في رأيي المتواضع كتاب "تاريخ العصامية والجربعة" في غاية الأهمية على صعيد موضوعه، بحيث اشتبك الكتاب مع موضوعات كانت وما زالت تشغل تفكيري وتفكير الكثيرين من المهتمين بالشأن العام المصري، وطرح أسئلة ملحة عن وضعنا الاجتماعي الحديث وتطوراته وظواهره المختلفة على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وتصدى للإجابة على سؤال الاجتماع المشترك، ومفهوم الجمهورية وعلاقتها بالشعب، وإلى من تؤول ملكية مصر؟
يستهل الكاتب محمد نعيم كتابه برصد تاريخي نقدي للتطور الاجتماعي للطبقة البرجوازية المصرية ونشأتها منذ عهد محمد علي باشا، وهو العهد الذي عرفت فيه مصر صورة المؤسسات التي يستند عليها الحكم في شكلها الحديث، من جيش واقتصاد وتعليم وصحة وخلافه، بعيداً عن علاقة أو استفادة عموم الشعب من هذه المؤسسات من عدمها، ولكنها أسست لظهور الطبقات والبنى الاجتماعية وتحديداً البرجوازية المصرية التي سوف تكوّن ما يعرف بالحركة الوطنية المصرية فيما بعد، من خلال البعثات الأجنبية وخريجي "المهندس خانة" ومدرسة الطب وخلافه.
مروراً بتفكيك البرجوازية الإقطاعية التي كانت سائدة طيلة القرن والنصف إلى أن أنهت جمهورية يوليو تلك الإقطاعية بقانون الإصلاح الزراعي، وإعادة توزيع الأراضي على الفلاحين.
تاريخ العصامية والجربعة
يحاول نعيم في كتابه فك طلاسم النظرة البائسة التي تنظر بها الطبقة البرجوازية المصرية بنسختها الحالية إلى الطبقات الأفقر بوصفهم فلاحين، ومحاولاتها الحثيثة لنفي أن أجدادهم ينحدرون من أصل فلاحي، ليكونوا بذلك "كِريمة" للمجتمع الذي يشكل الفلاحون غالبيته.
يشرح "تاريخ العصامية والجربعة" كيف بدأت عملية الترقي الطبقي والاجتماعي بالمجتمع المصري الحديث، من خلال دخول الفلاحين إلى جيش محمد علي ومزاحمة الأتراك والأجانب على المناصب الإدارية والفنية فيه، حتى إن طبقة "الباشوية" التي تكونت مع عهد الخديوي إسماعيل كانت من أصل فلاحي، وتكونت نتيجة منحها بعض الأراضي من قبل الوالي الحاكم.
ويحاول نعيم أن يظهر الرحلة العصامية للفلاحين المصريين في الترقي الطبقي والاجتماعي خلال القرنين والنصف الماضيين، وهما عمر الدولة المصرية الحديثة.
كذلك، يحاول نعيم جاهداً أن يفكك ذلك الخطاب أو الرؤية الحالية للطبقة الغنية أو المتوسطة العليا، من خلال استعراض نشأتها حديثاً، وكيف بدأت تظهر تلك النغمة على ألسنة تلك الطبقة ومنتسبيها، وذلك من خلال الفصل الثاني المعنون بـ"أصول الجربعة المصرية"، وأنا أحب أن أشيد بهذا اللفظ، وأن أحيي نعيم على اختياره لأنه موحٍ ودال وأكثر تعبيراً عن تلك الطبقة.
ويكمل نعيم نظرته النقدية الحادة بعض الشيء، والمستندة إلى قراءة نقدية للتاريخ الحديث، في الفصل الذي يليه بنقد الممارسات التمييزية والاستعراضية لإظهار التفوق الطبقي بين تلك الطبقات والأقل منها في المجتمع. وذلك من ظاهرة اللون والسمار والبياض ولغة الكلام التي اختلطت فيها العربية بالإنجليزية، لتنتج لغة ممسوخة مشوهة لا هي عربية فصيحة ولا عامية ولا إنجليزية رصينة، مروراً بظواهر اجتماعية أخرى تدل على خلل في الوعي الجمعي ورؤية المصريين لأنفسهم ولمجتمعهم وسلوكياتهم فيه.
وفقاً لـ"تاريخ العصامية والجربعة"، فلقد تم إنتاج واعادة إنتاج الجربعة المصرية في نسختها الحالية لأنه "لم توجد في مصر قط صيغة ناجحة من صيغ الهيمنة الثقافية لأي طبقة وسطي عليا في أي لحظة كانت، ففي الغالب كانت عملية الحراك الاجتماعي نتاجاً لسياسات ليس عليها إجماع وغير محسوبة التبعات، لأنها غير مفهومة للناس من الأصل بحكم إسقاطها مظلياً من جانب سلطات الدولة.
