ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بخبر وفاة الملكة إليزابيث الثانية، سيدة التاج البريطاني، المرأة التي عمرت الكرسي الملكي لعقود منذ 1953.
غير العرش ورثت الملكة الجديدة العديد من الملفات الساخنة، كالقطبية الثنائية، وحرب فيتنام، والصراع في الهند وباكستان، والأهم القضية الفلسطينية.
فلقد عمل جد إليزابيث الملك جورج الخامس على إصدار الوعد المشؤوم، وعد بلفور في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917: "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية، على ألا يجري أي شيء قد يؤدي إلى الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى المقيمة في فلسطين، أو من الحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى، أو يؤثر على وضعهم السياسي".
كما هو معروف كان الوعد عبارة عن رسالة وجهت من وزارة الخارجية البريطانية في شخص بلفور إلى أحد زعماء الأسر اليهودية في بريطانيا "اللورد ليونيل والتر دي روتشيلد"، ولا شك أن هذه الأسرة وغيرها من أفراد المنظمة الصهيونية، وعلى رأسهم "حاييم وايزمان" شاركوا في صياغة الوعد (حاييم وايزمان، التجربة والخطأ، مذكرات).
كان تأثير الأسر اليهودية في أوروبا والولايات المتحدة قوياً، وكانت بريطانيا تدرك ذلك، وهكذا جاء هذا الوعد المشؤوم مقابل ضغط الأسر اليهودية على الساسة في الولايات المتحدة من أجل المشاركة في الحرب العالمية الأولى، ورغم أن هذه المشاركة كانت مستبعدة فإنها أمست بتأثير هذه الأسر ممكنة، وهكذا دخلت الولايات المتحدة إلى جانب الحلفاء، وحدث ما حدث.
إلا أن علاقة التاج البريطاني وأراضي المسلمين لم تنشأ مع هذا الوعد، إنما هي علاقة ذات شجون، كان الصراع عنوانها الدائم.
لقد أضحت بريطانيا منذ بزوغ شركة الهند الشرقية بأمر ملكي سنة 1600 قوة بحرية عالمية، بأحلام استعمارية تماثل الهولنديين والإسبان، فكان أول أمرها أن احتلت عدن 1839، ثم أسقطت الإمبراطورية المغولية الهندية 1854، بعد حروب طويلة قادها جيش شركة الهند الشرقية، ومن الشرق الأدنى انتقلت أطماع بريطانيا إلى أراضي المشرق العربي، حتى وصلت إلى مصر والشام، فبعد سيطرتها على مضيق جبل طارق والهند، باتت مصر وما جاورها هدفاً لبريطانيا.
فقد كان القرن التاسع عشر عصر الإمبريالية وتصادم المصالح، ولقد كان كذلك قرن تداعي القوة الإسلامية الأولى في المشرق "الإمبراطورية العثمانية"، فقد تبين ضعف العثمانيين، فعزمت الدول الأوروبية على تقسيم أراضيها، ففرنسا نابليون سرعان ما احتلت مصر في حملتها المعروفة، وروسيا اقتطعت أراضي الشمال، وهكذا وجدت بريطانيا نفسها مضطرة أول الأمر إلى مساندة العثمانيين، ثم البحث عن حليف جديد يحمي مصالح التاج الملكي في الشرق، فكانت فكرة ترحيل اليهود إلى فلسطين.
دعم ودم
في بريطانيا باتت الصهيونية حاجة ملحة ومصيرية لضمان لمستقبل التاج، والأمثلة التي يمكن أن نوردها في هذا الصدد كثيرة- لربما لكثرتها تحتاج مقالاً كاملاً- إلا أننا سنكتفي بما صرح به سنة 1876 "شافتسري"، وزير الخارجية وأحد أهم رجالات بريطانيا في القرن التاسع عشر، حيث يقول: "إنها لضربة لإنجلترا إذا ما استولى أيٌّ من منافسيها على سوريا، ألا تستدعي السياسة إذن أن تُنمّي إنجلترا- وهي دولة تجارية بحرية عظمى- قومية اليهود، وأن يرجع إليها فضل استيطان اليهود في فلسطين" [إميل توما، المرجع السابق، ص: 12-13].
