توجهت أنظار العالم، في الفترة الأخيرة، إلى بريطانيا، إثر وفاة الملكة إليزابيث الثانية، حيث كثُر الحديث وتعددت المقالات عن حياة صاحبة أطول فترة حكم ملكي في تاريخ إنجلترا، والتي يعتبرها الكثير من النقاد مؤسِّسة بريطانيا الحديثة، وذلك بعدما كانت الملكة إليزابيث الأولى، قبل أربعة قرون، صاحبة الإصلاحات الأولى في المؤسسات السياسية والاجتماعية الإنجليزية.
والدها هنري الثامن كان مهووساً بوريث ذكر
ولدت إليزابيث الأولى، الملقبة بـ"الملكة العذراء"، يوم 7 سبتمبر/أيلول 1533، من والدتها آن بولين، الزوجة الثانية لملك إنجلترا هنري الثامن، الذي كان مهووساً بميلاد طفل ذكر من صلبه، يكون ولياً ووريثاً له في عرشه.
ولذلك، وبعدما تعرضت والدة إليزابيث للإجهاض ثلاث مرات، قرر هنري الثامن الزواج من امرأة ثالثة، فأعجب بجين سيمور، إحدى وصيفات الملكة آن بولين، ولكنه لم يكن قادراً على الزواج منها قبل التخلص من والدة إليزابيث.
ويعتقد المؤرخون المعاصرون أنّ التهم التي وجهها الملك هنري الثامن لآن بولين غير مقنعة، وقد تكون ملفقة بقصد التخلص منها، وقد تضمنت تلك التهم "الخيانة العظمى" و"الخيانة الزوجية"، فتم إعدامها بقطع رأسها يوم 19 مايو/أيار 1536، أي بعد أقل من 3 سنوات من ميلاد إليزابيث الأولى.
بعد إعدام آن بولين بوقت قصير تزوج هنري الثامن بجين سيمور، وأنجبت له يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 1537، ولداً سُمي "إدوارد"، ثم توفيت بعد 12 يوماً فقط من ولادته.
وبعد وفاة الملك هنري الثامن في سنة 1547، خلفه على العرش ولي العهد ابنه إدوارد، الذي كان يبلغ حينها 10 سنوات فقط، ولكنه ما لبث أن غادر الحياة وهو في سن الخامسة عشرة من عمره، بعد معاناته من أمراض عديدة.
توفي الملك إدوارد إذاً في سنة 1553، فخلفته على كرسي العرش أخته الكبرى ماري، البنت الأولى للملك هنري الثامن من زوجته الأولى، الإسبانية كاثرين أراغون.
كانت الملكة ماري كاثوليكية مثل والدتها كاثرين، وجدّها لأمها فرناندو الثاني، ملك إسبانيا، فأرادت بسط المذهب الكاثوليكي على كامل إنجلترا، والتخلي عن المذهب البروتستانتي الذي كان يتبعه والدها هنري الثامن.
وقد بلغ التطرف الديني للملكة ماري إلى حرق أكثر من 300 شخص بتهمة "الهرطقة"، المنافية لمبادئ الكاثوليكية، ما جعل بعض المؤرخين يطلقون عليها اسم "ماري الدموية".
وذهبت إليزابيث الأولى أيضاً ضحية لتطرف أختها الملكة ماري للكاثوليكية، بحيث أمرت هذه الأخيرة بالقبض عليها وسجنها بقلعة لندن في سنة 1554، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، قصد إعادة البروتستانتية كمذهب رئيسي في البلاد.
لم يستمر حكم الملكة ماري أكثر من 5 سنوات، حيث توفيت يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1558، ما فتح الباب واسعاً لإليزابيث الأولى لخلافتها على العرش، بصفتها الوريث الشرعي.
وتم تنصيب إليزابيث الأولى، رسمياً، ملكة لإنجلترا وأيرلندا، في شهر يناير/كانون الثاني 1559، في جو كانت تعيش فيه البلاد صراعاً وحساسية كبيرين بين الكاثوليك والبروتستانت.
أعادت ترسيخ البروتستانتية بإنجلترا بعد وفاة "ماري الدموية"
قد أدركت الملكة إليزابيث الأولى، منذ البداية، أنه يستحيل إرضاء الجميع في ظل العداوة الدينية التي تمزق المملكة، كما رأت أنّ شرعيتها تستند إلى الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية وعن سلطة بابا الفاتيكان، فأعادت ترسيخ البروتستانتية في البلاد، مع التسامح مع المعتقدات الدينية الأخرى، أي عدم التعرض للأشخاص الذين لا يتبعون المذهب البروتستانتي، بخلاف السلوك الراديكالي الذي كانت تنتهجه أختها غير الشقيقة ماري.
ولاحظت الملكة إليزابيث الأولى أنها أمام "معضلة" أخرى تعوقها عن بث الاستقرار بعرشها، والمتمثلة في الزواج، إذ رأت أنّ الزواج برجل أجنبي يَجُرّ إنجلترا للتحالف وللتبعية لبلدان أخرى، كما أنّ الزواج بإنجليزي يعني المخاطرة ببث الغيرة لدى العائلات الإنجليزية الأخرى، وبالتالي اندلاع ثورات بالبلاد، فما كان على الملكة، وفقاً لهذه المعطيات سوى اتخاذ قرار حازم وهو عدم الزواج أبداً وإلى الأبد.
