أعلنت إسرائيل الإثنين الماضي نتائج تحقيقها الرسمي في جريمة اغتيال الإعلامية شيرين أبو عاقلة بمخيم جنين في أيار/مايو الماضي، وكما كان متوقعاً فقد سعت وبتصميم إلى تبرئة نفسها والتهرّب من المسؤولية، وعدم فتح تحقيق جنائي في الجريمة، مع إلقاء التهمة على الضحايا الفلسطينيين ليس فقط في استشهاد شيرين وإنما حتى في وجود جيش الاحتلال نفسه في جنين.
إذن أصدرت إسرائيل نتائج تحقيقها الرسمي بالجريمة التي تضمنت ترجيحاً مع عدم الحسم باستشهاد شيرين على أيدي أحد جنودها، ولكن بالخطأ وبشكل غير متعمد رغم أنها تواجدت في مكان بعيد نسبياً عن منطقة الاشتباك مع ارتداء شارة الصحافة بشكل واضح، ولا يمكن تصوّر أن يتم قتلها بدون تعمد وقصد مع اعتراف الجندي بجريمة القتل منذ اليوم الأول، لكن دون أن يتم المضي قدماً بالتحقيق وملاحقة القضية كما ينبغي.
إسرائيل لم تتحمّل المسؤولية ولم تفتح تحقيقاً جنائياً بالجريمة على أساس أنها وقعت في منطقة الاشتباك. وكانت شيرين تتواجد في المكان الخطأ حيث لم يكن من المفترض أن تتواجد فيه، بالرغم من أن تواجدها هناك في صلب رسالتها المهنية وعملها، وقامت مع زملائها بالتعريف عن أنفسهم كصحفيين وتعمد المرور أمام القوة الإسرائيلية التي اجتاحت المخيم.
نتائج التحقيق الإسرائيلي مع قولها إن الجندي ربما يكون قتل شيرين لكن بالخطأ دون تعمد، غير أنها أصرت كذلك على التمسك بفرضية أو احتمال استشهاد شيرين برصاص المقاتلين والمقاومين الفلسطينيين، وهو احتمال غير معقول يسعى من حيث المبدأ إلى تجريم الضحية أو الضحايا أي شيرين والمقاومين رغم أن تحقيقات ميدانية مهنية موثقة ذات مصداقية استندت إلى معاينة المكان وشهادات الشهود لعديد من المؤسسات والمنابر الإعلامية ومراكز حقوق الإنسان المرموقة مثل قناة سي إن إن وصحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست وشبكة الجزيرة ومركزي حقوق الإنسان "الحق "الفلسطيني وحتى "بيتسيليم" الإسرائيلي أكدت جميعها أن من المستحيل إصابتها أو تعرضها أصلاً لرصاص المقاومين البعيدين جداً عنها.
التحقيق الإسرائيلي لجأ إلى اللعب أو التحايل كذلك بقصة الرصاصة "أداة الجريمة" أولاً باعتبارها جوهر القضية كلها، ثم الادعاء أنها باتت مهترئة وبحالة سيئة ولم تعد صالحة للفحص أو اعتبارها دليلاً ملموساً وجدياً رغم أن التحقيق الفلسطيني الرسمي المدعوم من التحقيقات الأخرى بما فيها تحقيق "الجزيرة" أكد على نوعية الرصاصة المستخدمة من بندقية قنص نصف آلية يستخدمها جيش الاحتلال حصراً.
أما قمة الوقاحة فتبدت في تحميل الضحية الفلسطينية المسؤولية عن قتل شيرين أولاً بالإصرار على فرضية مقتلها برصاص المقاومين، ثم في سبب وجود جيش الاحتلال غير الشرعي في مخيم جنين، وبالتالي امتلاك الشعب الفلسطيني الحق بالمقاومة حيث أشار التحقيق إلى مقتل 19 إسرائيلياً خلال الأشهر الأربعة التي سبقت قتل شيرين 11 منهم بعمليات نفذها فلسطينيون من محافظة جنين دون الإشارة إلى أن الفترة نفسها شهدت استشهاد عشرات المقاومين والمواطنين الفلسطينيين وصل عددهم الآن إلى 173 شهيداً من جنين وحدها خلال العام الجاري 2022، بينما وصل العدد الإجمالي إلى 250 شهيداً فلسطينياً، واعتقال الآلاف معظمهم من جنين أيضاً بما في ذلك الاجتياح الدموي والمتغطرس يوم الإثنين للمخيم بحجة هدم منزل منفذ عملية تل أبيب رعد حازم، وهي عقوبة جماعية غير شرعية وقانونية، ناهيك عن عدم امتلاك الاحتلال حق معاقبة الفلسطينيين أصلاً.
