كتاباته ذات دلالة مباشرة تكاد تكون تفصيلية عن معاناة الإنسان وعلاقته بالعقائد والأفكار والسلطة، كتب بشكل مدهش عن الواقع، آمن بأن وظيفة الكتّاب هي "وصف ما لا يُرى من الأشياء، قد تكون مرئية وإنما لم يتم التحدث حولها، وعن أشياء أخرى ليست موجودة وإنما يمكن أن توجَد". قال عنه الناقد الأمريكي إرفينغ هاو إنه "كاتب المقالات الأعظم".
الكاتب الصحفي والروائي الإنجليزي جورج أورويل (1903- 1950)، حياته لم تكن سهلة بتاتاً، كتاباته عكست تجاربه الشخصية، كما ساهمت تنقلاته العديدة، ومناهضته للاستبداد في إشباع نصوصه بحسه الأخلاقي الحاد، فمن الهند حيث وُلد لأسرة متوسطة الحال وذلك بحكم عمل والده الإنجليزي في الخدمة المدنية البريطانية، إلى إنجلترا مكان نشأته وتعليمه، ثم فرنسا فإسبانيا والمغرب، سجل خلالها فهمه الدقيق ونظرته إلى العالم والإنسان، كتب محرضاً الأشخاص على أنفسهم، وعلى همومهم ومتاعبهم، ومنبهاً عليهم ألا يقعوا في فخ الحرب من أجل الحفاظ على الأشياء فقط كما هي، بل عليهم أن يتخطوها من خلال التفكير فيها والتساؤل، وإعادة النظر في كل ما حولهم، والأهم مقاومة الانسياق وراء الملقّن.
في العام 1922 التحق أورويل للعمل في "قوة الشرطة الإمبراطورية" وهو في التاسعة عشرة من عمره؛ بسبب عدم قدرة والديه المادية على سد رسوم منحته الدراسية، فتم تعيينه في بورما، وترقى في وظيفته إلى أن تم نقله وهو برتبة ضابط إلى سجن "إنسين الشهير"، الذي يعد ثاني أكبر سجن في بورما، وهناك استمع إلى أحاديث مطولة تشير إلى غياب العدالة في أدق التفاصيل، وشاهد أشياء مروّعة جمعها كخيوط لفكرة رئيسية شقّت طريقها لاحقاً بجميع كتاباته، راح يلاحقها ويجرّنا معه في رحلة كشف الحقائق القبيحة وفضح الأكاذيب، بدأها برواية "أيام في بورما"، حيث سرد تجربته الذاتية، بعد أن شعر بالذنب تجاه دوره في العمل لصالح الإمبراطورية البريطانية، والتي قال عنها: "لمدة خمس سنوات، كنت جزءاً من نظام قمعي، فشعرت بتأنيب الضمير، أردت أن أُغرق نفسي، أردت أن أكون من المقهورين، وأقف بجانبهم ضد الطغاة"، فكانت هي التجربة الأكبر والأهم في مسيرته، حولته إلى شخصية كاتب ملتزم بالدفاع عن الطبقات الفقيرة والمُهمشة، كما أسهمت في بلورة أفكاره وإنتاجه لأعمال روائية عظيمة ومقالاته الصحفية، سرد فيها من وحي ما عاشه، فبعد عودته إلى لندن في إجازة قصيرة، قرر أورويل عدم الرجوع إلى بورما نهائياً، حيث استقال من وظيفته؛ ليكون كاتباً بدلاً من أن يكون سجاناً.
