربية. كان فوكوياما قلب الجملة مأثورة لسارتر من أن الماركسية أفق غير متجاوَز بالتلميح بأن الليبرالية هي الأفق غير المتجاوَز.
وكانت الذكرى الثلاثين لسقوط حائط برلين مناسبة لتقييم "بشرى" فوكوياما، وكان من هذا التقييم كتاب صدر عن أكاديميين أمريكيين إيفان كراستف، وستفين هولمس، بعنوان مستقى من بيت للشاعر البريطاني روديار كيبلينغ: "النور الذي أخفق" (في ترجمة حرفية، أو لربما النور الذي خبا، في ترجمة تُبقي على عبقرية اللغة العربية).
ومؤدى الكتاب أن الولايات المتحدة أخفقت في نشر ما ادّعت من مبادئ، أي القيم الليبرالية، سواء في شقها السياسي، الديمقراطية، أو شقها الاقتصادي، نظام السوق. وقف الكاتبان، على غرار آخرين، إلى عدم تلازم الديمقراطية والليبرالية، إذ يمكن أن تقوم ليبرالية لا ديمقراطية (وهو حال أوربا الغربية مع هيمنة بيروقراطيي بروكسيل كما ينعتون في أوروبا)، أو ديمقراطية لا لبيرالية (حسب المحلل فريد زكريا، كما في أوروبا الوسطى).
واقع الحال، بغض النظر عن الفذلكات النظرية أن النيوليبرالية في أزمة، إذ إنها أدت إلى استفحال الفوارق الطبقية، وتتهدد التوازن البيئي، كما أن الديمقراطية في كساد حسب عالم السياسة لاري ديمون، سواء من خلال مؤشراتها الباهتة، منها ضعف المشاركة في الانتخابات، وأزمة الهيئات الوسيطة، وعودة الشارع، ولكن بالأخص مع استفحال الشعبوية وما تؤول إليه من تقويض الديمقراطية، وهو ما برز جلياً في حادثة غير مسبوقة حين هجم جمع من الغوغاء على مبنى الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني 2020، رافضين نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو الأمر الذي حدا بالرئيس بايدن أن يركز في خطاب التتويج على قيمة الديمقراطية، والخطر الذي يمكن أن تتعرض له.
حينما نتكلم عن الديمقراطية فنحن لا نتكلم فقط عن وسيلة تدبير العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم، ولكن عن إحدى قيم الغرب، والتي يعتبرها مرساته ومربط فرس هويته، إن صح هذا التعبير.
هذا عن القيم، أما الفاعلون فمتغيرون، أو لم نعد في دائرة الأحادية القطبية. قد لا نكون في تعددية قطبية، ولكنا بكل تأكيد لم نعد في استفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم أو ما سُمي بالسلم الأمريكي، مع ظهور فاعلين جدد، أهمهم على الإطلاق الصين، ثم عودة روسيا التي قلبت الطاولة مع الحرب الروسية الأوكرانية، والتي اعتبر فيها سيكري لافروف أن من أهدافها إرساء عالم متعدد الأقطاب.
ولا يمكن أن نغفل في هذه الخلخلة الكبرى، كما يسميها الفرنسيون، الأزمة التي تعتري الاتحاد الأوروبي منذ خروج بريطانيا، ونضيف في هذا التغيير الكبير إرهاصات انبعاث حركة عدم الانحياز.
يمكن أن يُنظر إلى هذه القضايا، من زاوية بعيدة عن الغرب كحذلقة ذهنية، أو معارك طاحونية، أو اقتحام بيوت أبوابها مُشْرعة، ولعل هذا ما أوحى لبعض من الأكاديميين من ضفاف البوتوماك، في تجنٍّ مجاني. ليس هذا هو الغرض، لأن صاحب المقال لا يملك الشرعية كي يتحدث عن الغرب، ولا حتى الإحساس الوجداني. أنطلق من مسلمة هي أن العالم متداخل، وأن ما يعتمل في الغرب يؤثر على بقاع العالم، وبالتبعية على عالمنا العربي.
هذا هو الذي يستحثني للوقوف على "مَعين" الغرب. أشاطر تحليل الصحافي الفلسطيني المغتال سمير قصير، من أن العالم العربي يحمل ما سماه بلعنة "القرب"، في كتابه "تأملات في المأساة العربية"، فالعالم الإسلامي، كان الآخر، بالنسبة لعالم المسيحية، وليس الغرب إلا تحولاً لعالم المسيحية، في مرجعية مختلفة. أو ألا يمكن أن نرى في اختلاف الرأي حالة صحية، عوض كيل الأحكام المجانية؟ وهذا جزء من أزمتنا البنيوية، وهو موضوع آخر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.