لا يمكننا إنكار حجم التأثير الذي تلعبه التكنولوجيا والبيانات والتقنيات الرقمية في حياتنا، ولا يختلف اثنان على أن نتفليكس مثال للشبكة الناجحة، التي انتشرت وبدأت من نقطة الصفر لتصبح واحدة من أكبر الشبكات في العالم.
بدأت نتفليكس في سنة 1997 متخصصة في خدمات توصيل الأفلام في أمريكا، وبعدها الأقراص المدمجة، عبر البريد، وكان منافسها الوحيد في هذا المجال شركة بلوكبوستر الشهيرة، وفي سنة 2003 اتسعت خدمات الشركة مع توفّر مشغّلات الأقراص في المنازل. في سنة 2010، تضاعفت خدمات وأعداد المشتركين والأرباح، مع دخول نتفليكس عالم عرض الأفلام على الإنترنت.
وبحلول عام 2016، أصبحت الشبكة تغطّي ما يقارب 200 دولة عالمياً، بعد أن كانت حصراً في أمريكا وكندا. الجدير بالذكر أنه في سنة 2013 تحولت شركة نتفليكس من منصّة لعرض الأفلام إلى شركة لإصدار وصناعة الأفلام وتوزيعها، وأصبحت تُنافس شركات كبرى في صناعة الأفلام وفي جوائز الأوسكار وغيرها.
لا يمكننا تجاهل تأثير وانتشار شبكة نتفليكس على العالم، وأنها أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من أثاث البيت الحديث كما نعهده اليوم، وسهولة تنقّلها معنا حيثما توفّر الإنترنت على هواتفنا، ولهذا السبب بالذات يجب علينا دراسة مدى تأثيرها النفسي والثقافي والسياسي والاجتماعي على حياتنا بالمجمل، وبالأخص على أولادنا والجيل القادم، جيل المستقبل، بالتحديد. قوة نتفليكس تكمن في خطتها الحالية لإنتاج تسعين فيلماً سنوياً، ومستعدة لتمويل أفلام الإنتاجات الكبرى بميزانيات تصل إلى مئتي مليون دولار للفيلم الواحد منها. في المقابل فإن أي شركة في هوليوود لا تنتج سنوياً أكثر من ثلاثين فيلماً، وفي هذا إشارة إلى أنها قد تصبح أقوى وأهم من هوليوود برمتها في التأثير بالرأي العام العالمي.
نظريّتي تقول الآتي: الاعتدال والحكمة ضروريان جداً في استخدام نتفليكس، كما أنه وبالرغم من جودة التكنولوجيا المستخدمة في نتفليكس، وبالرغم من شيوع بخس السعر، والذي يمنح جميع طبقات المجتمع التمكّن من حضور الكثير من الأفلام والمسلسلات والأفلام الوثائقية والكوميديا، وبالرغم من مرونتها في سياسات الاشتراك وفصل الخدمة، فإن شبكة نتفليكس في جوهرها إمبريالية، وصاحبة أجندات صهيونية وأمريكية، وشبكة رأسمالية، وخطرها يفوق العادي. نتفليكس لم تعد شبكة تقدّم خدمة أفلام ومسلسلات فقط، نتفليكس أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من ثقافة المجتمع كاملاً. إذا سألت أحدهم اليوم "ما هو مخططك لنهاية الأسبوع؟" أو ما سوف يفعله يوم الإجازة، غالباً ما سيكون الجواب باللغة الإنجليزية: "نتفليكس آند تشل!"، بمعنى أنه سيشاهد نتفليكس ويجلس مرتاحاً طوال اليوم أمام شاشتها.
"تشل" (بمعنى الراحة والاسترخاء بالإنجليزية) تصبح شلل.
لن أتكلّم ها هنا بالتفصيل عن الأضرار الصحية (اقرأ عن أضرار التكنولوجيا على الصحة) والبيئة، (علماً أن الصور المتحركة في الأفلام تتطلب نقل بيانات وكهرباء يتم توليدها عن طريق حرق الوقود الذي يتسبب في توليد ثاني أكسيد الكربون بكميات هائلة)، إلا أن الأضرار الثقافية والاجتماعية والنفسية والفكرية التي تسبّبها هذه العادة لمشتركي نتفليكس، وخاصة أن الشركة تتبنى نظاماً أمريكياً مشابهاً لثقافة الأكل السريع، وغياب دور المتلقّي في التحكّم حتى ولو في تغيير أو تبديل الحلقة أو الفيلم، فالبرنامج يقوم بكل شيء، وما عليك أنت كمتلقٍّ سوى الجلوس كجثّة هامدة والاستقبال. في هذا خطورة كبيرة، وخاصة إذا كان المحتوى يشبه مسلسل "الأصدقاء" مثلاً.