في لندن، بدأ أورويل في التنقل الطوعي بين الأحياء الفقيرة، سعياً وراء الذات الأكثر أصالة، وعمل بوظائف منخفضة الأجر، وأخذ يراقب ويسجل ظروف وتجارب الطبقة العاملة، ثم لاحقاً عزم على شد رحاله من محل إقامته مع أسرته في لندن إلى العاصمة الفرنسية باريس التي كانت قبلة الكتّاب الطامحين، وذلك في العام 1928 مستفيداً من كونها لا تبعد كثيراً عن بريطانيا، وهناك سكن في نُزل عائلي قذر، وعانى حياة التشرد والتسكع؛ عمل في غسل الصحون ونام في التوابيت الخشبية، كتب وكانت معظم كتاباته المقالية تتعلق بصورة أو بأخرى بموضوع الفقر، وحين أصيب بمرض الالتهاب الرئوي أدخل نفسه مستشفى مجانياً يتدرب فيه طلبة الطب، وفي مكان مهمَل من العالم اصطدم بالواقع الذي يعيشه الفقراء، وتوصل إلى إجابة على سؤال لم يطرأ عليه من قبل: كيف يموت الفقراء؟
جورج أورويل الذي اعتبر أن الأدب -ويقصد كل أنواع الكتابة النثرية، من القصة الخيالية إلى الكتابة الصحفية السياسية: "هو محاولة للتأثير على وجهة نظر معاصريه من خلال تسجيل التجربة"، طالما انكب منذ صغره على كتابة ملاحظاته عن الواقع المعيش، فنُشر له أول قصيدة بعنوان "Awake Young Men of England" وهو في الحادية عشرة من عمره، وأدرك منذ سن مبكرة جداً أنه يجب أن يكون كاتباً، أن يكتب ما يراه بشفافية وصدق، وعرف عنه حينها كفتى انطوائي، منعزل منشغل بالقراءة والكتابة، ووصفته أخته آفريل بأنه "كان شخصاً متحفظاً وغير واضح"، وعودة إلى مستشفى كوشين المجاني بباريس والذي أقام فيه أورويل عدة أسابيع، دوّن هناك تفاصيل معظم مشاهداته المخيفة حيث الهلع والازدحام وروائح فضلات الطعام؛ ليكشف للعالم عن معنى أن يجتمع بؤس الفقر وألم المرض في جسد واحد، بسبب مجتمع تغيب فيه العدالة الاجتماعية والرعاية، حيث تُحول أجساد الفقراء إلى مادة دراسية لطلاب الطب! وبعد عدة سنوات نشر أورويل، من وحي هذه التجربة المريرة، مقالاً بعنوان: "كيف يموت الفقراء؟"، بصحيفة Now في نوفمبر/تشرين الثاني 1946، وثق فيها شكاوى الفقراء المهمشين في مستشفيات باريس آنذاك -حيث المستشفى كان يحظى بسمعة مثل سمعة السجن- وكل الظروف المروعة والجو اللاإنساني المحيط بهم، وبوصف عميق كتب عن المكان والناس، عن الأطباء الطلبة والممرضات المتدربات، عن اهتمامهم بمريض؛ لأنه يتألم بطريقة مثيرة للانتباه، فيفحصونه دون أن يحصل على كلمة عطف واحدة أو نظرة مباشرة إلى وجهه، والتعامل معه بـ"افتقار واضح إلى أي إدراك بأن المرضى كائنات بشرية"، سجّل بدقة كل ما رآه من داخل زاوية رؤيته، حتى الأشياء التافهة والتي بدت للآخرين كأشياء عادية، قال: "كانت هناك مآسٍ بذيئة أو بعض الرعب.. فهناك الناس يموتون مثل الحيوانات.. حتى الموت لا يلاحظونه إلا في الصباح"، فهم (الفقراء): "شخصيات غير مهمة بالقدر الكافي ليشاهدهم أحد وهم على فراش الموت، كانوا مجرد أرقام ثم أصبحوا مادة لمشارط الأطباء الطلبة".
دافع أورويل عن المهمشين، عن الفئات التي همشتها الكتابة بأجناسها، عن الفقراء المشردين المرضى، وحين أساء أفراد الطبقة العليا والمتوسطة فهم سبب عيش الناس في حالة الفقر المدقع، جادلهم أورويل واعتبر أن الفقراء ليسوا فقراء بسبب الشخصية الأخلاقية المتدنية، ولكن بسبب النظم الاجتماعية والسياسية المختلة التي خلقت عدم المساواة الجائرة، والتي بدورها تعرقل الجانب الخيّر من طبيعة الإنسان.
