في الحياة نعرف أن الأخلاق هي المعيار الأول في علاقتنا مع بعضنا البعض، نعرف أن كل فعل غير أخلاقي جريمة بحق أنفسنا أولاً، وفي حق المجتمع الذي نعيش فيه، وفي أحيانٍ أخرى يكون جريمة دولية، لا تغتفر، ولا تسقط بالتقادم. ومن قراءة التاريخ الذي لا يتعلم منه أقسى الطغاة وأكثر البشر نجد أن إرثنا البشري حافل بالسجلات الممتلئة بالجرائم المخزية التي ساهمت في جعل حياة الملايين منا جحيم على الأرض، وتسببت في موت ملايين ومحو وجودهم فجأة، بقنبلة أو عدة قنابل أو من خلال نمط حياتي غير إنساني تسبب في محو آخرين.
مذكرات عبد أمريكي: العبودية كنمط حياتي
منذ سنوات ليست بالبعيدة عاش ملايين البشر تحت رحمة أفراد قليلين كان لهم كل الحق في تقرير مصائرهم باعتبارهم مُلاكَ عبيدٍ. يبدو الحديث عن فظائع العبودية شيء بلا معنى بسبب كثرة الحديث عنه باعتباره أمراً كان قائماً ولم يعد. ولكن عند النظر عن كثب، والتمحيص في حياة أولئك العبيد الذين ماتوا جراء رصاصة بندقية في لحظة انفعال من مُلاكهم أو بسبب الجلد أو الموت من التعب في ظروف شاقة، فإننا لسنا فقط نُعيد لأولئك اعتبارهم الذي سُلب منهم، ولكننا نتشارك مع أبناء جنسنا البشري في حياتهم البائسة التي سببها لهم نظام اجتماعي بائد.
في قصة حياة "فريدريك دوجلاس" التي صدرت في عام 1845 يمنحنا فريدريك بعدما تحرر من أغلال العبودية رؤية جديدة عن حياة العبيد، كرجل ظل عبد منذ طفولته وحتى تجاوزه الخامسة والعشرين يكتب الرجل الحر سيرته التي أشعلت حماس الجماعات المناهضة للعبودية في وقتها، ووجهت أصابع الاتهام بقوة لهذا النظام الاجتماعي الذي تسبب في محو أبسط الصفات الإنسانية للواقعين تحت سطوته في مقابل حفاظ المنتفعين منه على كل مزاياه من ثراء ورخاء. في السيرة الذاتية الصادرة في لغتها العربية عن دار "بيت الياسمين" المصرية ومن ترجمة الكاتب المصري "إبراهيم عبد المجيد" نجد كتابة تنقل لنا صورة شديدة البؤس، وتمنحنا نظرة مفزعة عن الجوانب الأكثر خسة ووضاعة في الإنسان حينما تُمنح له السلطة المطلقة التي لا رقيب عليها ولا رادع، تُشعرنا كتابة فريدريك دوجلاس بالعار لما كانت عليه حياة أولئك العبيد الذين انتزعوا من أحضان أمهاتهم ليلاقوا بعدها ويلات العذاب تحت سلطة وسوط الرجل الأبيض الذي ما زال لونه يمنحه تفضيلات عديدة!
من الصفحات الأولى في الكتاب لا يحتاج دوجلاس للتمهيد، نحن على عتبات نص مكتوب من رجل خرج للتو من حياة لا تساوي فيها قيمة العبيد أي شيء، يحكي وهو لا يتنصل من حياته التي عانى فيها الجلد والجوع والألم عن حياة أقرانه، وعن مُلاكه السابقين بشيء من الألم جراء استعادة الذكريات السيئة التي نتجت عن الجلد والجوع والركل بلا سبب، والألم من العمل في ظروف غير آدمية باعتبار العبد دابة وليس إنساناً. بالإضافة لتعليقات دوجلاس الذي تعلم الكتابة والقراءة بمحض الصدفة حينما كانت ابنة سيده القديم تحاول تعليمه وهو طفل وشاهد حوار والدها معها والذي تكون من خطبة طويلة تحط من قيمة العبد وتضعه في مكانة لا يصح فيها التعليم ولا الاهتمامات التي يجب أن يلقاها الإنسان العادي لأن العبد إذا تعلم تمرد، وإذا تمرد مرة فإنه لن يتم ترويضه أبداً.
