لا شكَّ أن مفهوم الديمقراطية والحريات بشكل عام بدأ يتعثر ويتأخر لصالح الأفكار السياسية الأكثر شمولية وعنفاً وتعقيداً في العالم بصفة عامة للعديد من الأسباب، لعلَّ أبرزها تَعَقُّد الصراع العالمي بين قطبي العالم الشرقي والغربي، وما يحملهُ هذا الصراع من تعقيدات ثقافية وفكرية وفلسفية وعقائدية، عِوضاً عن طموح كل قطب من هذه الأقطاب الكبيرة في زيادة التوغل في الجغرافيا السياسية، وخلق مناطق نفوذ جديدة أمنية واقتصادية موالية له، مع الحفاظ على مناطق نفوذه القديمة، ولا شك أن أذرع هذا الصراع تنقسم إلى أذرع عسكرية واقتصادية، وأخرى ثقافية فكرية، ويبدو أنَّ المحرك الأساسي لنزاعات القومية الكبرى بين الأمم هي مضامين الهوية الثقافية للمجتمعات من التراكم الفكري والعقائد الدينية التي تنتج عنها في الغالب مصالح اقتصادية، تدعم التوسعة في مجال نفوذ هذه الدول للحفاظ على كيانها أن يكون قويّاً ومتماسكاً، وتكون هي المحرك خلف رسم هذه المشاريع الاستراتيجية التوسعية الكبرى.
لقد تأثر العالم العربي الإسلامي في تكوين بنيته السياسية الحديثة ومجال نفوذه بناتج حربي العالم الأولى والثانية، كما تأثرت معظم مناطق العالم بما فيها القارة الأوروبية التي تمت إعادة رسمها سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأمنياً، بين المعسكر الغربي والشرقي في ذلك الوقت، قبل انهيار حلف وارسو سنة 1991م، وما ترتب على ذلك من نتائج جديدة، وأعادة صياغة العالم في تلك المرحلة لصالح القوى الأطلسية، بشكل يكاد يكون مُطلقاً، ولكن ما نتج عن خسارة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، والفراغ الخطير الذي تركتهُ في العالم الإسلامي، والذي يبدو أنهُ لم يكن فراغاً أمنيّاً وعسكريّاً فقط، بل فراغاً روحياً وفكرياً، وغياب هوية عامة، تسبب في تقسيم العالم العربي لصالح القوى الاستعمارية الغربية الجديدة عبر العديد من الاتفاقيات والمعاهدات التي ورثت مناطق حلف نفوذ دول المركز، دولة الخلافة العثمانية والإمبراطورية الألمانية والنمساوية المجرية والمملكة البلغارية، لصالح منظومة دول الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى (1914م-1918م)، وكان أخطر ناتج عن هذه المعاهدات والاتفاقيات ما يُعرف بوعد بلفور سنة 1917م، الذي أفضى في نهايته لتنفيذ مخطط تكوين دولة الكيان الصهيوني في العمق العربي والإسلامي، بعد احتلال فلسطين سنة 1948م.
فكانت المنطقة العربية تعج بالعديد من المدارس الفكرية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، في مرحلة ما بعد الاستقلال، وانتهاء مرحلة الاستعمار والانتداب، الذي لم يكتفِ بإنهاء الخلافة العثمانية فقط كعامل موحد للعالم الإسلامي، بل امتدّ لإنهاء المدارس السياسية الوطنية التي أسهمت في استقلال أوطانها عند دخول طور الدول الوطنية، كناتج ثقافي عام لمعاهدة سايكس بيكو 1916م، التي صاغها المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، والتي أعادت ترسيم جغرافيا المنطقة سياسياً، لأنَّ تلك المدارس كانت تكفل نوعاً من الوحدة السياسية والاجتماعية للأمة، وكانت إلى حدٍّ ما مُعبئةً بأمجاد الماضي، وبثوابت الهوية الثقافية للأمة.
