في صباح يوم الأربعاء الحادي عشر من أيار/مايو 2022 الماضي، استشهدت مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة عندما أطلق عليها جنود الاحتلال الإسرائيلي الرصاص الحي أثناء تأديتها عملها الصحفي وتغطيتها لاقتحام الاحتلال مدينة جنين بالضفة الغربية المحتلة، في جريمة اغتيال دالة وكاشفة عن ممارسات الكيان الصهيوني الذي لا يتورع عن القيام بأي فعل في سبيل طمس الحقيقة، والدفاع عن وجوده.
أحدثت فاجعة اغتيال الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة صدمة كبيرة وحزناً عميقاً لدى الفلسطينيين والشعوب العربية والعالم أجمع، ومن ثم بدأ الإجماع الدولي على استنكار الجريمة وإدانة الاحتلال والتضامن مع ما يحدث للفلسطينيين.
ومع حالة التضامن والتعاطف الواسعة، ظهرت موجة من الجدل تابعها الجميع بعد معرفة ديانة الشهيدة، وبالطبع فإن هذا الجدل كان بعيداً عنه الفلسطينيون الذي يعيشون القضية ويعرفون أن رصاص الاحتلال لا يفرق بين مسلم ومسيحي، وأن استمرار النضال والانشغال بمواجهة الاحتلال على المستوى السياسي والوطني هو ما يهم.
وربما لا يعلم الكثير ممن انساقوا وراء هذا الجدل والنقاش العقيم وغير المُبرر، أنهم بقصد أو بغير قصد منهم، كانوا يخدمون هدف الاحتلال في تفريق الشعب الفلسطيني دينياً وسياسياً مثلما نجح في تفريقه جغرافياً، من أجل إضعافه وإخضاعه.
ولا يمكن أن نستبعد احتمالية أن الاحتلال كان وراء هذه الحملة لما يمتلكه من أذرع إعلامية ودعائية وسيطرة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي التي يسهل فيها إشعال الجدل والخلافات.
ويسعى الكيان الصهيوني منذ نشأته إلى القضاء على الهوية الفلسطينية، وتصوير أن الصراع ليس صراع هوية وأرض، بل صراع ديني ضد المسلمين، ومن أجل أن تنتصر السردية التي طالما روج لها الاحتلال منذ بداياته.
دور تاريخي
للمسيحيين في فلسطين دور محوري وهام في مسيرة المقاومة والنضال ضد الاحتلال الصهيوني، كما أنهم جزء لا يتجزأ من النضال الفلسطيني الذي بدأ مع الهجرة الجماعية للعصابات الصهيونية، واستمر عبر تاريخ طويل من القتل والتشريد والتهجير والتنكيل. وبرز منهم أسماء لامعة محفورة في الوجدان الفلسطيني، وأهمهم: "جورج حبش، وإدوارد سعيد، ونايف حواتمة، وكمال ناصر، وحنان عشراوي، ووديع حداد، وإميل الغوري، وكريم خلف، وناجي علوش، وروز ماري، وخليل السكاكيني، وميليا السكاكيني، وغيرهم الكثير.
وهو الدور الذي تنبهت له الحركة الصهيونية منذ قيامها، فعملت على إفراغ الأرض من المسيحيين، من خلال تبني سياسات تقوم على التهجير القسري، كما حدث عامي 1948، و1967، أو عبر انتهاج سياسات تقوم على حرمانهم من حقهم في العيش والمواطنة، ارتكازاً على قوانين عنصرية وتمييزية، ومن أجل المساهمة في هجرتهم خارج الوطن.
وتعتبر الكنيسة المسيحية في فلسطين أحد أعمدة النضال الوطني ضد الاحتلال، وشكلت منذ البداية عقبة أمام ممارسات الاحتلال، وقد شهدت مدينة نابلس من قبل اغتيال القديس الشهيد "فيلومينوس" داخل كنيسة بئر يعقوب في نابلس بسبب موقفه الرافض، وتصديه لإقامة بؤرة استيطانية في المدينة.
وفي عام 2009 قامت مجموعة "كايروس فلسطين" والتي تتكون من مجموعة من الشخصيات المسيحية العامة من قيادات الكنائس والمؤسسات المسيحية في فلسطين، بتوقيع وثيقة حملت عنوان "لحظة الحقيقة"، وكان الهدف الرئيسي لهذه المجموعة هو تقديم رؤية مسيحية لقضية الشعب الفلسطيني، تطالب فيها المجتمع الدولي، ومعهم جميع المسيحيون في العالم باتخاذ موقف تجاه ما يواجهه الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الفلسطيني منذ أكثر من سبعة عقود، وتطالب جميع الكنائس والمسيحيين في العالم بمقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات اقتصادية عليها وسحب الاستثمارات منها، لإلغاء القوانين العنصرية المتخذة من قبلها بهدف التمييز ضد الفلسطينيين.