إلى ذلك بدا لافتاً جداً تطابق نتائج التحقيق الإسرائيلي ولو بالخطوط العريضة مع التحقيق الأمريكي الذي خلص إلى نفس المعطيات والخلاصات بترجيح استشهاد شيرين برصاص إسرائيلي، ولكن دون الجزم نهائياً ومع التأكيد دائماً على جزئية عدم التعمّد، وترك الاحتمالات النهائية كلها مفتوحة والتذرّع بقصة الرصاصة وحالتها التي لا تسمح بالتحقيق والجزم باستنتاجات نهائية، ومطالبة إسرائيل بالتحقيق مع نفسها ونشر النتائج النهائية، ورفض القيام بتحقيق أمريكي مستقل ومهني موسّع وشامل بالقضية.
وعليه لم يكن مفاجئاً قبول واشنطن بنتائج التحقيق الإسرائيلي مع مطالبة تل أبيب بتحمل المسؤولية، عبر تعريف غريب ومريب لها يتعلق بتعديل قواعد الاشتباك في المستقبل، وإبداء حذر أكبر تجاه الصحفيين والخسائر في صفوف المدنيين، وهو خطاب إنشائي بحت لذر الرماد في العيون بظل الاستهداف الاسرائيلي المتعمد للمدنيين، كما رأينا في العدوان الأخير ضد غزة وحتى باجتياح جنين نفسها الإثنين الماضي.
وقياساً إلى ما سبق جاء رفض السلطة الفلسطينية والفصائل لنتائج التحقيق الإسرائيلي طبيعياً ومتوقعاً ومطلوباً، لكن غير كافٍ خاصة من قبل السلطة التي يجب عليها أن تمضي قدماً في مساءلة إسرائيل ومحاسبتها على جريمتها، بما في ذلك نقل الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية المعنية بالتحقيق في الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده المختلفة.
رفضت عائلة الشهيدة شيرين أيضاً نتائج التحقيق كما شبكة الجزيرة مع المطالبة بتحقيق دولي في القضية، علماً أن العائلة الثكلى لا تزال متمسكة بمطالبها المحقة بتحقيق أمريكي -باعتبار شيرين مواطنة أمريكية- مستقل شفاف ومهني وذي مصداقية، وهو أمر ترفضه إدارة جو بايدن المتماهية تماماً مع الاحتلال وحكومته الحالية برئاسة يئير لابيد، والحذرة بممارسة الضغط عليها والمنفتحة على تقديم خدمات انتخابية لها بحجة منع عودة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو إلى السلطة بعد الاستحقاق الانتخابي المنتظر أوائل تشرين الثاني/نوفمبر القادم.
يجب الانتباه كذلك إلى التأخير الإسرائيلي المتعمد في نشر نتائج التحقيق، مع تراجع الزخم والاهتمام السياسي والإعلامي الأمريكي والدولي بالقضية، ورغبة تل أبيب في التزلّف أمام واشنطن والمجتمع الدولي مع تقدم المفاوضات حول العودة للاتفاق النووي مع إيران التي ترغب الدولة العبرية في عرقلته بحيث تبدو وكأنها لبت مطالب المجتمع الدولي بالتحقيق في استشهاد شيرين، علماً أنها تحايلت عملياً على ذلك بالمماطلة ثم التلاعب بالنتائج وعدم الجزم النهائي بها.
وعموماً تمثل هدف الدولة العبرية دائماً بالتخلص من القضية وإزاحتها عن جدول الأعمال دون تحمل المسؤولية أو دفع الثمن عبر التحقيق عملياً مع نفسها وتبرئتها، وتحميل المسؤولية للشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال وحتى للشهيدة شيرين نفسها التي تواجدت في المكان الخطأ حسب مضمون التحقيق الإسرائيلي، في تناقض مع شرائع ومواثيق حقوق الإنسان والشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه الأصيل في مقاومة وفضح جرائم الاحتلال وتعريف العالم بها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.