في عام 1838 فتحت بريطانيا أول قنصلية لها بالقدس، في ظل الحكم العثماني، مستفيدة بذلك من قوانين الصلح العثماني، ستعمل السفارة بكل جهدها على توطين اليهود بفلسطين، المشروع الذي سرعان ما أثبت نجاحه بعد أن تزايدت أعداد اليهود المهاجرين، الذين وصل عددهم سنة 1914 إلى 85 ألفاً، ومع قيام دولة الكيان إلى أكثر من 100 ألف.
حتى آخر يوم 14 مايو/أيار 1948، احتضنت بريطانيا المشروع الصهيوني في فلسطين وساندته بالعدة والجند، فكانت تدرب العصابات الصهيونية وتمدها بالسلاح، بينما تصادر أسلحة الفلسطينيين وتشردهم وتهجر الأهالي من القرى وتمنحها لليهود باسم القانون، وتقتل المجاهدين والشرفاء، ولعل أشهر من قتلتهم أيادي الغدر البريطانية الشهيد ابن سوريا عز الدين القسام، سنة 1935، الحدث الذي أشعل ثورة 1936.
كان فارق القوة واضحاً بين طرف أعزل وطرف مسلح تدعمه أقوى دول العالم، فلولا هذه المساعدة البريطانية ما كان لإسرائيل أن تكون، لقد سعت بريطانيا بكل عزم لتقوية إسرائيل على حساب لا الفلسطينيين فقط، بل كل العرب، ولعل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 خير مثال.
وحتى لو أن الملكة إليزابيث لم تزُر إسرائيل طيلة حكمها فذلك لأنها لم تكن بحاجة إلى ذلك، فالدعم الملكي لإسرائيل كان معروفاً، والمساعدات المالية السنوية لم تتوقف، حتى مع أسوأ الظروف الاقتصادية، ناهيك عن استقبال الملكة إليزابيث لشخصيات صهيونية وتكريمها لهم أكثر من مرة.
يقال "اذكروا موتاكم بخير"، هذا جيد، خاصة أن الملكة كانت تبدي مشاعر طيبة تجاه الدول العربية، وسبق أن استقبلها زعماء عرب، وعلى رأسهم الملك الراحل الحسن الثاني، رحمه الله.
إلا أن هذا لا يعفيها ولا قصر برمنغهام من المسؤولية التاريخية في فلسطين، فلم تكن بريطانيا كما رأينا مجرد مشارك في المحنة، بل اللاعب الأساسي فيها، ومازالت محتفظة لنفسها بهذا (الشرف)، وإلا كيف يُفسر قانون حظر حماس، أو عدم الاعتذار عن وعد بلفور وعن كل المجازر في حق الفلسطينيين، ولماذا لم يتوقف دعم بريطانيا لإسرائيل في عهد الملكة الحنون؟!
لقد زار أفراد الأسرة الملكية إسرائيل أكثر من مرة، وحضروا الجنازات، وبعثوا البرقيات، وأوصلوا تحايا الملكة للقيادات في إسرائيل، فهل يا ترى فعلوا ذلك دون علمها؟
هل يا ترى لم تكن الملكة على علم بجرائم شارون وشيمون بيريز؟ وهل حين قررت بريطانيا توني بلير المشاركة في تدمير العراق كانت الملكة إليزابيث في إجازة؟
يتميز الإنسان المغلوب بذاكرة قصيرة، فهو سرعان ما يعود إلى أحضان الغالب المسيطر حتى لو أذاقه الذل، وليس استقبال ماكرون في لبنان والجزائر منا ببعيد.
خاتمة لا بد منها
لسنا نشمت في موت المرأة كما يفعل البعض، ولسنا ندعو لها بالجنة كما يفعل الذين لا يعلمون، نحن محايدون، لا إلا هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وربما تأسفنا أنها ماتت وفي يدها مظالم لا تعد ولا تحصى.
فمن سيرد كل هذه المظالم التي وقعت في عهدها؟ من سيدفع ثمن المآسي التي عاشتها فلسطين وعاشها العراق؟
ماتت إليزابيث وخلفت الدنيا وراءها، ويا ليتها على الأقل أوقفت دعمها لإسرائيل، أو أنها لم توافق على تدمير العراق.
سيحسب لها بناء جبهة داخلية قوية، والحفاظ على بريطانيا كدولة عظمى، ولكن إرثها السياسي لم يترك لنا نحن أي ذكرى جميلة نتذكرها، فنقول هكذا يكون الملوك.. لكنها لم تفعل!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.