كما كان للكنيسة الفلسطينية دور تاريخي في مسيرة التنمية والتعليم والبناء، ونجد أنها لعبت دوراً مهماً في تأسيس العديد من المؤسسات التعليمية والأكاديمية، بدايةً من إنشاء المدارس التابعة للكنيسة في فلسطين التي تعود بدايتها إلى منتصف القرن التاسع عشر، والتي كانت تخدم كل المجتمع الفلسطيني مسلمين ومسيحيين، وفي القرى مثلما كانت في المدن، إذ إن جامعة بيرزيت، التي تعد أهم الجامعات في فلسطين تأسست على يد عائلة ناصر التي تشتهر كواحدة من أشهر العائلات الفلسطينية المسيحية، وكذلك جامعة بيت لحم التي تأسست بدعم من الكنيسة الكاثوليكية.
وتعتبر الكنيسة الفلسطينية إحدى ركائز الاقتصاد الفلسطيني ودعائمه الأساسية، وأظهرت الدراسات أن المؤسسات المسيحية هي ثالث أكبر مشغل للشعب الفلسطيني بعد السلطة الوطنية الفلسطينية ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، بالإضافة إلى أن 45% من العمل المؤسساتي في فلسطين هو عمل يعود لمؤسسات مسيحية، تقدم فرص عمل لنحو ما يقارب 22000 عائلة فلسطينية منها 15000 عائلة مسلمة، ويضاف إلى ذلك الخدمات الصحية والإغاثية والخيرية التي تقوم بها الكنيسة باستمرار للمجتمع الفلسطيني.
تناقص مستمر في أعداد المسيحيين
ورغم الدور التاريخي للمسيحيين في فلسطين والذي لا يمكن أن يتجزأ أو ينفصل عن التاريخ الفلسطيني ككل، أو حتى يتم اقتلاعه كما يرغب الاحتلال، إلا أن هناك أزمة حقيقية في تناقص أعدادهم بشكل يدعو إلى القلق.
وتظهر الإحصاءات تراجعاً كبيراً في أعداد المسيحيين الفلسطينيين، ليصل عددهم في عام 2018 إلى ما يقارب 45 ألف شخص، أي أقل من 1% من سكان فلسطين، بعد أن كانوا يشكلون قبل نكبة عام 1948 حوالي 11.2% من السكان، وهذه الأرقام تشير إلى انخفاض وتراجع كبير في أعداد معتنقي المسيحية، والسبب الرئيسي هو الهجرة ويأتي بعدها نقص أعداد المواليد بينهم مقارنة بالمسلمين.
الأغلبية ترغب في الهجرة
قام مركز للأبحاث في فلسطين بإجراء استطلاع للرأي بين المسيحيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بهدف استكشاف الأسباب التي تدفع المسيحيين إلى الهجرة من وطنهم فلسطين إلى دول أخرى، وتشير النتائج بوضوح إلى أن نسبة الرغبة في الهجرة بين المسيحيين الفلسطينيين تفوق بكثير نسبة الرغبة في الهجرة بين المسلمين الفلسطينيين.
وتقول نسبة كبيرة من الراغبين في الهجرة إنهم يريدون التوجه للولايات المتحدة أو كندا وأوروبا، كما تقول النسبة الأكبر إن سبب التفكير في الهجرة اقتصادي، وعن فرص للتعليم أو مكان أكثر أمناً واستقراراً أو أقل فساداً أو أكثر حرية وتسامحاً دينياً، تشكو الأغلبية من قلة الأمن، ويرى معظمهم أن الاحتلال الإسرائيلي يريد طردهم من وطنهم.
اضطهاد ديني
رغم أن فلسطين هي موطن المسيح عيسى والسيدة مريم العذراء وتعتبر مهد الديانة المسيحية إلا أن الاحتلال الإسرائيلي يمارس سياسات الاضطهاد الديني ضد المسيحيين الفلسطينيين منذ عام النكبة 1948، وتقع المعالم الأثرية وكنائس وأديرة المسيحيين الفلسطينيين تحت دائرة بطش الإسرائيليين ونيرانهم التي نشبت في عديد منها، وقد تم من قبل مصادرة منازل 50% من مسيحيي القدس عام 1948. ثم صادر الاحتلال بعد ذلك 30% من الأراضي التي يملكها مسيحيون بعد الاحتلال عام 1967.
وتتمثل ممارسات الاحتلال الحالية ضد المسيحيين في إغلاق بوابات القدس والمضايقات على دخول المسيحيين والسياح القادمين للحج إلى البلدة القديمة وكنيسة القيامة، خصوصاً في يوم سبت النور والاحتفالات في عيد الفصح، بالإضافة إلى منع فلسطينيي الضفة والقطاع من دخول القدس لأداء الطقوس الدينية إلا بتصاريح، وقد لا يحصل جميعهم عليها بدواعٍ أمنية، وبالطبع فإن هذا يؤثر بشكل سلبي في أعداد المسيحيين وعلاقتهم بمقدساتهم.
