فيلسوف مغربي من طراز عالمي.. لماذا يجب قراءة كتاب “سؤال الأخلاق” للفيلسوف طه عبد الرحمن؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/07 الساعة 11:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/07 الساعة 11:14 بتوقيت غرينتش
المفكر المغربي طه عبدالرحمن / الشبكات الاجتماعية

يعد المفكر المغربي طه عبد الرحمن من المفكرين البارزين الذين قدموا نقداً أخلاقياً للحضارة الغربية القائمة، بل ربما يمكن القول إن لب مشروعه قائم على نقد الأسس المادية التي ارتكزت عليها الحضارة الغربية، ولذلك فقد خص جل كتبه للدفاع عن نقد وإصلاح الحداثة، فكل كتبه تروم مزيد توضيح لهذا الأمر، ولعل أبرز كتاب تناول فيه بالنقد والتحليل أسس الحضارة الغربية القائمة، هو كتابه "سؤال الأخلاق.. مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية"، حيث قدم فيه نقداً مفصلاً للمفاهيم التي عرَّفت بها الحضارة المعاصرة الإنسان، والتي بطبيعة الحال استقت بعض أسسها من الحضارة اليونانية وقبلها الإغريقية، غير أن ما يمز كتابه هذا عن باقي كتبه التي تناول فيها موضوع نقد الحداثة، هو وضعه لأسس أخرى كبديل لتلك التي قامت عليها الحضارة المعاصرة، أو الأسس التي لزمت عنها كما يعبر هو، والتي قد تكون مخالفة لما أعلنته بداية، فكتاب سؤال الأخلاق يتميز عن كتاب روح الحداثة، والذي قدّم فيه وجهة نظره لإصلاحها، بحيث إنه في هذا الكتاب يؤصل لمفهوم بديل للنظرية الأخلاقية الغربية، بتبنيه لنظرية بديلة أسماها النظرية الأخلاقية الإسلامية، وبذلك يكون قد ارتقى بمفهوم الأخلاق من مجرد السلوك إلى مفهوم فلسفي تنظيري، وذلك بغية إقناع من لا يسلمون بأمر ما إلا إذا كان مقدماً باسم العقل، فإذا كان الأمر كما سبق فيكون السؤال الوجيه الذي ينبغي أن يطرح، هو: ما هي أركان ومسلمات هذه النظرية الأخلاقية عند طه عبد الرحمن؟ وهذا ما سأحاول تناوله في هذا البحث، والذي سيشتمل على مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة، أتناول في المبحث الأول الاعتبارات الداعية إلى التفكير في النظرية الأخلاقية اليوم أكثر من أي وقت مضى، ومسلمات النظرية الأخلاقية الإسلامية، وفي المبحث الثاني إبطال مسلمات النظرية الأخلاقية غير الإسلامية، والمبحث الثالث أركان النظرية الأخلاقية الإسلامية.

كتاب سؤال الأخلاق

الاعتبارات الداعية إلى تبني النظرية الأخلاقية الإسلامية ومسلماتها

قبل استعراض الاعتبارات الداعية إلى ضرورة التفكير في النظرية الأخلاقية الإسلامية اليوم قبل أي وقت مضى، كما يوردها طه عبد الرحمن، لا بد من الوقوف ولو قليلاً مع أسس المشروع الإصلاحي الذي تبناه طه، حتى نتبين بجلاء ما يقوله وما يدعو إليه. 

يبني طه عبد الرحمن مشروعاً إصلاحياً قائماً على إصلاح الإنسان، إذ بإصلاحه يمكن إصلاح كل المشاكل التي يعانيها الإنسان اليوم، في جميع المجالات والميادين، ولا يمكن إصلاح هذا الإنسان إلا بإصلاح ما يميزه وهي الروح الكامنة فيه، ولا يمكن إصلاح هذه الروح إلا بإعادة ربطها بالعالم الآخر الذي أتت منه؛ إذ الروح ذات طبيعة غيبية، ولا تنتمي إلى هذا العالم، ولذلك فأول ما يجادل فيه طه عبد الرحمن هو مفهوم الإنسان، ولذلك فهو لا يقبل تعريف الإنسان بأنه الكائن العاقل، بل يقترح بدل ذلك تعريف الإنسان بأنه الكائن المتخلق. 

وثاني الأمور التي يناقشها أيضاً بهذا الصدد، هو أن الأخلاق لا يمكن فصلها عن الدين، فمهما ادعى بعض المفكرين أن الأخلاق يمكن فصلها عن الدين، فإن طه ينكر ذلك ويرى أن الأخلاق لا يمكن فصلها عن الدين، وبذلك يصبح تعريف الإنسان بأنه هو الكائن المتدين، بدل التعريف المعطى له قديماً، وهو الكائن العاقل.

