يتناقض الموقف الأمريكي من الثورة السورية ضد نظام الأسد مع الموقف من الثورة الليبية ضد نظام القذافي، ففي كلا البلدين تعرض المواطنون لمجازر وجرائم، لكن تدخلت واشنطن في ليبيا ضمن حلف الناتو وقصفت قوات القذافي، بينما وقفت متفرجة مما يحدث في سوريا رغم ضخامة حجم المجازر التي بلغ ضحاياها مئات الآلاف، وحين تدخلت واشنطن عسكرياً انشغلت بتشكيل تحالف دولي لقتال تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" دون المساس بقوات النظام، وصولاً إلى دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" رغم تصنيف تركيا لها كمنظمة إرهابية، كما مررت الانخراط العسكري الروسي والإيراني لدعم الأسد وتغيير موازين القوى على الأرض، وأخيراً لم يلتزم أوباما بخطه الأحمر الذي هدد فيه بالرد عسكرياً على قوات الأسد حال تنفيذها هجمات بأسلحة كيميائية، فحدثت الهجمات ولم يُنفذ أوباما تعهده.
تتعدد التفسيرات لذلك التناقض في الموقف الأمريكي، فالبعض يعزوها لحساسية الموقع الجغرافي لسوريا بالقرب من فلسطين المحتلة، وعدم وجود بديل حاضر للنظام السوري البعثي، وبالتالي من غير المحبذ تغيير النظام والدخول في نفق مجهول قد يهدد أمن إسرائيل مستقبلاً. فيما يعزو آخرون الأمر إلى رغبة أمريكية في إدامة النزاعات الطائفية بالمنطقة، وهو تفسير يعضده ما أورده رئيس السي آي إيه السابق ووزير الدفاع الأميركي روبرت جيتس في مذكراته الصادرة باسم "الواجب"؛ حيث تحدث عن لقاء جمعه برئيس وزراء إسرائيل السابق إيهود باراك في عام ٢٠١١ قال خلاله باراك (الأخبار الجيدة هي أن الأزمة في المنطقة لا تتعلق بإسرائيل أو أمريكا بل بالمشكلات الداخلية في البلاد العربية، وعلينا العمل لإبقاء التركيز منصباً على ذلك)، ثم يتحدث جيتس في موطن آخر عن الدور الأمريكي في حرب العراق وإيران خلال الثمانينات، قائلاً: (كانت مقاربة الولايات المتحدة خلال إدارة ريجان واقعية جداً، لم نكن نريد أن يحقق أي من الطرفين نصراً كاملاً، وبين الحين والآخر كنا نؤمّن دعماً سرياً متواضعا لكليهما).
تفسيرات نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي
من جانبه، يقدم "بين رودس"، نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي للاتصالات الاستراتيجية، وكاتب خطابات أوباما، إضاءات للموقف داخل الإدارة الأمريكية من الثورة السورية في كتابه "العالم كما هو: ذكريات في البيت الأبيض بعهد أوباما".
عندما فاتح أعضاء مجلس الأمن القومي أوباما اشترط للتدخل في سوريا التنسيق مع حلفاء أمريكا، وهو ما حدث لاحقاً؛ حيث صرح أوباما في أغسطس 2011 بأنه قد حان الوقت لتنحي الأسد، وعقب ذلك أصدر قادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا كاميرون وساركوزي وميركل بياناً مشتركاً قالوا خلاله إن على الأسد مواجهة حقيقة الرفض الكامل لنظامه من طرف الشعب السوري.
يقول رودس إنه إثر اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، جاءه الموظفون المعنيون بالملف السوري في مجلس الأمن القومي، وقالوا له: "لقد حان وقت صدور بيان يدعو الأسد علناً للتنحّي عن منصبه كرئيس لسوريا"، ورغم التقدير بأنه لن يستجيب لدعوة واشنطن، فقد أطلقنا دعوات مماثلة بشأن مبارك والقذافي، ويوجد موقف أخلاقي يجب اتخاذه، ورسالة سياسية يجب إرسالها، مع تفهم أن ذلك قد يؤدي إلى إغلاق السفارة الأمريكية في دمشق.
وعندما فاتح أعضاء مجلس الأمن القومي أوباما اشترط للتدخل في سوريا التنسيق مع حلفاء أمريكا، وهو ما حدث لاحقاً؛ حيث صرح أوباما في أغسطس 2011 بأنه قد حان الوقت لتنحي الأسد، وعقب ذلك أصدر قادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا كاميرون وساركوزي وميركل بياناً مشتركاً قالوا خلاله إن على الأسد مواجهة حقيقة الرفض الكامل لنظامه من طرف الشعب السوري.
يكشف رودس أن تقييمات أغلب محللي الاستخبارات الأمريكيين عقب فشلهم بتوقع تنحي مبارك في مصر بدأت تشير إلى أن أيام الأسد معدودة، بينما شك أوباما في تلك التقييمات معتقداً أن الأزمة في سوريا ستطول. وفي خريف عام 2012، بحسب رودس، وصل اقتراح إلى أوباما يوصى بتقديم دعم عسكري للمعارضة السورية، وقد دعم مدير وكالة المخابرات المركزية ذلك الخيار ليس بهدف تغيير اتجاه الحرب إنما لبناء علاقة مع المعارضة، فيما صرح أوباما بأن استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية خط أحمر أمريكي.