يتصدّر مسلسل "الأصدقاء" الكوميدي الأمريكي قوائم أكثر البرامج مشاهدة في الشرق الأوسط على مدى السنوات العشر الأخيرة.
أهمية هذا المسلسل كأداة لقياس ثقافة الشعب لا يمكن الاستهانة بها، والمؤشرات كثيرة، منها ما صدر مؤخراً عن إمكانية خسارة نتفليكس الملايين والآلاف من عائداتها الاقتصادية ومشاهديها، في حال فشلها في تجديد العقد الذي يخوّلها امتلاك حقوق بث المسلسل.
المسلسل هو من مسلسلاتي المفضلة، ولكن تكراره دائماً وأبداً في كل حين، أثناء الأكل، أو حتى أثناء ترتيب المنزل أو النوم يعني أنه أصبح دخيلاً، ويتم تشغيله دون أن تحضر حلقاته غالباً؛ لأنك تحفظ السيناريو والأحداث، ما يعني أنّك مُنوَّم مغناطيسياً وثقافياً، ومُسيَّر من جهات خارجية، تريد أن يصبح شغلك الشاغل تقليدها بلا وعي، وأن يصبح هذا المسلسل وغيره مثالاً للحياة التي يجب أن تعيشها، وأن تكون محاطاً بها، لا سيما أن معظم حبكات هذا المسلسل تقوم على العلاقات الجنسية بين الأصدقاء، ومَن يمارس الجنس مع مَن، ومَن يخون الآخر، ومَن سيتزوّج مَن، ومَن سيكون أول المتزوجين، ومَن سيكون آخرهم وما إلى ذلك، والترويج إلى أن العمل والأصدقاء والزواج والعلاقات الجنسية هي فقط أساسيات هذه الحياة التي نعيشها.
هنا أسأل السؤال التالي: ماذا ستكون مخرجات جيل كامل يتربّى على سرد قصصي كهذا وعادة كهذه؟ وأقترح ها هنا فرضية أدعوك فيها إلى أن تتخيل ماذا كانت ستكون البدائل لو لم يكن هذا المسلسل أكثر البرامج مشاهدة على الإطلاق في العالم العربي على مثل هذه القناة؟ لا أقترح قراءة الكتب أو اللجوء إلى الطبيعة كبدائل، بل أدعوك ببساطة إلى التركيز على الوقت المبذول في عادة كهذه لدى جيلنا الصاعد، وتأثيره على طريقة تفكيرهم وأسلوب حياتهم.
شبكة نتفليكس شبكة ذكيّة، وقد دخلت أكبر الأسواق العالمية وهي السوق العربية، واستغلّت عولمة أمريكا لدول العالم الثالث، وانشغال أبنائها وبناتها بكل شيء إلا ما يهم البلاد العربية، وقامت بتخصيص فئة للسينما اللبنانية والمصرية والمسرحيات وما إلى ذلك لتقول: ها أنا ذا لم أنسَكُمْ، خطر نتفليكس يكمن في أنها ليست شركة تهدف إلى الربح المادي فقط، من خلال وُلوجها إلى كل بقاع العالم وكل بيت من بيوته، بل إن خطرها يكمن في أن لها برنامجاً سياسياً يهدف إلى برمجة العقول ثقافياً وفكرياً، وإن كان بشكل غير مباشر. أنا لست من أولئك الذين يولون ما يُسمى بـ"نظريات المؤامرة" فكراً كثيراً، إلا أن تتابُع نفس النمط في البرامج والأفلام التي تتبنّاها وتنتجها وتشرف عليها نتفليكس يدعوك إلى التشكيك في مصداقيتها وفي الأجندات التي تتبعها هذه الشركة.
ألغيتُ اشتراكي في منصّة نتفليكس من فترة وجيزة، فقد كنت كما كان معظمنا من روّادها، إلى أن حضرت مسلسل "فوضى" و"إل تشابو" و"ما وراء الطبيعة" و"الجاسوس" و"الملاك" و"طهران"، وبعض الأفلام والمسلسلات الأمريكية والأجنبية، أثناء فترة الحجر الصحي، فظهر النمط السياسي والثقافي شيئاً فشيئاً. من هذه الأنماط أن الأمريكي هو المنقذ دائماً، وأن البيت الأبيض هو بيت الله المستهدف دائماً لغايات غير مشروعة، وأن الأمريكي يدعو إلى محاربة الفساد، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، وأن العربي وضيع إرهابي، وأن الإسرائيلي صاحب حق، وأن للموساد قدرات وبطش مخيفين، وأن إسرائيل وأمريكا قادرتان مثل الغوريلا كنج كونج على تحطيم العالم، واختراق كل الأنظمة، والوصول إليك أينما كنت.