بعدما قام طه عبد الرحمن بالنظر في الحضارة الغربية القائمة، خلص إلى أن هذه الحضارة التي تتبنى مفهوم "اللوغوس" لها وجهان حسب تعبيره، وهما عقلي وقولي، كما أنها ذات شقين، معرفي وتقني، فالوجه الأول لهذه الحضارة، وهو الوجه العقلي يقطع عن الإنسان أسباب الترقي في مراتب الأخلاق، وبذلك فهو وجه ناقص ينبغي تكميله، ولذلك يقترح هو في هذا السياق تقسيماً لمفهوم العقلانية، فهو يرى أن هناك عقلانية مجردة، وعقلانية مسددة، وفي الأخير هناك عقلانية مؤيدة أي بالوحي وهي المطلوبة، والوجه الثاني لحضارة اللوغوس هو الجانب القولي، وهذا الجانب يضيق نطاقها ويجمد حركتها، حيث إنها رجحت القول على الفعل، ويمكن إصلاح هذا الجانب بالدعوة إلى التخلق، لأن هذه الدعوى تقوم على مبادئ توجب على الإنسان إيجاد الفعل الخلقي حيث يجوز وجوده، كما أنها توجب على الإنسان ترسيخ الفعل الخلقي أيضاً، وأما من حيث الشقين اللذين تقوم عليهما، فالشق الأول، وهو الشق المعرفي يخرجها عن الممارسة العلمية، ويخرجها عن التجربة الروحية، والشق التقني يسعى على أن يستحوذ عليها ويستبدل بها غيرها، وبالتالي فهو يصل إلى خلاصة مفادها أن هذه الحضارة هي حضارة ناقصة عقلاً، وظالمة قولاً، ومتأزمة معرفة، ومتسلطة تقنية، وبذلك تكون حاجة المسلم اليوم إلى تأمل الممارسة الأخلاقية الإسلامية أكثر من أي وقت مضى، وذلك لثلاثة اعتبارات:

الاعتبار الأول: وهو أن هذه المفاسد التي أتت بها هذه الحضارة، والمتمثلة في الظلم، النقص، التأزم، والتسلط، هي تمس الإنسان في جوهر وجوده الأخلاقي، ولذلك فهو لا يستطيع الفكاك منها بمجرد إصلاحات طفيفة، أو إصلاحها بتبني مفهوم أخلاق السطح كما يعبر طه، بل لا بد له من الإصلاح الجذري، وهو بناء حضارة جديدة لا يكون السلطان فيها للوغوس كما يقول طه، بل لا بد أن يكون فيها السلطان للإيتوس، وهو الأخلاق.

وأما الاعتبار الثاني: هو أن العالم مقبل على تحول أخلاقي كبير، وأن هذا التحول لا بد أن يفرز مجموعة من المبادئ والقيم الجديدة، والتي تنظم مختلف مناحي حياة الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك فلا يبعد أن يلجأ سادة العالم إلى وضع نظام أخلاقي عالمي جديد، غير أن هذا النظام الأخلاقي سيكون تابعاً للأنظمة العالمية الأخرى، وهي النظام العالمي السياسي والاجتماعي، وهذا التأخير يعني أن مفهوم الأخلاق عندهم تابع، وهذا ما لا يتفق معهم فيه طه عبد الرحمن؛ حيث يرى أن الأخلاق هي الأصل وما عداها تابع لها.

وأما الاعتبار الثالث: فهو ما سماه طه، الفراغ الأخلاقي الإسلامي، حيث كما يرى أنه ليس هناك مساعٍ جادة أو محاولة لتجديد الأخلاق الإسلامية، بطريقة تضاهي طريقة الفلسفات الأخلاقية الغربية، وهذا الغياب حسب ما يرى فإنه لن يزيد المسلمين إلا تضعضعاً وتخلفاً، حيث إنهم بالنظر إلى ما ينطوي عليه الدين الإسلامي من قيم أخلاقية ومعانٍ روحية، لم يبذلوا أي وسع ليقولوا كلمتهم في الأفق الحضاري المنتظر.

كما سبق بيان ذلك في المقدمة، أن طه يرى أن هناك مسلمتين أساسيتين للأخلاق الإسلامية، أولاهما أنه لا إنسان دون أخلاق، حيث إن الأخلاق هي صفة ملازمة للإنسان، والأخلاق هي قيم عليا، يتطلع الإنسان إلى تمثلها، وبذلك يخلص إلى أن هوية الإنسان أساس ذو طبيعة أخلاقية، ثم إن هذه الهوية ليست رتبة واحدة، وإنما هي رتب متعددة، فقد يكون الواحد من الجماعة نفسها أعلى رتبة من غيره.