ويوضح رودس أنه خاض معركة خاسرة ضد من أرادوا تصنيف جزء من المعارضة السورية -وبالتحديد جبهة النصرة- كمنظمة إرهابية؛ حيث جادل بأن ذلك سيعطي تلك الجماعات حافزاً أقل لتجنب ما وصفها بالتوجهات المتطرفة، وجادل بأنه إذا أرادت أمريكا التدخل في القتال بسوريا فعليها أن تفعل ذلك بجيشها، ودعم موقفه آنذاك اثنان فقط داخل إدارة أوباما؛ هما جيك سوليفان وسامانثا باور، وقد اقترح رودس على أوباما التفكير في قصف مدارج مطارات الأسد أو توجيه ضربات محدودة ضد البنية التحتية للنظام، فرد عليه أوباما (وماذا يحدث بعد أن نقصف المدارج وتعيد روسيا وإيران والأسد بناءها؟).
اتصل أوباما بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لمناقشة الوضع، فقالت ميركل إنه يجب منح الوقت لفريق الأمم المتحدة بسوريا لإعداد وتقديم تقريره حول استخدام الأسد للسلاح الكيماوي، ويجب السعي لاستصدار قرار من مجلس الأمن يسمح باتخاذ إجراء عسكري ضد الأسد، وهو ما قد يعترض عليه الروس بالفيتو.
انهيار الخط الأحمر
في يوم 21 أغسطس/آب 2013 توالت الأخبار بأن الأسد شن هجوماً بالأسلحة الكيميائية أسفر عن مقتل أكثر من ألف شخص في إحدى ضواحي دمشق، فنصح المسؤولون الأمريكيون أوباما بأن يأمر بشن ضربة عسكرية في سوريا، لكن رئيس موظفي البيت الأبيض دينيس ماكدونو أثار تساؤلات حول الأساس القانوني لمثل تلك الضربات، وعن ماذا سيحدث بعد ذلك، ماذا لو قصف الجيش الأمريكي سوريا ورد الأسد باستخدام المزيد من أسلحته الكيماوية؟ هل سترسل واشنطن قوات برية لتأمين تلك المخزونات؟ وفي نهاية الاجتماع، قال أوباما إنه لم يتخذ قراراً بعد ولكنه يريد إعداد خيارات عسكرية.
اتصل أوباما بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لمناقشة الوضع، فقالت ميركل إنه يجب منح الوقت لفريق الأمم المتحدة بسوريا لإعداد وتقديم تقريره حول استخدام الأسد للسلاح الكيماوي، ويجب السعي لاستصدار قرار من مجلس الأمن يسمح باتخاذ إجراء عسكري ضد الأسد، وهو ما قد يعترض عليه الروس بالفيتو. فقال لها أوباما: "سيستغرق هذا عدة أسابيع"، فردت ميركل بأنها تريد استغلال الوقت لبناء اتفاق بين الدول الأوروبية حول الملف السوري، ولم يطمئن أوباما لشن هجوم على الأسد دون دعم أوروبي.
في الداخل الأمريكي، كتب عدد كبير من أعضاء الكونغرس الجمهوريين رسالة لأوباما هددوه فيها قائلين: (إشراك جيشنا في حرب بسوريا عندما لا يوجد تهديد مباشر للولايات المتحدة، وبدون تفويض مسبق من الكونجرس، من شأنه أن ينتهك الفصل بين السلطات في الدستور). ثم صوت البرلمان البريطاني بنسبة 285 إلى 272 ضد الانضمام إلى الضربات التي قد تشنها واشنطن في سوريا بعد نقاش حول ضرورة عدم اتباع لندن لواشنطن في شن الحرب وتجنب ما فعله توني بلير مع جورج بوش في حرب العراق. ومن ثم اتصل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بأوباما معتذراً عن عدم قدرته على دعم شن هجوم في سوريا.
وبحسب رودس، دعمت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وجماعة الضغط "إيباك" والسعودية شن هجوم ضد الأسد، لكن أعلن أعضاء الكونغرس في كلا الحزبين بمن فيهم الأشخاص الذين طالبوا سابقاً بالتحرك في سوريا أعلنوا أنهم سيصوتون ضد الإذن بشن حرب ضد سوريا. وخشي أوباما من أن الحرب يمكن أن تأخذ منعطفاً سيئاً مثلما حدث في أفغانستان والعراق وليبيا، وعندئذ اقترح أوباما على الرئيس الروسي بوتين العمل على إزالة وتدمير الأسلحة الكيماوية السورية، وهو ما وافق عليه نظام الأسد، وبالتالي تراجع أوباما عن خيار شن هجوم عسكري في سوريا مقابل تخلص الأسد من سلاحه الكيماوي.
يخلص رودس إلى أن الحرب في سوريا جاءت كنتيجة غير مقصودة لحروب أمريكية أخرى. فقد أدت الإطاحة بصدام حسين إلى تقوية إيران، واستفزاز بوتين، وفتح الباب أمام الصراع الطائفي الذي اندلع في العراق وسوريا؛ مما أدى إلى ولادة نموذج داعش. وهي خلاصة دقيقة تدفع كافة الأطراف ثمنها حالياً مما يهدد بصراعات من نوع مخالف ومدمر مثلما نشاهد من بوتين في أوكرانيا الذي شجعه تمرير الغرب لحربه في سوريا على شن حرب أخرى أكبر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.