تعيش المؤسسات اللبنانية الرسمية جملة انهيارات في عمق البنية الدستورية والتاريخية للكيان اللبناني، وهذه الانهيارات المتتالية لم تعد محصورة في الوظائف العامة والصراعات الأمنية والقضائية والإطاحة بأمن اللبنانيين الاجتماعي والغذائي والصحي، بل تعدتها لمقاربة القضايا الخارجية الحساسة وطاولت مشروع التمديد لقوات الطوارئ الدولية "اليونيفيل" في مربع الصراع مع إسرائيل بجنوب البلاد.
ولا يمكن القفز فوق ما أرسله لبنان من مقترح يطالب الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بشطب المواد المتعلقة بالقرارات الدولية، لا سيما القرار 1559 والقرار 1680. والقراران يتعلقان بحصر السلاح بيد أجهزة الدولة الشرعية، ويتحدثان عن ضرورة ترسيم الحدود مع سوريا ووقف إمداد الميليشيات بالسلاح. والقرار الدولي 1559 منطلقاته الرئيسية هي بنود "اتفاق الطائف" الذي ينص على عودة الدولة لممارسة دورها في الحرب والسلم خارج إطار "المقاومات" المسلحة"، لذا فإن المطالبة بشطب هذا البند من نص القرار مرده مساعي قوى لبنانية حليفة لحزب الله والتي تمسك بوزارة الخارجية منذ سنوات طويلة، على انتزاع موقف من النظام الدولي يعيد النظر في هذه القرارات الدولية، ولا يتبنى الحفاظ على اتفاق الطائف.
وهذه المراسلة أثارت انزعاج دول الخليج ودول أوروبية أخرى على رأسها بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، على الرغم من السير الفرنسي بهذا الاقتراح الغريب، وهذا الموقف استدعى رفضاً سعودياً حاداً وتحركاً مع سفراء واشنطن لإعداد مسودة مقترح يواجه المقترح اللبناني بغية توسيع صلاحيات قوات الطوارئ الدولية.
وهذا المسعى العوني للإطاحة باتفاق الطائف معطوف على حراك سني يقوده المفتي دريان مدعوماً من الخارج وتحديداً الحلفاء الخليجيين على رأسهم الرياض، والآخر محلي عبر الرئيس فؤاد السنيورة و"مجموعة الـ13″ السنية التي تضم أقطاب السنة وفعالياتها، وهذا الحراك سيتمظهر في الـ24 من الشهر الحالي عبر دعوة النواب السُّنة إلى الاجتماع تحت قبة دار الفتوى لمقاربة الملفات الكبرى، لكن العديد من الأطراف تقلل من قيمة الاجتماع طالما قلبُ العديد من النواب وعقولهم تتمركز بين الضاحية الجنوبية وقصر المهاجرين في دمشق، فيما للآخرين حساباتهم المحلية والإقليمية.
وهناك من يعتقد أن ما يجري في إطار المخاض العسير الجاري في استحقاقات الاتفاق النووي والأزمات المتنقلة من العراق إلى ليبيا وغيرها، ومحاولة ربط الاستحقاقات الداخلية اللبنانية بالترسيم البحري ومفاوضات فيينا النووية، يبدو أمراً بعيداً عن المنطق والواقع وفي ظل عدم جدية أي تحرك خليجي وعربي تجاه لبنان، ما يعني- إذا ما استمر قادة البلاد في المراهنة على استحقاقات الإقليم- أن الواقع اللبناني متجه إلى مزيد من التوترات والتعقيد، في ظل إصرار رئيس الجمهورية، ميشال عون، على رفضه التوقيع على مرسوم لتشكيل حكومة لا تطابق مواصفات تياره وصهره، ما يعني استمرار الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية واستفحالها وامتدادها على كافة الصعد وذلك خدمة لطموحات بعض الحالمين.
ولا يخفي بعض الدبلوماسيين أن رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، هو أكثر الراغبين في حصول الشغور والفراغ الرئاسي وهو أكثر من يدفع في هذا الاتجاه تحت عناوين الشرعية والحضور المسيحي، في إطار اعتقاده السائد أن أي فراغ رئاسي سيعيد خلط الأوراق الرئاسية وبالتالي استعادة حظوظه للتربع على عرش بعبدا، خاصةً أن هنالك من يعمل مع جهات إقليمية ودولية لرفع العقوبات الأمريكية عنه قبيل انتهاء ولاية الكونغرس الحالي، وعليه فإن احتمالات حصول انتخابات رئاسية في موعدها باتت مستحيلة.