فشهِدت المنطقة العربية منذُ الخمسينيات من القرن المنصرم صعود واشتباك العديد من المدارس الفكرية والسياسية، حينما كانت القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة، ولا شك أن التعقيدات الأمنية لتلك المرحلة الطويلة أثَّرت في بنية وهيكلة عقل الحكم والمجتمع والمعارضة، وكذلك في تكوين قدرات الدولة في امتدادها وتطورها ونموها؛ ما جعل المجتمع السياسي عاجزاً عن تبني أطروحات سياسية ديمقراطية جديدة؛ لأن ذلك يتصادم مع إرادة النفوذ الدولي.
وكذلك انحسار العقل الثقافي والسياسي في نخبة العالم العربي في دائرة المواجهة الضيقة، التي يبدو أنه لم يكن يحمل أسباب الغلبة فيها للعديد من الأسباب والعوامل، وكانت فلسفة المواجهة شعاراً عاماً في تلك المرحلة، يرفعهُ الحكام والمعارضون ومختلف القوى السياسية من التيارات القومية واليسارية والإسلامية، وللأسف انعكس هذا الأمر على الداخل العربي بعد هزيمة 1967، بحيث شكَّل سلوك حكم غير رشيد وعنيف في معظمه، يعاني من الهزيمة والضعف والعزلة، وكذلك سلوك معارضة تفتقد للرؤية الاستراتيجية السياسية والفكرية، وفهم أولويات المرحلة التاريخية في ذلك الوقت، ومدى عمق النفوذ الدولي في الشأن السياسي العام للمنطقة، ومدى تعقيدات ملفات الشرق الأوسط، فكانت النتيجة دخول العالم العربي لمرحلة استنزاف طويلة، كانت فيها الخسارة عنوان الجميع، أنظمة وتكتلات سياسية معارضة وحركات ثقافية واجتماعية، حيثُ كلاهما ابتعد عن عقل الإصلاح والحوار والبناء، فترسخت ثقافة الفردية في الحكم والمعارضة، وغابت الثقافة المستمدة عن العقل الجمعي للشعوب التي غابت وغُيبت عن الحياة السياسية، فكانت النتيجة انحسار مؤسسات الدولة في التبعية للفرد أو للفئة أو للحزب الحاكم، وانحسار تيارات المعارضة في مجتمع نخبوي بعيد كل البعد عن الشارع، وهذا سبب ضعف الطرح الذي لا يلامس الجموع، وضعف تأثير الأفكار في عدم دخولها في العقل الجمعي للمجتمع، بحيث تشكل حالة جديدة من الوعي.
غزو العراق 2003 والربيع العربي 2011
إن سقوط الدولة العراقية بعد الاحتلال الأمريكي كانَ نقطة تحول مربكة في التاريخ السياسي للمنطقة، حيثُ شكَّل واقعاً أمنياً وسياسياً جديداً يصعُب على دول المنطقة المُعبئة بالأزمات والفشل في إداراتها أن تحتمل هذا الحجم الهائل من الضغط.
فسقوط العراق تركَ فراغاً أمنياً مُفزعاً في منطقة تعج بالصراعات العرقية والقومية والطائفية والمذهبية والدينية، ومنطقة حساسة وفاصلة بين مناطق نفوذ ثقافية مختلفة بين الشعوب الناطقة بالفارسية والشعوب الناطقة بالعربية، فدخل العراق الشقيق في حالة من الفوضى الدامية، وعدم السيطرة، وانهيار عام سبَّبَ موجات عنف مستمرة تتغذى من المخزون الطائفي المتطرف، الذي يأتي في غالبهِ من مراكز فكرية من خارج العراق، لا يمثل اعتدال ووسطية الإسلام التي فرضت التعايش بين المختلفات عبر مراحل مختلفة من التاريخ، ولا يمثل تاريخ العراق الحضاري والإنساني والثقافي والتجربة الاجتماعية الحديثة فيه.