في تصريح للموساد لصحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، يعبّر عملاء سابقون بأن سريّة الموساد أصبحت الآن مكشوفة (من خلال أفلام منصّات مثل نتفليكس)، لاستقطاب عملاء جدد، وهي نفس الآلية التي يتّبعها الإعلام الأمريكي للترويج للتجنيد، من خلال أفلام هوليوود وتوم كروز وغيرهما.
حتى في أفلامهم "غير السياسية" فهي فاضحة. فيلم "365 من الأيام" والذي تصدّر قائمة الأفلام الأكثر مشاهدة في الشرق الأوسط لأسابيع، فإنه يتحدث عن رجل مافيا إيطالي سادي، يحتجز امرأة في قصره، ويروّج للاغتصاب والاعتداء الجنسي واضطهاد المرأة. مسلسل "ثلاثة عشر سبباً (للانتحار)" هو مسلسل يحرّض على الانتحار، ويتناول مشكلات نفسية لمراهقين في المدرسة دون مناقشتها. مسلسل "الشراهة" يبني صوراً نمطية لصورة المرأة، وصورة الجسم المثالي، ومشاكل اضطراب الشهية.
والقائمة تطول وتطول، حتى في الأفلام التي تتفادى مواضيع مثيرة للجدل كهذه، فإن تكرار الموضوعات نفسها مُمل، والتلذذ بالجنس والمخدرات وسرقة البنوك وعمليات الاغتيال لم تعد ممتعة، حتى على المستوى الترفيهي، ناهيك عن الأخلاقي. لست بصدد التحدّث عن الإباحية الجنسية هنا، فالمنطق يقول إن هناك العديد من المنصات الإباحية والبورنوغرافي على شبكة الإنترنت، وفي بحرها، فإن مثل هذه الأفلام والمسلسلات هي نقطة في بحر.
لكن المفارقات تكمن في أن المواقع الإباحية غرضها الرئيسي ليس سياسياً، وإنما جنسي إباحي، بالإضافة إلى أن العديد منها لا يطلب منك مالاً أو عضوية لمشاهدة محتواها. في ظل هذا وذاك، فإن نتفليكس شيطان يأتيك مُجمّلاً على شاكلة حمل، فمشكلتي الرئيسية في المشاهد الإباحية في نتفليكس هي أنها لا تضيف أي قيمة أو بعد فنّي أو استعاري/مجازي، أو حتى درامي في معظمها. فالتطبيع في برامج نتفليكس ليس فقط صهيونياً، وإنما تطبيع للجنس بتكراره لسبب أو دون سبب، فيصبح طبيعياً للعين المجرّدة، وبالتالي يخلو من روحانيّته وجماليته ورومانسيته، وقِس على هذا الكثير من التصرفات الإنسانية.
كان من الأسباب التي ألغيت بسببها اشتراكي في نتفليكس أول مرة العجز المالي. أما بعد يسر المال فلم أستطع الرجوع إلى تلك العادة، فتستوعب أن نتفليكس عادة وليست خدمة، نتفليكس آفة، فهي كالسرطان، وشكل آخر للاستعمار الثقافي، وأداة لتغييب الوعي ونشر التفاهة.
آخر مثال أضربه ها هنا هو مسلسل "ما وراء الطبيعة"، مثله مثل مسلسل "جن" والأفلام والمسلسلات المبنيّة على قصة أشرف مروان، حيث تتبنى نتفليكس مشاريع كهذه لا تمس واقعنا، وتروّج لسياسات غربية من خلالها. مسلسل "ما وراء الطبيعة" يندرج تحت فئة الرعب والعناصر الخارقة للطبيعة.
بالرغم من أن الشخصية الرئيسية هي من أجمل الشخصيات التي عرفتها في السينما المصرية منذ زمن طويل، وخصوصاً مع الأفلام الهابطة التي تخلو من المحتوى الهادف والمبدع مع تفشّي "السبكي" للإنتاج، فإن هذا النوع من السينما والرعب والسوبرناتشورال ليس عربياً، ولا ينفع التجربة العربية والواقعية الغائبة عنها سينمائياً، وبعيدة كل البعد عن الشاشة العربية. يعني مجازاً، لا ينفع أن تشتري لبيتك جرس إنذار والباب مخلوع، وعليه أن يكون لمصر أو للأردن حضور على منصة عالمية كمنصة نتفليكس لا يعني وصول العمل إلى العالمية. فالعالمية في العمل الفني تتمثّل في عالميّة الموضوع المطروح وفكرته وأسلوبه. ومجازاً، إذا عشت في أوروبا مليون سنة، ولكنك ما زلت تبصق في الشارع فهذا لا يجعل منك حضارياً. التقليد لن يخلق هوية، بل سيخلق قشرة، والجوهر فارغ، وهذا ما تقوم به نتفليكس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.