هناك أسطورة تحكي عن سيدة اسمها "غوديفا"، عاشت في أواخر القرن الـ11، وكانت متزوجة من أمير مقاطعة كوفنتري في بريطانيا، واسمه "ليوفرك إيرل لميرسا".
قامت تلك السيدة التي كانت محبوبة من قبل الشعب بالتوسط لدى زوجها الأمير؛ ليخفف الضرائب عن كاهل الناس، ولكن الأمير لم يستجب لها، وتحت إلحاح منها عقد معها اتفاقاً رآه مستحيل التنفيذ.
اتفق الأمير مع "غوديفا" على أنه سيخفف الضرائب عن الناس في حال خرجت عارية تماماً، وجابت شوارع المقاطعة، فوافقت السيدة، وركبت حصانها عارية تماماً، وبشعرها الطويل غطت ما يمكن تغطيته من جسدها، وفي المقابل ما إن سمع الشعب بذلك الشرط حتى دخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ونوافذهم حتى لا يروا سيدتهم التي ضحت من أجلهم عارية.
وما إن رجعت السيدة "غوديفا" إلى القصر حتى طالبت زوجها بالوفاء بوعده بتخفيف الضرائب عن المواطنين، وهو ما حصل فعلاً!
كان هذا في العصور الوسطى ما قبل الثورة الصناعية، حيث الظلم والسلطة المتجبرة على الناس بحكم الشكل الاقتصادي الإقطاعي آنذاك، الذي يعتبر الناس عبيداً لدى سيد ومالك الأرض!
ولكن مع الثورة الصناعية في أواخر القرن الـ18 تغير كل شيء، وأصبح النظام الإقطاعي يتلاشى تدريجياً حتى انتهى، وانتهت معه بعض أشكال الظلم الاجتماعي، وظهرت أفكار وفلسفات جديدة تبشر الناس بعهد جديد من المساواة والعدالة الاجتماعية، ولكن كانت هناك عوارض اجتماعية بدأت تظهر مع استبدال العمال بالآلات، فبعد أن كانت المصانع والحقول تحتاج لعمالة كثيفة أصبح الاستغناء عن العمالة شكلاً معتاداً مع التقدم التكنولوجي.
وهذا ما جعل الكاتب المسرحي الأمريكي "إلمر رايس" يكتب نصاً مسرحياً في بدايات القرن العشرين، سماه "آلة الجمع" أو "الآلة الحاسبة"، وفيه يرصد علاقة الإنسان بالآلة التي أصبحت تزاحمه في قوت يومه وتسيطر على حياته، من خلال شخوص المسرحية، الذين أعطاهم أسماء رقمية بدلاً من أسمائهم البشرية، مثل: "مستر صفر"، و "مستر واحد".. وهكذا.
ومن خلال المسرحية يظهر "مستر صفر"، كاتب الحسابات، الذي تحمل ضغوط المجتمع الصناعي الجديد وهو يمضي ساعات طويلة في العمل يجمع ويطرح بطريقة روتينية بحتة.
يعيش "مستر صفر" حياة روتينية في بيته وفي الشارع، وفى مجتمع ينظر إليه على أنه مهمش لا قيمة له، وتمر الأيام والسنوات حتى يقرر مديره في العمل أن يستغني عنه ويستبدله بآلة حاسبة، هنا ثار "مستر صفر"، الذي تحمل معيشة صفرية في أدنى السلم الاجتماعي من أجل أن يعيش ويحصل على وظيفة يحصد بها قوت يومه، وقام بقتل ذلك المدير، في رمزية الثورة ضد التهميش والظلم الاجتماعي، لكنه لم يعِ مدى قدرته على تغيير الواقع؛ بسبب واقعه الصفري منعدم القدرة على التغيير، لهذا أماته الكاتب في المسرحية وجعله في العالم الآخر شخصاً آخر يستطيع أن يختار بين أشياء متعددة.
ثورة المواطن صفر
مع اشتداد سطوة الرأسمالية وتحالفها مع السلطوية، وتحولها إلى وحش كاسر، ودخول العالم إلى زمن الآلة والذكاء الاصطناعي، زادت أعداد المواطن "مستر صفر"، وأصبحت المجتمعات مهددة من قبل سيطرة الرأسمالية وربيبتها الآلة، تهديداً من ثورة "مستر صفر" الذي أصبح مجرد رقم في مجتمع أصبح مجرد رقم هو الآخر على لائحة الرأسمالية العالمية، ثورة لا تعرف أي معنى، غير أنه يريد أن يتخلص من مجتمع كئيب تسيطر عليه المادة، ولا يعرف العواطف ولا القيم الإنسانية.
وأصبح حلم "مستر صفر" الذي يشعر بدونية وضعه الاجتماعي نتيجة رأسمالية مجتمع تحول إلى نسخة حديثة من مجتمع القرون الوسطى الإقطاعي، أن تعود السيدة "غوديفا" إلى الحياة مرة أخرى؛ لتتعرى للمرة الثانية كشرط لرفع الضغوط والممارسات غير الآدمية للمجتمع الرأسمالي على الغالبية من المجتمع، الذي ينحدر نحو الصفرية بسرعة شديدة؛ منذراً بعواقب لا تحمد عقباها، أو أن يعتاد الناس الصفرية كما اعتادها رعايا القرون الوسطى.
فهل يستطيع المواطن والمجتمع التخلص من صفريته أمام سطوة الآلة في زمن الرأسمالية المتوحشة، التي حولت العالم والمجتمعات إلى ما يشبه إقطاعيات القرون الوسطى؛ حيث الأغنياء خلف الأسوار بأسمائهم وكنياتهم، وبقية المجتمع مجرد أصفار تنتظر أن تعبر الأسوار؛ لتحصل على أسماء وحرية اختيار؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.