 والأمر الأخير أن هوية الإنسان متغيرة، فقد يكون الإنسان في إحدى مراحل حياته أكثر إنسانية من المراحل الأخرى.

وأما المسلمة الثانية فهي ملازمة الصفة الدينية للأخلاق، فليس هناك أخلاق دون دين، كما أنه لا ينبغي أن يكون الدين تابعاً للأخلاق، بل العكس هو الذي ينبغي أن يكون، أي إن الأخلاق تابعة للدين، ثم إن الأخلاق قد ترتبط بالدين ارتباطاً مباشراً، وهي التي يكون فيها التأسي بالإنسان النموذجي الذي تلقى الوحي، وإما أن يكون بطريقة غير مباشرة، وهي التي يكون فيها اقتباس الأخلاق من الدين، غير أنه يكون هناك من يعمل على إخراجها من صفتها الدينية، وإكسابها طابعاً آخر غير طابع الدين، وإذا كان الأمر كما سبق فإن طه يصل إلى أنه يمكننا تعريف الإنسان بأنه الكائن الحي المتدين.

إبطال مسلمات النظرية الأخلاقية غير الإسلامية

كتاب سؤال الأخلاق
طه عبد الرحمن

يعتقد طه عبد الرحمن أن هناك موانع معرفية تقف دون إنشاء فلسفة أخلاقية إسلامية، وهي عبارة عن فروق ثلاثة، وهي بمثابة مسلمات للنظريات الأخلاقية غير الإسلامية، ولذلك عمل على إبطالها بغية إنشاء نظرية أخلاقية إسلامية متميزة، هذه الفروق الثلاثة تتجلى في الآتي: الفرق بين العقل والشرع، الفرق بين العقل والقلب، والفرق الثالث هو الفرق بين العقل والحس، وعمل على إبطال كل مسلّمة على حدة، والآن نمضي إلى ما بسطه في هذا الأمر.

الفرق بين العقل والقلب: يرى طه عبد الرحمن أنه يكاد يكون من المسلم به عند الفقهاء أنهم يفرقون بين العقل والنقل، ودليله في ذلك أنه غالباً ما ترد عنهم عبارة: يجوز عقلاً وشرعاً، أو عبارة: يوجبه العقل والشرع، غير أنه لا يسلم لهذا الأمر ويورد عليه اعتراضين، أولهما أن هذه التفرقة لم يستعملها المسلمون إلا بعد دخول بعض العلوم اليونانية، وخاصة بعد إنشاء بيت الحكمة، ويصل بذلك إلى أن هذه التفرقة غير متأصلة في الدين، وإنما هي واردة من التراث اليوناني، حيث كانوا يفرقون بين الإيتوس واللوغوس، وأما الاعتراض الثاني فهو أن هذه التفرقة توقع في الإبهام، حيث إنه لا يعرف ما وجه المقابلة بين الشرع والعقل، فإذا كان الوجه هو من حيث المصدر فإن هذا باطل، حيث إنه يجوز الوجهان، أي أن يكون العقل والشرع كلاهما من مصدر واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، وإذا كان وجه المقابلة هو المضمون، بحيث يكون مضمون العقل إنسانياً محضاً، ومضمون الشرع إلهياً، غير أنه يرى أن هذا باطل؛ حيث إن الإنسان يفهم المضمون الشرعي فهمه للمضمون العقلي، وإذا كان المقصود من المقابلة بينهما هو في الكيفية، حيث تكون كيفية الشرع إلهية خالصة، وكيفية العقل إنسانية خالصة، وهذا أيضاً باطل؛ لأنه يستعملهما معاً، حيث إنه هو المخاطب بهما معاً دون منازع، ولذلك فحسب طه هذا التمييز لا أساس له، ويمكننا القول إن العقل الإنساني إلهي والشرع الإلهي إنساني.