لكن الخطورة تكمن في تهديدات باسيل وأقطاب تياره بعد نهاية عهد عبر التلويح بالنزول للشارع واستخدام الحالة الشعبوية في مواجهة شوارع شعبية أخرى، ما يفتح الباب لاشتباك سياسي وميداني بهدف تحسين شروط أحدهم على حساب الاستقرار الوطني المهتز أصلاً ولو كان الأمر سيأخذ البلاد لحوادث شبيهة بالطيونة، التي تقترب الذكرى السنوية الأولى لها.
ويبدو مما يجري أن مسعى باسيل وفريقه- إذا ما وجد دعماً من حزب الله- هو افتعال مشكلة كبرى حول الاستحقاقات وربط فشلها بصيغة الطائف، مع فتح الباب أمام فوضى دستورية وقضائية وسياسية تستدعي تدخلاً خارجياً، لكن عين الحقيقة تقول إن الخارج غير جاهز لتعويم أي من قادة الأزمة المستمرة وإن جل ما يود المساعدة به هو مساعدات في مجالات الصحة والغذاء والتعليم كالمساعدات القطرية لقطاعات التعليم والصحة والجيش أو كمشروع الصندوق السعودي-الفرنسي المستمر للبحث في آلية توزيع هذه المساعدات، وهذا التنسيق لا يأخذ أي أبعاد سياسية حتى اللحظة.
لذا فإن مشارفة عهد الرئيس عون على نهايته بالتوازي مع امتداد الأزمات والتقارير الواردة حول مخاطر أمنية واجتماعية محدقة، معطوفة على ضغط دولي، ربما تدفع عون لتعديل فكرة تعطيل تشكيل الحكومة ربطاً بشروط باسيل التعجيزية، التي ترفضها كل الأطراف ومن ضمنهم حزب الله، ما قد يفتح ثغرة في جدار الأزمة لإعادة ربط ما انقطع بين عون وميقاتي، وقد يكون هذا الأمر متاحاً من قبل ميقاتي للحفاظ على صورة رئاسة الجمهورية، لكن على أرض الواقع تبدو الأمور مستحيلة ومعقدة. وكل الأطراف بدءاً من بري وجنبلاط، بدأت تستعد للعب بأوراقها الضاغطة لتحصيل مكاسب كبيرة خلال مرحلة الفراغ الرئاسي.
ويسعى عون، أقله قبيل 31 أكتوبر/تشرين الأول، لتحقيق أحد حلميه: فإما عزل رياض سلامة من حاكمية مصرف لبنان وإما توقيع اتفاق الترسيم الذي عاود المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين، التحرك من جديد بشأنه على خطوط تجمع باريس والدوحة وتل أبيب وبيروت، وعليه فإن التقدم في المحادثات بات واضحاً. وهناك نقاط طلب هوكشتاين توضيحات في شأنها من الجانب اللبناني. ويبدو أن الاستجابة للمطلب اللبناني بالخط 23 كاملاً، وضمنه كامل حقل قانا، أمر جرى الاتفاق عليه، لكن لا شيء محسوماً بعد، في شكل نهائي، وبعد انتهاء زيارة الموفد، قد نشهد مشاورات بين المسؤولين اللبنانيين لاتخاذ موقف من التوضيحات التي طلبها.
وهناك من يقول إن كل ما يجري، هدفه تمرير الوقت واستثماره لتمرير مرحلة زمنية معينة، إلى أن يحين توقيت إنجاز الاتفاق. وهذا الأمر يرتبط بإنهاء الانتخابات الإسرائيلية، أي إن التأجيل سيكون لشهر ونصف، مع الاستمرار في المحادثات وإظهار أن التواصل مستمر وهناك إيجابية يتم تحقيقها، إضافة إلى أن ذلك يصب في خانة منع حصول أي توتر، طالما أن استخراج الغاز من حقل كاريش والبدء بتصديره لن يبدآ قبل أواخر أكتوبر/تشرين الأول وأوائل نوفمبر/تشرين الثاني، لذلك فإن حلم التوقيع قبيل مغادرة عون للقصر يبدو أمراً شبه مستحيل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.