الصراع الديني دفعها لإعدام ملكة اسكتلندا
نجحت إليزابيث الأولى في السنوات الأولى من ملكها في تفادي صراعات دينية كبيرة بإنجلترا، ولكن المشاكل جاءت من الجارة اسكتلندا، ومن قريبتها ماري ستيوارت، حفيدة أخت الملك هنري الثامن، مارغريت تودور، الوريث الشرعي لها في ظل قرارها بعدم الزواج.
أصبحت ماري ستيوارت ملكة لاسكتلندا، لما كانت تبلغ من العمر 6 أيام فقط، وذلك بعد وفاة والدها جيمس الخامس، في 14 ديسمبر/كانون الأول 1542، ولكن تم تعيين والدتها ماري دو غويس وصية على الملك، وذلك حتى وفاتها. وبعد وفاة الوصية على مُلك اسكتلندا، ماري دو غويس، في سنة 1560، تبنت اسكتلندا المذهب البروتستانتي مع مضايقة كل من هو كاثوليكي، فكان من بين أبرز هؤلاء الكاثوليك الرافضين للإصلاحات البروتستانتية ماري ستيوارت، التي عادت إلى عرش اسكتلندا، في أغسطس/آب 1561، بعد 9 أشهر من وفاة زوجها ملك فرنسا، فرانسوا الثاني.
وبعد سنوات عدة من المقاومة، استسلمت ماري ستيوارت للأمر الواقع وهربت في العام 1567 إلى إنجلترا، متخليةً عن العرش لابنها جيمس ستيوارت، الذي لم يكن قد تجاوز السنة الواحدة من عمره، والذي أنجبته من زوجها الثاني، ابن عمتها هنري ستيوارت.
وبينما كانت ترى نفسها قد فرت بجلدها إلى إنجلترا، حيث يوجد تسامح نسبي مع الكاثوليك، فإنّ ماري ستيوارت وجدت نفسها محبوسة في عدة قصور بالبلاد، وذلك بقرار من الملكة إليزابيث الأولى، التي كانت تخشى تأثير قريبتها على الكاثوليك الإنجليز وتشجيعهم على الثورة ضد العرش.
ورغم وجودها في الحبس، وسواء بتأثيرها أو من دونه، فإنّ الكاثوليك الإنجليز قاموا بتمرد كبير في شمالي البلاد، وانتهى بالفشل، وسُمي بـ"ثورة الشمال"، قادها نبلاء العائلات الكاثوليكية بمدن شمال إنجلترا، في شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 1569، قصد الإطاحة بإليزابيث الأولى، وتعيين ماري ستيوارت ملكة لإنجلترا بدلاً منها.
وما زاد من تأزيم موقف الملكة إليزابيث الأولى هو إعلان بابا الكنيسة الكاثوليكية بالفاتيكان، بيوس الخامس، في 1570 أنها "زنديقة"، وأنه قد طردها من الكنيسة، ما دفع كاثوليك إنجلترا للتخلي عن ولائهم للملكة، وبالتالي زيادة المؤامرات الداخلية للإطاحة بها من على العرش.
وفي ظل زيادة تلك المؤامرات، وبنصيحة من مستشاريها، اتخذت الملكة إليزابيث الأولى، في سنة 1586، قرار إعدام قريبتها ماري ستيوارت، بتهمة "التآمر عليها قصد الوصول إلى العرش".
انتصار إليزابيث الأولى على الأرمادة الإسبانية
وبالموازاة مع القلاقل الداخلية، فقد واجهت إليزابيث الأولى، خلال فترة مُلكها، خطر الأطماع الخارجية، وبالخصوص من مملكة إسبانيا، التي كانت تسعى لاحتلال الأراضي الإنجليزية.
وبما أنّ إنجلترا لم تكن في ذلك الوقت تملك قوات عسكرية كبيرة قادرة على مواجهة الخطر الإسباني، فإنّ الملكة إليزابيث الأولى تحالفت مع بعض القراصنة الإنجليز وتجار العبيد، على غرار فرنسيس دريك وجون هوبكنز، اللذين منحتهما اللقب الشرفي "السير"، أي "الفارس".
وقد قاد دريك وهوبكنز عدة هجمات على المصالح الإسبانية ومستعمراتها بالساحل الأمريكي وبالبحر الكاريبي، كما شاركا بأسطوليهما البحريين في معركة "غرافلين"، ببحر المانش، قرب السواحل الإنجليزية، في أغسطس/آب 1588، وانتهت بتعرض الأرمادة الإسبانية لهزيمة ساحقة.
وقد أجبرت تلك المعركة ملك إسبانيا، فيليب الثاني، على إعادة تحديث وتقوية أسطوله البحري، ما سمح لبلده فيما بعد بكسب بعض المعارك، في إطار الحرب الإسبانية الإنجليزية التي امتدت من 1585 إلى 1604، وانتهت بمعاهدة الصلح التي سميت بـ"معاهدة لندن"، وتم التوقيع عليها رسمياً يوم 18 أغسطس/آب 1604، بين ممثلي الملك فيليب الثالث والملك جيمس الأول.
ولعلك قد لاحظت عزيزي القارئ أنّ لا فيليب الثاني ولا إليزابيث الأولى قد شاركا في إنهاء الحرب، وذلك لأنّهما كانا قد توفيا قبل ذلك، وبما أنّ موضوعنا هذا متعلق فقط بحياة الملكة إليزابيث الأولى، فإنّنا نشير إلى أنها توفيت يوم 24 مارس/آذار 1603، بعد 45 سنة من الحكم، تاركة العرش للوريث الشرعي جيمس ستيوارت، ملك اسكتلندا، ابن ماري ستيوارت، الذي أصبح ملكاً لإنجلترا وأيرلندا واسكتلندا، باسم "جيمس الأول".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.