يُعقب فريدريك في كتابه عن معارضة مالكه لمحاولات تعليمه:
"إن أعظم ما يخافه هو أعظم ما أريده، وأعظم ما يحبه هو أعظم ما أكرهه، ما هو خير عظيم يجب إدراكه بتصميم. إن المناقشة التي أدارها بحماس ضد تعليمي القراءة، أفادت فقط في إعطائي الرغبة والتصميم على التعليم".
لم ينجح دوجلاس في الهرب من حياته كعبد بسهولة، إذ إن الظروف التي حالت بينه وبين الحرية كانت عديدة، ولكنه كأي مثابر، كأي إنسان يبدأ في إدراك أن العبودية ما هي إلا حبل من الشوك حول الرقبة مهما بدا غير سيئ فإنه في النهاية وبسهولة، وبلا أي سبب يمكن أن ينهي حياتك عن طريق خطأ بسيط لا يراه إلا مالك عبيد.
في الأوقات التي كان يفكر فيها دوجلاس ورفاقه في الهرب كان يتشتت تفكيرهم كُلياً، ويضيع الأمل في نجاح المحاولة، ويقول بنفسه كلمات رفاقه في الأوقات الكئيبة:
"فلنتحمل ما نعيشه من أهوال، بدلاً من الطيران إلى ما نجهله".
المجهول الذي ما زلنا نعيش فيه نحن كفزاعة مخيفة تجعلنا نطارد لقمة العيش يومياً في ظروف عمل غير آدمية تقع تحت مئات البنود مثل الاحترافية وتطوير الذات ووهم الإنجاز الذي أصبح آفة عصرنا الحالي كان أيضاً يمثل فزاعة لرفاق دوجلاس، ولكنهم كادوا أن يواجهوا الموت كعقوبة فقط لمحاولة الهرب، لمحاولة التخلص من حبل المشنقة الذي وُلد كل عبد به.
نجح دوجلاس في الهرب، وأصبح وزيراً في الحكومة الاتحادية بعد الحرب، ولكن القصة لم تكن قصة دوجلاس وحده، ولكنها قصة ملايين عاشوا وماتوا ولم نعرف عنهم شيئاً.
إبادة الهنود الحمر: نحن لا نحترم أحداً
لا تختلف جريمة العبودية عن أبشع جرائم الإبادة الجماعية في التاريخ، وهي إبادة الهنود الحمر -السكان الأصليين لأمريكا- وليست مفارقة أن يكون الفاعل الرئيسي لهما هو فاعلاً واحداً يبدو في السرديات المتعلقة بوصمات العار الكبيرة في تاريخنا البشري وكأنه الشيطان صاحب أكبر عدد جرائم كما تم تصويره في عوالمهم السينمائية.
في 27 مارس /آذار عام 1973 فاز الممثل الأمريكي "مارلون براندو" بجائزة الأوسكار العالمية عن دوره في فيلم The Godfather "العراب" الذي يعد أحد أعظم الأعمال السينمائية في التاريخ، وبدلاً من استلام الجائزة والاحتفال بها وجد الجميع حول العالم امرأة ترتدي فستاناً من جلد الغزال وحذاء من موكاسين تقليدي خاص بالهنود الحمر تصعد إلى المنصة وترفض تسلم الجائزة الذهبية، وبنبرة هادئة وجهت خطابها للحضور:
"مرحباً، اسمي ساشين ليتلفيذر، رئيسة منظمة الحفاظ على تراث الهنود الحمر، أنا هنا لأمثّل مارلون براندو في هذه الأمسية، لقد طلب منّي إخباركم بخطاب طويل لا يمكنني مشاركتكم إياه الآن بسبب الوقت، لكن سيكون من دواعي سروري مشاركته مع الصحافة بعد انتهاء الحفل، إنه -بكل أسف- لا يمكنه قبول هذه الجائزة السخية، سبب هذا الفعل هو المعاملة المشينة للهنود الأمريكيين من قبل صناع الأفلام، اعذروني… وكذلك الأحداث الحالية بووندد ني – Wounded Knee*، آمل ألا أكون قد تطفلت على أمسيتكم هذه، وأن تلتقي قلوبنا وبصيرتنا في المستقبل مع الحب والمروءة، شكراً لكم بالنيابة عن مارلون براندو".