بعد أن أدرك سبب معاناة الطبقة العاملة، مع ما مر به من تجارب في لندن وباريس في العيش مع الأشخاص الأقل حظاً، جاءت تجربته القاسية في الحرب الأهلية الإسبانية؛ حيث وجد نفسه مع رفاقه مُستهدفاً من الشيوعيين المدعومين من موسكو، بعد انضمامه إلى قوات المعارضة أثناء الثورة على زعيمها فرانكو المدعوم من هتلر وموسوليني، لتشكل موقفه الصارم تجاه الأنظمة الشمولية، فكتب روايته "الحنين إلى كاتالونيا" ثم كتب روايته العظيمة "مزرعة الحيوان" 1945، والأخيرة بدت كنص مناهض للثورة، وحين سئل عن ذلك، قال أورويل: "أنا عنيت ذلك لتنتشر على نطاق واسع.. ما كنت أحاول أن أقوله هو أن لا يمكنك أن تقوم بثورة إلا إذا قمت بها من أجل نفسك. ليس هناك ما يُسمى الديكتاتورية الخيّرة"، وبالفعل حظيت هذه الرواية بنجاح كبير وشهرة واسعة بسبب الإسقاطات التي قام بها أورويل على التجربة السوفييتية والأنظمة الديكتاتورية التي حكمت بعض دول العالم بشكل عام، وما زال يمكن إسقاطها بكل سهولة على كثير من الأنظمة الشمولية الموجودة، وإن كان بعض منتقدي أورويل اعتبروا أن موقفه فيه الكثير من المغالاة، فبينما هو يفكك بروباغندا النظام السوفييتي، فقد ساهم في دعم البروباغندا المضادة القادمة من المعسكر الغربي، وبلا شك، فإنه لا يمكن تنزيه مواقف أي كاتب من كل شائبة، بقدر ما هي محاولة للتذكير بمثال وُجِدَ فيه مثقفٌ التزمَ بالنضال. "مزرعة الحيوان" رواية كُتبت بطريقة ساخرة على لسان حيوانات المزرعة، فضمن أورويل بذكاء وحرفية عالية بقاء النص حياً صالحاً لكل زمان ومكان.
ولأنه امتلك عيناً كعدسة مكبرة، ولأنه سخّر قلمه للكتابة عن الواقع الكئيب وعن النفوس المنهَكة، كتب "1984"، في وقت عانى فيه من فقدان زوجته فضلاً عن اعتلال شديد بصحته، فاستطاع وهو في أوج نشاطه الإبداعي أن يصوغ في روايته الأخيرة -التي نشرت في العام 1949- كل التجارب المادية التي عاشها ليمنحها معنى ما وراء مادي، كتب قصة خيالية عن "ونستون وجوليا" احتوت على عناصر من العالم من حوله، لامست بدقة معاني فُطر عليها الإنسان ولا يمكن أن تتبدل بتبدل الزمن، عن أشياء دفينة كامنة في القاع، ويتعمّد الإنسان إخفاءها؛ الخوف من الألم والرغبة في البقاء، كتب عن الحقيقة وما هو مرئي، ولكن لم يتم الحديث حوله، وأشياء ليست موجودة وإنما يمكن أن توجد، فاستشرف بها المستقبل.
يقول الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو: "النصوص الأدبية عادة ما تفصح عن أشياء أكثر من تلك التي يعرفها مؤلفوها"، هذه العبارة قد لا تنطبق على كتابات جورج أورويل، الذي اعتبر أن كل ما كتبه هو جزء من الحقيقة التي يعرفها، فقال عن أحد نصوصه (أيام في بورما): "إن روايتي غير عادلة في بعض المواضع، وغير دقيقة في مواضع أخرى، ولكن معظمها ليس إلا إفادة بما رأيت بعيني".
جورج أورويل أحد أكثر الكتّاب قدرة على كتابة الواقع المرير (أدب المدينة الفاسدة أو ديستوبيا) فاعتاد الانطلاق في الكتابة من تجاربه الشخصية، مما جعل المحتوى الذي يقدمه غنياً وواضحاً، فهو يستند على قصص نضالات أشخاص حقيقيين، وعلى رؤيته الكاملة والواضحة لمعايشاته الواقعية في المدن المُستعمرة والشوارع الأفقر والأضيق والأكثر قذارة، من هناك التقط حقائق ظروف الحياة المُجحفة، وخطابات النفور والاشمئزاز، سجلها في ذاكرته كبقعة مظلمة قريبة جداً تحت سطح عقله، ثم كتبها للعالم إيماناً منه بـ"أن الرجل العادي سيفوز في معركته عاجلاً أو آجلاً".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.