وهذا الأمر زادَ في محنة العالم العربي سوءاً من ناحية إشكالات الهوية ومخاطر التغيير الديمغرافي السكاني، وعودة الصراع القومي بأشكال مختلفة، وزيادة في موجات العنف، واضطرابات مختلفة في واقع سياسي وأمني واجتماعي واقتصادي مهزوز، حيثُ تحاصر المنطقة العديد من البراكين الملتهبة، ابتداءً من القضية الفلسطينية ومخاطر تمدد ووجود الكيان الصهيوني في قلب الأمة، وكذلك منتوج الحرب الأهلية اللبنانية وتداعياته الخطيرة في المنطقة، حيثُ هُناك ولد التقسيم السياسي للمجتمعات العربية على حسب الطائفة والدين، بعد ما كان لبنان في حالة ديمقراطية وثقافية متطورة بمراحل عن المنطقة في ذلك الوقت، قبل دخوله في الحرب الأهلية سنة 1975، والتي كان ناتجها النهائي انتهاء حالة الشراكة الوطنية العامة بين المكونات المختلفة للمجتمع، وبدء مرحلة التجزئة الطائفية، والتي أفشلت لبنان دولةً وشعباً، ووصلت به لحالة الانهيار التي نراها اليوم للأسف.
وكانت كل التراكمات السلبية معوقاً حقيقياً للقوى التي حملت لواء التغيير السياسي في الدول التي مرت بتجربة الربيع العربي، والتي ربما هي توصف في علم السياسة بأنها سقوط شرعية الحاكم بشكل مُطلق، عبر حالة من التمرد الاجتماعي الواسع على سلطة فردية مستبدة، وحالة من فشل الدولة في تطوير آلياتها ومشاريعها وأدواتها، ولكنها لا تصل لمرحلة الثورة التي تحمل مشروعاً سياسياً متكاملاً وقادة ورموزاً لقيادة هذا الحراك، ومع هذا فقد تصادم التغيير بحقول قاسية من الألغام والمعوقات التي تركتها الأنظمة النائمة، التي حافظت على تجميد الأوطان في حالة الركود وخلق الأزمات لمنع التغيير، وبالتالي التقت طبيعة المجتمع الثائر، والتي تنفست من رئة ثقافة الحاكم المستبد الذي ثارت عليه وتأثرت بسلوكهِ مع الأزمات والتحديات الخطيرة على أصعدة مختلفة في المنطقة؛ ما أضعف مجتمع الثورة عن خلق واقع جديد حقيقي، يُثري مناخ الحريات والديمقراطية بشكل أكثر رصانة واستمرارية، وأثبتت تجربة الربيع العربي أن عقل المعارضة السياسية لم يستوعب في فترة ما عقل الدولة وصناعة الحكم.
وتطور هذا الصراع الخارجي بين مناطق النفوذ الدولية والصراع المحلي الداخلي في العالم العربي، وهو صراع إثبات وجود على جميع الأصعدة، حتى وصل الأمر لما هو عليه اليوم من صراع دولي شامل بين أقطاب العالم في الشرق الأوسط، على الممرات المائية المهمة وعلى مخزون الثروات النفطية والغازية، والأخطر هو حالة صراع الهوية الطائفية التي فرضت واقعاً من التشاحُن الاجتماعي في بعض المناطق، وذهب بعيداً في بعض المناطق الأخرى من الدخول في مرحلة تغيرات ديمغرافية خطيرة على تركيبة الكيان الاجتماعي لهذهِ الدول، من توغل المجتمع الإمامي الدخيل التابع لإيران على حساب المجتمع السني في العراق وسوريا، وهو المكون التاريخي الأصيل في المنطقة، وعلى حساب أيضاً المدارس الشيعية القديمة الكلاسيكية في العالم العربي، مثل المذهب الزيدي، والتي كانت قريبة من أهل السنة والجماعة، ولم تكن سبباً في نشوء حالة الانقسام والتحارُب الأهلي داخل نسيج المجتمع.
ويبدو أن تمكين الحالة الديمقراطية في العالم العربي اليوم هو أمر مهمٌ بالضرورة، وليس حالة من الترف السياسي، فهو أمر أساسي وفعَّال لفرض الاستقرار الأمني والسلم الاجتماعي العام في المنطقة التي أصبحت تتغذى من مصادر ثقافية تخدم حالة النزاع وتقوض السلم الأهلي والاجتماعي، لصالح صراع قوى نفوذ دولية مختلفة، تستخدم تركات الفشل الداخلي لإذكاء الصراع المحلي خدمةً لمصالحها الجيوسياسية.