فضلاً عن أن هذه الطبقات الوسطي لطالما افتقدت القدرة على التنظيم المجتمعي الفعَّال الذي يمكنها من إرساء قواعد معيشتها وصيغها الثقافية، وبالتالي القدرة علي حملها للآخرين كنسقٍ متماسك، بنحوٍ جعل استقرار الهيمنة البرجوازية في مصر -بالمعني الدقيق للهيمنة- إما ضعيفاً أو منعدماً، وفي هذه الدائرة المستمرة لا تمتلك الطبقات الأعلى حيال الطبقات الأدنى إلا مدخلين للتمايز وإثبات الرفعة، أولهما هو الهروب المستمر إلى مرافئ جديدة بعيدة، وصلت الحال ببعضها هذه الأيام إلى أنها صارت مُسيّجة بالأسوار الخرسانية والتشكيلات المسلحة.
وثاني مداخل السعي للتمايز وإثبات الهيمنة هو الاستهلاك المستمر لسلع وخدمات يعجز غيرهم عن استهلاكها، فتصير قيمة الطبقة الأعلى من قيمة ما تستهلكه وليس من قيمة ما تنتجه أو تبدعه، وكلما كان الاستهلاك ومفرداته يتسم بالإفراط والمباهاة والحصرية نجحت رسالة التمايز تلك في الوصول إلى ما ترمي إليه من مفاصلة وهروب، وتخيل القدرة على التحكم عن بُعد".
أما باقي الفصول هي محاولة نقدية لرصد علاقة الشعب بالجمهورية الوليدة حديثاً على يد الضباط الأحرار، والتي يراها جمهورية منقوصة مشوهة المعالم، تضع الشعب في خطابها، ولكن تهمشه من الفعل والتأثير والوجود الفعلي المادي على أرض الواقع، فهو مستدعى في الضرورة فقط.
ومهمة تلك الجمهورية ليست بناء نظام يصون حرية الشعب ويجعله فاعلاً أساسياً في مجتمعه ومصيره، بل المحافظة على بقاء نظام يوليو بصيغته التي تغيرت على مر حكامه، بدءاً من التجربة الناصرية الطموحة التي حاولت تغيير البنى الاجتماعية، ونجحت في ذلك على الصعيد الاقتصادي، ولكنها فشلت على الصعيد السياسي، لأنها حاولت تهميش الشعب وجعله تابعاً على الرغم من الصياح باسمه طول الوقت، وجاءت الهزيمة القاسية في يونيو/حزيران لتنهي المشروع نهائياً وبلا رجعة.
ثم مروراً بالردة الساداتية التي استثمرت في نصر أكتوبر/تشرين الأول، لتحاول من خلاله رسم خطوط برنامجها الذي يعتمد على الانفتاح الاقتصادي غير المنضبط والرهان الكامل على الولايات المتحدة الأمريكية في الدعم المالي والسياسي، مروراً بضرب اليسار وفتح المجال لتيارات الشعارات الإسلامية، سواء المعتدلة أو المتطرفة، التي قد بدأت في التطور والنشوء منذ منتصف السبعينيات، وتتويجاً باتفاقية "كامب ديفيد" التي أدت إلى اغتياله على يد الغول الذي وضع الأساس له لكي يبتلع المجتمع فيما بعد.
مروراً بمرحلة التعفن المباركي على الصعيد السياسي والاجتماعي والاستثمار في الاستقرار، دون مواجهة التحديات بل الطفو فوقها وبإرجائها للمستقبل، إلى أن أتت لحظة الانفجار في 25 يناير/كانون الثاني لتنهي تلك الحقبة التاريخية وتؤسس لما بعدها، ولكن بطريقة غير متعارف عليها في أداء الثورات، وحالة السيولة والارتباك ما بعد 11 فبراير/شباط التي اتسم بها المشهد المصري كانت غير مفهومة بالنسبة للطبقة الحاكمة وقتها، وعندئذٍ تدخل الجيش، المؤسسة الراسخة والأكثر تنظيماً في البلاد، ليحل المشكلة.
يقدم نعيم من خلال رؤيته نقداً أراه مهماً، ويساعد على توسيع الرؤية وطرح مزيد من الأسئلة مؤجلة الإجابة، إلى حين أن يضطر هذا المجتمع ومن يملكون السلطة فيه للإجابة عليها، إذا أردنا لهذا البلد أن يكتمل نموه وبناؤه الحقيقي وغير المشوه الحالي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.