في الخطاب الذي سلمته ساشين ليتلفيذر -رئيسة منظمة الحفاظ على تراث الهنود الحمر- للصحافة قال مارلون براندو إن ما منعه من قبول الجائزة هو ازدواجية المعايير الأمريكية التي تُنادي بالحرية واحترام الآخر وحفظ حقوق الجميع وبين ما يحمله تاريخ وطنه من جرائم خيانة معاهدات وإبادات جماعية للسكان الأصليين لأمريكا الذين لم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بسبب معاهدات السلام التي وقعوها مع أمريكا وتسببت في نهايتهم ومحوهم بشكل كلي، بالإضافة لتصويرهم في السينما الأمريكية بصور جارحة ومهينة لا يقبل بها أي فنان. ألهب موقف براندو العالم، وسلط الضوء بشدة على جريمة كادت أن تُمحى من الذاكرة الجمعية بسبب سعي الدولة الحديثة لغسل يديها الملطخة بالدماء والعار جراء ما حدث. لا يوجد في المواقف الأمريكية أسوأ من التزييف والخداع الذي مارسوه تجاه الهنود الحمر الذين دعوهم للحوار وإلقاء الأسلحة أرضاً لإيجاد سُبل للعيش في سلام ثم التقطوا هذه الأسلحة من على الأرض وصوبوها تجاه السكان الأصليين، ليحذفوا بكل وحشية كل حياة، ويمحو كل شخص مختلف في العرق واللون والدين، ليبدأوا بعدها تسطير واقع مغاير، وياللعار، واقع يهدف لحماية وحفظ السلام تحت راية المواطن الأمريكي الأبيض!
وفي الوقت الحالي، وبعد خمسين عاماً على هذه الواقعة تم الاعتذار لساشين ليتلفيذر عن كل ما واجهته بعد إلقاء خطابها الذي لم يتخطَ ستين ثانية فقط من قبل "ديفيد روبين" رئيس الأكاديمية الحالي! تبدو مواقف المواطن الأمريكي كلها مدفوعة بشعوره بالفوقية والاستحقاق، فقط من خلال اللون والعرق الذي يتخذهما كساتر استطاع أن يضع الملايين تحت رحمته لسنوات بلا أدنى حق، واستطاع أن يقتل أصحاب أرض بلا أي حق، ويستطيع أيضاً تقديم الاعتذار في الوقت المناسب له ولو بعد مئة عام فقط؛ لأنه أمريكي تجري في عروقه دماء باردة ويحمل في سجلات تاريخه مئات الصفحات المليئة بالدماء والتي كُتبت بالخداع والكذب والاستيلاء، وتم تنميقها وتهذيبها ببيانات تحمل عناوين براقة كحقوق الإنسان ونشر السلام وحفظ الأمن.
لم يعد في العالم مكان غير مصاب بالعطب الأمريكي، ولا بالتلوث الفكري التافه الذي يصدره للعالم من خلال ماكينة صناعة أفلامه الهائلة، ولا وجود لمكان غير متأثر بالصوابية السياسية التي صار على الجميع اتباع قواعدها لمواءمة معايير الرجل الأبيض الذي وضعته الظروف الحياتية العبثية التي نعيش فيها في صدارة العالم المختل. يبدو التاريخ المخزي الذي بمجرد النظر عليه سريعاً نعرف أنه لا قاعدة صحيحة ولا ميثاق خالٍ من الأهواء الشخصية التي تخدم شخصاً أو أيديولوجية معينة، ولا وجود لمكان واحد يمكن أن يعيش فيه الإنسان بلا أن يصاب بأثر الفراشة الملعونة التي لا تتوقف عن الحركة بسبب اضطراب عالمنا، لذا في كل وقت يجب أن نُعيد تذكير أنفسنا بأن هذا العالم موجود فيه البشر والشياطين جنباً إلى جنب، وبلا أي مؤثرات أو إشارات واضحة يمكنك أن تجد الشيطان في مظهر رجل أبيض يحث الجميع على إيجاد حل للسلام، ويدعو أي مقاومة للتنازل عن حقها في الدفاع عن نفسها مقابل إيجاد حل، وما إن يحدث ذلك فإن اليد الطاغية التي سفكت دماء بلا وجه حق سابقاً يمكنها أن تسفكه مرة أخرى؛ لأن التاريخ على حد تعبير كارل ماركس يعيد نفسه مرتين في المرة الأولى كمأساة وفي المرة الثانية كمهزلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.