في بريطانيا، وفي القرن السادس عشر كانت هناك امراة حامل وفي غير وقت ولادتها، وعندما سمعت بالغزو الإسباني وضعت جنينها من الخوف، وكان هذا المولود هو الفيلسوف "توماس هوبز"، أحد منظري العقد الاجتماعي، والذي سيطر عليه الخوف منذ ولادته وكان يقول إن أمي ولدت توأمين: "أنا والخوف".
حيث كانت الحرب الأهلية قائمة بين الملك وجيشه والبرلمان وجيشه، وانحاز "هوبز" إلى الملك، وكان يقول إن الصراع والدماء لا يمكن حلهما إلا بسلطة مطلقة وهي سلطة الملك.
وبدأ ينظّر للعقد الاجتماعي بعد أن تعقدت حياة الناس، وأصبح يحكمها قانون الرغبة، والدفاع عن النفس، وخلص إلى قاعدة اجتماعية وهي أن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان".
ثم جاء بعده "جان لوك" الذي انحاز إلى سلطة البرلمان، حيث إن أباه حارب مع جيش البرلمان، لكن "لوك" كان يدعو إلى التسامح ولم ينخرط في الحرب.
وحيث كان "هوبز" يرى أن الإنسان عدائي بالفطرة، كان لوك يرى أنه وديع يبحث عن السلام. وأسس نظريته على قاعدة أن "الإنسان أخ لأخيه الإنسان".
ويرى "هوبز" أن الملك يجب أن لا يكون جزءاً من العقد الاجتماعي، ويرى "لوك" أن الملك يجب أن يكون جزءاً من العقد الاجتماعي.
ثم جاء "جان جاك روسو" الذي نَظّر للثورة الفرنسية، وأيّد بأفكاره "لوك" على حساب "هوبز". وكان يعتبر أن الحاكم مجرد موظف، ويجب أن يدخل في الإرادة العامة للمجتمع، وقد تحققت بصورة جليةٍ نظريته في النظام السويسري، حيث إن البرلمان هو السلطة الفعلية عندهم.
لكن الثورة الفرنسية عندما تخلصت من الملك "لويس الـ16" دخلت في حرب دموية، وفيما سمي بعد ذلك بعصر الإرهاب والإعدامات الجماعية لما سمي بأعداء الثورة، حتى إعدام "روبيسبير" وأطلق عليها "الثورة التي أكلت أبناءها…".
وجاء "إدموند بيرك"، وكان العدو الأبرز لـ"جان جاك روسو" وللثورة الفرنسية، حيث كانت له نظرة علوية، ويرى أن البريطانيين أحسن من الشعوب الأوروبية. ويعتبرون أنفسهم أسياد أوروبا. وربما هذا الذي دفع إنجلترا إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وكان يرى أن الفلاسفة الفرنسيين "مفرطون في التفكير في كل شيء"، وليست لديهم حلول وسط، وأنهم يُنظّرون لثورة تأتي على الأخضر واليابس، بينما يرى "بيرك" أنه لا بد من التدرج والهدوء والحلول الوسط، وأن الثورة الإنجليزية لم تأت للقضاء على الملكية ولكن جاءت لتحويلها إلى الملكية المقيدة أو "الدستورية".
وكال الفضل لـ"بيرك" في التأسيس لتيار المحافظين البريطاني، الذي يميل إلى المحافظة على الأعراف والتقاليد والموروث الديني، ودعا إلى التغيير التدريجي واحترام "التراتبية الاجتماعية التي أفرزتها الطبيعة الإنسانية".
وإذ نعيش اليوم الحدث الذي تألم له البريطانيون، وكل مجموعة دول الكومنولث بوفاة الملكة "إليزابيث"، والمراسم التي يتهيأ لها البريطانيون حكومة وشعباً، لتعطي انطباعاً بمدى تقديس البريطانيين لتاريخهم واحترامهم للنظام الملكي الدستوري الذي أفرزته " الثورة المجيدة". رغم أن منصب الملكة لا يمثل إلا حالة بروتوكولية تشريفية، فليست هي من تقرر في السياسة ولا في القرار ، فإنه بقيت لها صلاحية تعيين رئيس الحكومة والإشراف على تنصيب مجلس النواب.
والنظام في بريطانيا لا يملك دستوراً مدوناً كباقي الدول ويقوم على العرف والقانون، ويفتخر البريطانيون بنظامهم وتاريخهم، وما توصلت إليه ثورتهم المجيدة، وما زالوا يقدمونه للأجيال في محاكاة في مناسباتهم الرسمية.
ومن ذلك أن رئيس الحكومة بعد تعيينه يبقى ماكثاً في بيته، فلا يلبي دعوة الملكة مباشرة، ويبدي تمنعاً من حضور مراسيم التنصيب بين يدي الملكة، متذكراً حادثة "قطع الرؤوس"، حتى ترسل له الملكة وفداً، فيلبي طلبها طائعاً، من أجل المملكة المتحدة ومجدها وتاريخها.
وأنا أتذكر بالمناسبة في زيارتنا الرسمية للندن، حيث أخذونا إلى مبنى الـ"ويستمنستر" وإلى الطابق السفلي منه، والذي مازال على هيئته، ولم يطله الدمار الذي حدث في الحرب العالمية الثانية، وجالوا بنا في أرجائه، ثم أخذونا إلى وسطه حيث المكان الذي كانت تقطع فيه رقاب رؤساء الحكومات، الذين يقصرون في واجباتهم من طرف الملك، فعندما تنظر أمام رجليك تجد صفيحة حديدية مكتوباً عليها :"هنا وفي هذا التاريخ قُطع رأس رئيس الحكومة الفلاني".
وحدثونا طويلاً عن التقاليد الغريبة التي يقومون بها أثناء تنصيب مجلس العموم أيضاً، بحضور الملكة، حيث يقوم النواب بمحاكاة لتاريخهم، فيتمنعون عن الحضور، ويبقوا جالسين في قاعة مجلس العموم، حتى ترسل إليهم الملكة "الساعي" (وهو حامل رسائل الملكة والذي مازال إلى يومنا يجوب أروقة الـ"ويستمنستر" بلباسه الجلدي الخشن وقلادته النحاسية وعصاه الطويلة)، فيذهب لإبلاغ الدعوة لحضور جلسة التنصيب، في قاعة "مجلس اللوردات"، ويقوم الساعي بطرق الباب بعصاه الطويلة، التي أحدثت حفرة في الباب الخشن مع مرور القرون من هاته العادة المتكررة، ثم يقوم بدفعه بقوة والنواب يدفعونه من الجهة الأخرى، وبعد صراخ وشجار مفتعل، يُفتح له الباب ويخرج النواب، وتنتهي المحاكاة التي ترمز إلى التحول التاريخي الكبير إلى الملكية الدستورية.
لتبقى هذه التقاليد والأعراف أصولاً راسخة في الفكر السياسي للشعب البريطاني.
وهكذا حدثونا عن تاريخهم ونظامهم في بلادهم بعزة وافتخار. لكن كل هذا لا يعفيهم من الجرائم الإنسانية ضد الشعوب المستعمرة، وجريمة القرن التي تولى كبرها البريطانيون وهي التمكين للكيان لاحتلال فلسطين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.