عندما بدأت مهنة الصحافة تشق طريقها بين المجتمعات، كنافذة تُطل منها الجماهير على كل ما يحدث في الشأن العام من حوادث وأخبار، وهي تتقلّب بين نار التجديد والتجريب والثورة على التقليد، فكان الإبداع سِمة كل من ترك في أروقة بلاطها بصمة عبقرية، أو تجربة ناجحة نسج على منوالها طلائع الصحفيين وناشئة الأدب، فكان الأدباء وأصحاب الرأي لهم السبق الأول في رسم ملامح الصحافة في مصر، باعتبارهم رواد الفكر وأصحاب بيان ومعرفة، ولم يكن للشهادات الأكاديمية أي قيمة تُذكر بجوار ما تَكتنز تلك الفئة من ثقافة معرفية ممزوجة بأصالة علمية أثقلتها الغريزة وعززتها الموهبة، وتلك كانت سِمة من سِمات عصرهم، لذلك بدأت الصحافة أدبية في قوالب رأي، قبل أن تتحول بعد ذلك إلى صحافة خبر وغيرها من فنون الصحافة الأخرى، كالتحقيقات والتقارير والحوارات.
لكن يظل الأصل هو المعيار الأول لقياس المواهب والفرق بين رواد الفكر والثقافة وحاملي الشهادات، في أيهما يترك بصمة حقيقية وإضافة مهنية، بعيداً عن التقليدية النمطية التي تشبه المياه الراكدة، لا تتحرك فيصيبها العطب وفشل الصلاحية.
لذلك، فأنا أميل أكثر إلى أصحاب المواهب الصحفية والأقلام النابضة بالحس والموهبة في التأثير على الرأي العام، فليس دور الصحفي أن يُثير الرأي العام، بل دوره أن يصنع رأياً عاماً لفكرة أو مذهب أو اتجاه، وذلك بحاجة إلى قدرات فطرية مركوزة في النفس وقارة في الوجدان ولها جذورها الكامنة في القريحة، يُولد بها الصحفي أكثر مما يكتسبها في ممارسة العمل، ولعلي أذكر حكاية ذكرها الصحفي الراحل سليمان الحكيم، بين الصحفي الكبير مصطفى أمين والصحفي الكبير محمد التابعي، فيقول سليمان الحكيم: كان هذا الموضوع مثار جدل بين التابعي وأمين، فالتابعي يرى أن الصحفي يُولد، أي إن الموهبة الفطرية لازمة وضرورية له ليشق طريقه في بلاط صاحبة الجلالة، بينما كان مصطفى أمين يرى أن التجربة والممارسة أهم للصحفي من الموهبة، ولكي يؤكد التابعي وجهة نظره جاء بشاب كان يعمل بالأسانسير في أخبار اليوم وألحقه بقسم الحوادث في الجريدة ليتولى صحفيوها تدريبه على المهنة، وأسند إليه مهام جلب الأخبار اعتماداً على ما يتلقاه من أقسام الشرطة، ومن ثم إعدادها للنشر بمساعدة بعض ذوي الخبرة في قسم الحوادث، وبمرور الوقت أصبح هذا الصبي عامل الأسانسير من أشهر محرري الحوادث في أشهر الصحف في مصر.
وما هي إلا سنوات قليلة حتى أصبح "عبدالعاطي حامد" من ألمع محرري قسم الحوادث في مصر قبل أن ينتقل إلى قسم التحقيقات؛ ليصبح واحدا من رواد التحقيق الاستقصائي في الصحافة المصرية حين قام بالتنكر في صورة متسول ليدخل عالم التسول كاشفاً أسراره، وتنكر كذلك في صورة ممرض بأحد المستشفيات الحكومية ليكشف سلبيات العمل بتلك الأماكن، وظل يبدع في الصحافة حتى لقي مصرعه في حادث سيارة، وأصيبت زوجته مذيعة التليفزيون "فاطمة الكسباني" بإصابات بليغة، فصحفي بلا موهبة مثل مطرب بلا حنجرة، وصحفي بلا خبرة مثل عازف بلا آلة.
كان بداخل عبد العاطي حامد بذرة الإبداع، وسرعان ما كبرت وأثمرت تميّزاً ونجاحاً، مجرد أن تعهدها أحدهم بسقاء الرعاية وتوفير الفرصة، وكثير من كتاب الأدب ورواد الفكر والحراك الثقافي كانوا بمثابة أعمدة الصحافة في النصف الأول من القرن العشرين، أمثال الرافعي والعقاب وزكي مبارك والمازني، ومن بعدهم كامل الشناوي وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس، كل هؤلاء كانوا مواهب مبدعة لم يعرفهم الناس بشهاداتهم بل بإبداعهم وثرائهم الفكري واللغوي، وإنتاجهم الغزير للأعمال الدرامية والدواوين الشعرية، ما انعكس على أدائهم الصحفي وأضفى له أصالة وتميزاً، وذاك الذي كان يتكئون عليه في بداية ظهورهم، ذهبوا حاملين مواهبهم لا شهاداتهم، للبحث عن فرصة للتعبير عنها في أعمدة الصحف والمجلات، حتى تلقفتهم الأيدي الحانية، فصاروا أساطير مبدعة وقصص نجاح مرموقة.
فلا تدع أي شيء يقف أمام حلمك، إن كنت ترى في نفسك موهبة جديرة بالظهور، فالثقافة ليست مرادفاً للتعليم، وليس كل من تراهم في المجال الصحفي يستحقون هذا اللقب فقد تبدلت المعايير وتقدم للعمل من عقل له ولا فكر، بل هو مجرد مؤدٍّ تقليدي لا يعرف للإبداع طريقاً ولا للابتكار مسلكاً، أعياهم الخواء فلجأوا إلى الاحتيال والتلفيق والأبواب الخلفية، ومنهم من تخرج ولم يفقه أي شيء في المجال، حتى بعد أن تدرب للتأهيل للعمل فشل حتى في صياغة جملة مفيدة.
ومنهم من رفعتهم المحسوبية، فأنا أعرف أحد الأشخاص عضواً في نقابة الصحفيين، لا يعرف كيف تُكتب "سبحان الله" بالسين أم بالصاد، لكنه دخل تزكية من أحد أقاربه الصحفيين النافذين بعد توصيات ومحايلات، وهناك من صنعته الجماعة السياسية؛ ليكون بوقاً لأفكارها وقدموه على أنه شيخ الصحافة وأسطورة الإعلام، وهو لا يتعدى كونه قلماً في أيديهم، يكتبون من خلاله ما يريدون، مقابل الحفاظ على مكانته الوظيفية وتقاضي راتبه، وتصدره المشهد السياسي كمحلل وناشط.
إن الإبداع وليد الاختلاف والاعتيادية لا يخلق عباقرة، والشهادات قد تجلب لك وظيفة، لكنها لن تجلب لك عقلاً وفكراً وقريحة تجود عليك بالأفكار، إن لم يكن بداخلك بذرة الإبداع والاستعداد الفطري للشيء لن يحالفك التميز، قد تنجح بالمعايير السائدة، لكنك بمعايير الأصالة والبَراقة لا شيء، مهما احتلت ونافقت وصادقت، فالتميز والإبداع مطبوع لا مصنوع، ورحم الله الشاعر القروي حين قال:
يا شاري الصيت إن لم تُعطَ موهبة.. من السماء فلن يعطيكها الناسُ
قصر الذكاء على التذييع آخره.. عقم وعاقبة التبذير إفلاس
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.