كما يعمل الاحتلال من خلال سياسته على تهويد القدس لما تحمله من معانٍ سياسية بعد أن أعلنها عاصمة للكيان الصهيوني، ومن أجل خدمة الهدف نفسه في وضع حد للوجود الفلسطيني بما فيه الفلسطيني المسيحي في الأراضي المقدسة بشكل عام وفي القدس المحتلة بشكل خاص.
أسباب اقتصادية وسياسية
تفرض السلطات الإسرائيلية قيوداً على المسيحيين داخل فلسطين، ومنها وعدم القدرة على التنقل سوى في مساحة محدودة سواء داخل الضفة الغربية أو قطاع غزة، إضافة إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يجبر عدداً كبيراً من المسيحيين، بالأخص من هم في مرحلة الشباب على الهجرة والبحث عن فرص عمل أو دراسة خارج فلسطين.
بالإضافة إلى أن هجرة المسيحيين تتعلق بوجود أعداد ضخمة ممن هاجروا للخارج في السابق وبوجود اعتقادات بأن هؤلاء سيساعدونهم عند الهجرة، وتشير تقديرات إلى أن أعداد الفلسطينيين المسيحيين المقيمين في الخارج يصل إلى مليونين و300 ألف شخص، ونسبة كبيرة من أعداد المسيحيين الراغبين في الهجرة، ترى أن قوانين الهجرة في دول اللجوء تميز لصالح المسيحيين، وتستهدفهم بشكل خاص، وبسبب التضييق الذي يفرضه الاحتلال والظروف المعيشية الصعبة داخل فلسطين، تجد نسبة كبيرة من المسيحيين الفلسطينيين أنفسهم مدفوعين إلى الهجرة للخارج.
الأدب كأداة للتأريخ والتوثيق
تحت عنوان "ثلاثية الأجراس"، صدر للروائي إبراهيم نصر الله ثلاثة أعمال روائية: "ظلال المفاتيح"، و"سيرة عين" و"دبابة تحت شجرة عيد الميلاد"، وربما يقصد بمسمى الأجراس أنها رمز لأجراس الكنائس، أو أنها أجراس مفاتيح البيوت التي تركها أصحابها قسراً، ويسلط فيها نصر الله الضوء على التحولات الكبرى التي شهدتها فلسطين، ومعاناة الفلسطينيين خلال القرن العشرين، ويبرز الدور النضالي للمسيحيين الفلسطينيين، ويقول نصر الله في التعريف بثلاثيته: "تدور الروايات حول الحياة المدينية وجمالياتها في فلسطين، وحضارية شعبنا الفلسطيني، والدور المسيحي النضالي والثقافي في بيت لحم والقدس، وبيت ساحور بشكل خاص، ودورها في عصيانها المدني الكبير في تاريخنا الفلسطيني".
وفي رواية "سيرة عين" نقرأ حكاية لأشخاص وأحداث حقيقية، وسيرة فتاة مسيحية فلسطينية "كريمة عبود"، التي تُعد رائدة التصوير الفوتوغرافي في فلسطين والعالم العربي، ويمكن اعتبارها أول امرأة تعمل في هذا المجال الذي كان حكراً على الرجال، وكانت ابنة للقس سعيد عبود راعي الكنيسة الإنجيلية في بيت لحم، تنتمي لعائلة مسيحية معروفة في بيت لحم، وقد كرّست نفسها لتصوير وتوثيق مظاهر الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، بعد أن اكتشفت أن الصحف اليهودية في الخارج تنشر صوراً للمدن الفلسطينية وأهم الآثار والمنازل والكنائس، وتدعي أن البيوت تعود لليهود الذين هاجروا إلى فلسطين واستطاعوا بناءها لتكون جاهزة لاستقبال المهاجرين، ونجحت في صنع تاريخ بصري وأرشيف يوثق ويثبت هوية الشعب الفلسطيني.
ويصيغ نصر الله على لسان إحدى شخصيات روايته سؤالاً دالاً على الارتباط الوثيق بين الدين والوطن، عندما يسأل الأب مانويل الخوري الإيطالي: "كيف يمكن لمسيحي أن يحب دينه ولا يحب فلسطين؟ الدفاع عن فلسطين هو جزء من الدفاع عن يسوع".
وفي رواية "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد" الجزء الثالث والأخير من ثلاثيته، يتأمل القارئ حال فلسطين على مدى 75 عاماً، بدءاً من الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الانتفاضة الفلسطينية الأولى، متتبعاً ما عاشته فلسطين من تحولات، وهي رواية أجيال، حيث تدور أحداثها في مُدن بيت ساحور وبيت لحم والقدس، وغيرها من المدن الفلسطينية، وتتناول الدور المسيحي في النضال الفلسطيني، وذلك الإنجاز الكبير الذي حققته العائلات المسيحية في مدينة بيت ساحور عبر عصيانها المدني خلال الانتفاضة الأولى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.