الفرق بين العقل والقلب: يرى طه أيضاً في هذا الأمر أنه إذا استثنينا رجال التصوف، فإن علماء المسلمين كانوا يغلّبون في الحديث استعمال العقل على استعمال القلب، ويرى أن ذلك راجع إلى تأثرهم أيضاً ببعض الفلسفة اليونانية، حيث إنه يغلب فيها هذا التفريق، غير أنه لا يسلم بهذا الأمر، ويورد عليه بعض الاعتراضات، منها أن التفرقة بين العقل والقلب تفضي إلى تشييء القلب، أي إعطائه محلاً في الجسد، بمعنى أنه مكان، غير أن هذا الأمر لم يدل عليه أي شاهد، سواء من القرآن أو السنة، بل على العكس فإن فعل العقل ورد مسنداً إلى القلب؛ ما يفيد أنه ليس محلاً، والأمر الثاني هو أن هذه التفرقة حسب طه أفضت إلى تفقيه الدين، ومعناه أن الدين غلبت عليه الأحكام الفقهية، بينما المقصود هو الأخلاق بالدرجة الأولى، حيث يرى أنه ما من حكم فقهي في الدين إلا وهو ينطوي على بعد أخلاقي، ومن ينتقد نظرية المقاصد والتي غيبت حسب رأيه البعد الأخلاقي في الأحكام، ولم تولِه أهمية، وهي التي ينبغي لها أن تكون أولى من غيرها، وحسب رأيه فإن ذلك جاء من سوء تأويل الحديث الكريم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

الفرق بين العقل والحس: في هذا الأمر أيضاً يرى طه أن هناك سوء فهم، حيث يرى أنها سادت لقرون في مختلف ميادين المعرفة هذه التفرقة، حيث دوماً كان يعلي من شأن الأمور المعقولة، ويحط من الأمور المحسوسة، ولذلك ينبغي طلب الأمور المعقولة وتجنب غيرها، ومن هنا جاءت التفرقة بين النفس والجسد، وبين العالم العلوي والعالم الدنيوي، ويورد على هذا الأمر عدة اعتراضات من ذلك، أن هذه التفرقة لا أصل لها في القرآن أو السنة، وإنما هي من أثر الثقافة اليونانية، بل على العكس يرى أن هناك أفعالاً محسوسة نسب لها العقل مثل السمع والبصر، والاعتراض الثاني هو أن هذه التفرقة أعلت من شأن العقل حتى إنها كادت تؤلهه، حيث إنه كاد البعض يصل بالعقل إلى درجة الروح، وأنه من عالم آخر، غير أن طه يرى أن هذا الأمر لا وجه له، ويرى أن الفعل الحسي مثل الفعل العقلي كلاهما يصدر عن العقل، فحتى الفعل الحسي يحمل أسباباً عقلية، وبنقض هذا الركن أيضاً يكون طه عبد الرحمن قد أكمل نقض كل المسلمات المعرفية التي كانت بمثابة حائل يمنع من قيام نظرية أخلاقية.

أركان النظرية الأخلاقية الإسلامية

قبل عرض أركان النظرية الأخلاقية الإسلامية، عرج طه على طرق ممارسة الأخلاق، وهما طريقان؛ إما طريق الإلزام، حيث تكون فيه الأخلاق عبارة عن الأوامر والنواهي، أو طريق الاعتبار، وهو الذي يستنبط فيه الإنسان جملة من الأخلاق يراها مناسبة له، وهذا الطريق هو الأنسب حسب طه، وذلك لسببين، أحدهما أن الإنسان المنتظر مشبع بقيم الحرية، وبالتالي فلا شيء أثقل على نفسه من أن يلزمه أحد بأمر معين، والأمر الثاني هو أن أفعال الإنسان ليست عبارة عن أحداث متفرقة، كل حدث منها يستلزم أوامر ونواهي، وإنما هي عبارة عن أحداث متسلسلة وكأنها قصة، ومن هنا كانت الأخلاق في القرآن مبثوثة في القصص، كما أن القرآن ذكر أحسن القصص، والآن لنعرج على الركن الأول.

الركن الأول: الميثاق الأول والأخلاق الكونية: يقتبس طه الركن الأول من أخلاق النظرية الإسلامية من حدث وقع في زمن ولى، حيث كان هناك ما يشبه اتفاقاً بين الإنسان والله، بحيث يلتزم الإنسان على أن يشهد أن الله هو وحده، كما يرى طه أن هذا الحدث يشير أيضاً إلى مسألة الجمع بين العقل والشرع، وأنه لا فرق بينهما، ولذلك فإنه يرى أنه من خصائص هذه الأخلاق أنها مؤسسة العقل يهتدي ويسترشد بها، إذ إن مصدرها غيبي، كما أن الخاصية الثانية لهذه الأخلاق هي أنها كونية، حيث إنها لا تخص طائفة أو فرقة بعينها، بل تخص كل من شهد ذلك المشهد، وقد شهده كل الخلق حسب الآية الكريمة، التي تقول: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى". كما أن الخاصية الثالثة لهذه الأخلاق هي أنها تشمل جميع أفعال الإنسان، ولا تخص جانباً معيناً منها دون آخر، وإذا كان الأمر كما سبق، فإن طه يرى أنه يجب على المسلمين أن يقوموا بمهمة التبليغ والتعريف بهذه الأخلاق، وإقناع الآخرين بجد، ومعناها أنها هي ما تؤسس لغيرها، وليس العقل هو الذي يؤسس لها، بلواها وأهميتها، وخصوصاً في هذه الظرفية الحرجة التي تمر منها الحضارة الإنسانية. 