كذلك الاستقرار السياسي والأمني والنمو الحضاري والثقافي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو مفتاح وبوابة لخلق الاستقرار الدولي وصناعة التفاهمات الدولية الكبرى بين أقطاب العالم، وهذا يحتاج منَّا كعرب ومسلمين أن نشارك بفاعلية في هذه المرحلة، عبر فرز قيادات سياسية تُجيد لغة التفاوض الدولية، بحيث تسهم في مرحلة صناعة العالم الجديد، وتحفظ مصالح الأمة، من منطلق أننا الأمة الوسط بين الأمم المختلفة.
فالحالة الشرق أوسطية يبدو أنها صُدِّرت وانتقلت إلى حواضر العالم الأول في حرب أوكرانيا، والتي هي جزء لا يتجزأ من صراع عواصم النفوذ الدولية، بحيث أصبحت حالة المواجهة العسكرية هي من تصنع الإرادة والتفاهمات السياسية، وتحفظ النفوذ، في صراع خشن بين المكونات الثقافية والاجتماعية والمشاريع السياسية، وليس عبر طاولة التفاهمات المرنة كما في السابق.
لذلك ما نشاهدهُ اليوم ربما هو بداية لحالة نزاع أكبر على الأرض في أوروبا، بعدما بدأت حرب أوكرانيا، وهذا أمر مُستجد ولم يحدث بعد الحرب العالمية الثانية، وتداعياته خطيرة على بقاء الدور الفعَّال للقارة الأوروبية، في حالة استمرار ثقافة المواجهة العنيفة على حساب التناغم الناعم بين المختلفات، وخلق تكتلات الشراكة والمنفعة المتبادلة.
ومن المفترض علينا كعرب ومسلمين المشاركة في صياغة العالم الجديد، الذي يتم تأسيسه الآن وهو عالم ما بعد الحرب الثانية العالمية، باستحداث مناخ ثقافي جديد لا يُضيع الجذور، ولكن يرى بأعين واقع هذا الزمن، وما وصلت إليه التجربة المتراكمة للإنسان اليوم، ويرى بوضوح موقعنا من الحضارة الإنسانية في هذا التوقيت الحساس والخطير، كما يجب أن يفكر في صياغة تحالفات كبيرة على مستوى العالم العربي والإسلامي، تجعل لوجودهِ قيمة، ولدوره فاعلية أوسع، وتحفظ أمنه، فالصراعات الكبرى التي تحدث الآن هي ليست بين كيانات فردية معزولة، بل بين تكتلات بشرية متعددة، تجمعها إمَّا مفاهيم ثقافية مشتركة، أو مصالح اقتصادية وأمنية وعسكرية، أو مخاطر وجودية تدفع بها نحو تكوين تكتلات دفاعية مشتركة، للبقاء في الحياة الفاعلة في هذا العالم المادي، الذي يؤمن بأسباب البقاء وليس أمنياته، ويبدو أنَّ حالة الفردية في عالمنا العربي، حيثُ الفرد هو محور كل شيء، سواء في عقل الحكم أو عقل المعارضة، بدأت تُشكل خطراً على وجودنا بين الأمم في العالم الحديث والمستقبلي، الذي أساس بنيانه المجموعات المتحدة والتكتلات البشرية الكبيرة والجمهوريات الواسعة، التي تُسهم في الإنتاج العالمي للزراعة والصناعة والابتكار العلمي والتقدم المعرفي والتقني، فجميعها سلسلة يُغذي بعضها الآخر، فلن يستتب الأمن بشكله النهائي والحقيقي في عالمنا العربي سوى بترسيخ ثقافة الديمقراطية وما تحملهُ من مفاهيم، وكذلك انتهاء حالة الفرد لصالح حالة المجاميع الفاعلة، وهذا لا يتأتى سوى من خلال نمو ونشوء حالة فكرية اجتماعية جديدة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.