«مجتمع الاحتراق النفسي».. هكذا تسير البشرية نحو الفناء!

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/07 الساعة 08:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/07 الساعة 08:53 بتوقيت غرينتش

يبدأ كاتبنا وفيلسوفنا بيونغ شول هان، بتوضيح أن القرن العشرين كان عصراً فيروسياً، حاول الإنسان فيه اكتساب وسائل مناعية دفاعية تحميه من الفيروسات والآخر بشكل عام. 

ولكن القرن الحالي هو عصر ما بعد المناعة؛ عصر الأمراض العصبية والنفسية، عصر الاكتئاب واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD)، واضطراب الشخصية الحدية (BPD)، ومتلازمة الإرهاق.

وهذه الأمراض ليست ناتجةً عن سلبية رؤيتنا للآخر، بالعكس، فهي ناتجة عن إيجابية رؤيتنا للآخر، والسعي الدائم إلى تلك الإيجابية بنفي ذواتنا وخصوصيتها. 

بينما كان العصر الماضي هو عصر سيادة الأيديولوجيا؛ وساد فيه جانب مناعي دفاعي عن طريق تحييد الآخر، فكل ما هو دخيلٌ يحارب علي نحوٍ مباشر. وتجلَّى ذلك من خلال الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي وحلفائهما، فعندما فقد الاتحاد السوفييتي القدرة على السيطرة على الآخر تفكك داخلياً ثم انهار بعدها. 

ومن هنا تحول الآخر إلى صيغة قابلة للاستهلاك، "يحل المثير محل الغريب، ويتخذه سائحاً، أي يكون المستهلك، درباً له وقد تخلى عن قدراته المناعية". 

أي أننا نعيش عصر ما بعد المناعة، أي فقدنا وسائلنا المناعية أو تم سلبها منا من خلال استراتيجيات النظام القائم. 

فيرى بيونغ شول هان أنه "لا يتوافق النموذج المناعي القديم مع نموذج العولمة ففكرة الغيرية تثير رد فعل يعمل ضد تذويب الحدود، إن العالم المنتظم مناعياً  يمتلك طوبولوجيا معينة لا تنسجم مع طبيعة المجتمع القائم الآن.

حيث يتميز بالحدود والانفعالات والأسوار والخنادق والجدران التي تحول دون التغيير والتبديل الشاملين. إن الارتباك العام الذي اجتاح كافة مجالات الحياة، إضافة إلى غياب الفاعلية المناعية للآخر، يستدعيان بعضهما البعض، فكلاهما سبب للآخر". 

ومن هنا تسقط فكرة الجانب المناعي للفرد ضد الآخر؛ حيث تم تذويب الحدود لصالح فكرة الكونية، وتحويل الإنسان إلى كائن هش، تابع لإيجابية الآخر، وساد عصر إيجابي يبشر بلا محدودية الإنسان. وهذه اللامحدودية من وجهة نظر بيونغ قد أنتجت أشكالاً جديدة من العنف، سماه "العنف العصبي"، ومن هنا على حد وصفه " تسقط كل الدفاعات المناعية، وينفذ العنف العصبي من خلالها، لأنه لا يحمل أي سلبية، فعنف الإيجابية لا يمنع، بل يُشبع، لا يستبعد، بل يستنفد". 

يقارن الكاتب هنا بين رؤية فوكو وتصوره عن المجتمعات التأديبية داخل المستشفيات والسجون والثكنات والمصانع، والنظام الحالي. الذي وصفه "بمجتمع الإنجاز"؛ حيث البشر لم يعودوا "قوالب قابلةً للتشكل" بل "ذواتاً للإنجاز". فكما كان المجتمع التأديبي قائماً على الأداة الشكلية السلبية التي تحكمه وهي "لا"، تحول "مجتمع الإنجاز" إلي مجتمع الإباحة التامة، أصبحت " القدرة غير المحدودة" هي التعبير الشكلي الإيجابي لمجتمع الإنجاز. 

فكما كانت سلبية المجتمع التأديبي وفقاً لفوكو، قادرةً على إنتاج المجانين والمحرومين. ففي المقابل يرى أن مجتمع الإنجاز ينتج مرضى الاكتئاب أو أولئك الخاسرين. 

ويشير فيلسوفنا إلى أنه "يمكنك فعل ذلك" التي تبناها مجتمع الإنجاز، لا تلغي بالضرورة "ينبغي" التي فرضها المجتمع التأديبي. فلا تزال الذات الامتثالية حتى الآن تتصف بالانضباط، وقد وصلت بالمرحلة التأديبية إلى ذروتها. ولأن كلتا المفردتين هدفها زيادة الإنتاج، فلا يوجد فاصل بينهما، فالتناوب بينهما هو الذي يسود. 

يرى أيضاً كاتبنا أن صفة التسارع اللامحدود أفقدت الأفراد القدرة على التأمل العميق، والإصغاء لأنفسهم ولطبيعة المجتمع والأشياء من حولهم. فمن خلال تعدد المهام والإفراط في المثيرات والمعلومات والمحفزات، أصبح "الإدراك الحسي" مجزأً ومشتتاً ومتناثراً. وأن تلك الرؤية للمجتمع الحديث تؤدي به في النهاية إلى الانحدار التام. 

فهنا يتحول إلي مجتمع أشبه بالحياة البرية أو حياة الغابة. 

"حيث تعدد المهام أمر شائع بين الحيوانات البرية، إنها آلية متأصلة في الحياة البرية، حيث تعدد المهام أمرٌ لا غني عنه للبقاء على قيد الحياة، ومن هنا أصبحت الحيوانات غير قادرة على الاستغراق التأملي، فهي كائنات موزعة بين الأكل والتكاثر". يظهر لنا هذا التشابه بين حياة البرية وحياة إنسان مجتمع الإنجاز. فالإنسان الحديث أصبح اهتمامه البقاء على قيد الحياة واستهلاكها حتى الثمالة، بعيداً عن التأمل في ماهيتها وشكلها السطحي الزائف. 

ومن هنا يطل علينا نيتشه واصفاً ذلك النشاط القاتل والمحموم، بأن البشرية ستبلغ نهايتها من خلاله فيقول "عبر القضاء على لحظات الطمأنينة والصفاء تتحول حضارتنا إلي بربرية من نوعٍ جديد، إن الزمن النشط الذي لا يعرف استقراراً، وتغيب عنه لحظات التأمل، يفضي بعالمنا إلي كارثةٍ محققة. وهذا هو السبب في أن أحد أهم الأفعال التصحيحية الضرورية للطبيعة البشرية التي يجب اتخاذها، يتمثل في التعزيز الكبير لعنصر التأمل فيها". فليس هناك مجال لإنهاء هذا المقال إلا بالإصغاء إلي نصيحة نيتشه لعلها تنقذنا ولو قليلاً من هذا الجحيم المستعر المسمى "مجتمع الإنجاز".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصطفى بدوي
باحث في علم الاجتماع والتاريخ
تحميل المزيد