الركن الثاني: شقّ الصدر والأخلاق العمقية: يرى طه أن القلب يرمز في الممارسة الإسلامية إلى ذات كامنة في الإنسان، هي التي تعبّر عن حقيقته وتصدر عنها جميع أفعاله، ولذلك فإنها إذا فسدت فسد الجسد كله، وإذا صلحت صلح الجسد كله، ومن هنا كان لازماً على من يريد أن يصلح أفعاله، أن يريد بإصلاح هذه الذات الخفية، وهذا ما حدث للإنسان النموذجي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أتى إليه قوم وشقوا صدره وطهروه، ورفاقه ينظرون إليه، ولذلك وصف بأنه صاحب الخلق العظيم من القرآن، ويرى طه أن هذه الأخلاق لها خصائص معينة، منها أنها أخلاق تطهير، وهذا ما حدث للإنسان النموذجي، ولذلك فكل من أراد أن يتصف بأخلاق التطهير فعليه التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم. والخاصية الثانية أن هذه الأخلاق هي أخلاق تأهيل، حيث إن هذه العملية كانت من أجل تأهيله لأمر جلل، وهو تلقي الوحي الإلهي، وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو أسمى تجلٍّ لربط العقل بالشرع. والخاصية الثالثة لهذه الأخلاق هي أنها أخلاق تجديد، حيث إن هذه العملية من شأنها أن تورث الإنسان أخلاقاً إذا ما تمسك بها فإنها تنقله من طور إلى طور، وتعطيه هوية جديدة.

تحويل القبلة والأخلاق الحركية: في هذا الركن من أركان النظرية الأخلاقية الإسلامية، يشير طه أيضاً إلى حادثة مهمة وقعت في التاريخ الإسلامي، وهي حادثة تحويل القبلة، ويرى طه أن في هذا الحدث إشارة إلى أخلاق معينة، وهذه الأخلاق لها عدة خصائص أيضاً؛ منها أن هذه الأخلاق هي أخلاق إشارة، حيث يرى أن في التوجه إلى القبلة في الصلاة دلالة عظيمة، كما أن شكل القبلة المكعب له دلالة أيضاً، وفي هذا التحول أيضاً إشارة إلى أن على الإنسان أن يخرج من محسوسية القبلة إلى معقولية التعبد.

 والخاصية الثانية لهذه الأخلاق هي أنها أخلاق انفتاحية، وهذا يفيده اسم القبلة، حيث إنها تفيد معنى الاستقبال والمقابلة، وفي كلتا الحالتين يكون المتوجه خارجاً عن نفسه مقبلاً عليها. والخاصية الثالثة هي أن هذه الأخلاق هي أخلاق اجتماعية، وذلك لأنها مجمع المسلمين المستطيعين في الحج، كما أنها مجمع المسلمين أيضاً؛ حيث يتوجهون لها في كل صلاة، وهذه التربية على الروح الجماعية هي أفضل ما يمكن، حيث إن الإنسان يستحضر هذه الروح في كل صلاة.

خاتمة

كما سبق بيان ذلك، فطه عبد الرحمن حاول أن ينتقل بمفهوم الأخلاق من معناه التربوي فقط، إلى معناه الفلسفي، ولذلك حاول أن يصوغ نظرية أخلاقية إسلامية، انطلاقاً من بعض الوقائع والأحداث في التاريخ الإسلامي، والتي يرى أن لها دلالة أخلاقية وفلسفية عميقة، وليست مجرد أحداث وقعت في التاريخ الإسلامي وكفى، كما أن من بين دوافع طه إلى هذا الأمر محاولة المساهمة في سنن التدافع الذي تعيشه الأمة اليوم، ولذلك لجأ إلى لغة المنطق حتى يستطيع أن يحاور من لا يرى في الحياة إلا العقل وما أنتجه.

المراجع

طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية.

هداري عبد الله، المفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعلمانية.

حيدر العايب، راهنية السؤال الأخلاقي في الفكر العربي المعاصر.. طه عبد الرحمن أنموذجاً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سفيان الغانمي
كاتب رأي مغربي
تحميل المزيد