كتب أحد الأصدقاء على صفحته على فيسبوك قبل أسبوعين منشوراً يتعجب فيه من أن بعض العرب معجبون بهتلر النازي الذي تسبب في قتل ما يقرب من 60 مليون نفس بشرية في فترة لا تتجاوز الـ30 عاماً، على حين أنهم لا يعرفون شيئاً عن كونراد أديناور مؤسس ألمانيا الحديثة.
في الواقع هو محق تماماً فيما كتب؛ لكن اسمحوا لي أن أكمل منشوره بشيءٍ من سياسة أديناور الخارجية في السياق العربي بالتحديد، وهو ما يهمنا هنا أكثر. كونراد أديناور (1876-1967) هو أول مستشار لألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وهو شخصية لها فضل كبير على ألمانيا بوضعها الحالي؛ إذ يرجع إليه الفضل في تحسين علاقات ألمانيا بغرب أوروبا، لا سيما فرنسا والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وقد تطور الاقتصاد الألماني في عهده حتى أُطلق على ألمانيا "المعجزة الإقتصادية". أديناور كان معاصراً لدافيد بن جوريون (1886-1973) مؤسس دولة إسرائيل، ولرئيس مصر الراحل جمال عبد الناصر (1918-1970).
اتفاقية لوكسمبرغ 1952
بعد توليه السلطة حاول أديناور تكوين علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني ما لم يكن ممكناً قبل تعويض اليهود عن ضحاياهم. رفض حزب حيروت بزعامة اليميني مناحم بيغن (1913-1992) الذي سيصبح رئيس وزراء إسرائيل لاحقاً في بادئ الأمر أي علاقات مع ألمانيا ، في حين رحب دافيد بن غوريون بعرض أديناور؛ لأن الكيان الجديد بحاجة إلى أموال كثيرة لإعمار الأرض المغتصبة.
في الأخير عُقدت اتفاقية لوكسمبورغ عام ١٩٥٢ لتعويض اليهود عن ممتلكاتهم وضحاياهم وهو نفس العام الذي وصل فيه جمال عبد الناصر إلى السلطة، وهو الذي سيمثل مصدر إزعاج دائم لأوروبا وأمريكا لمساندته حركات التحرر من الاستعمار في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ولرفضه القاطع لوجود الكيان الصهيوني وسط العرب، وهو الجندي الجريح الذي عاد مهزوماً في حرب فلسطين 1948.
أديناور أهدى إسرائيل أسلحة ودبابات، وهو من دعا لاتفاقية لوكسمبرغ التي قضت بتعويض ألمانيا لليهود الناجين من المحرقة ولدولة إسرائيل بأموال بلغت وقتها إلى اليوم 3,45 مليار مارك (1,22 مليار يورو) ، ما من شأنه أن يعمر دولة بأكملها ويسلحها لاغتصاب أراضٍ ليست من حقها وليس للدفاع عن نفسها كما يتم الزعم دائماً.
ناصر يدعو أولبريشت إلى القاهرة
كانت ألمانيا الغربية تعادي ألمانيا الشرقية الشيوعية المنافحة للسوفييت التي تقف من إسرائيل موقفاً نقدياً وتعتبر نفسها الممثل الوحيد للشعب الألماني فيما عُرف بـ Alleinvertretungsanspruch، وهو ما حدا بناصر إلى دعوة فالتر أولبريشت (1893-1973) رئيس ألمانيا الشرقية DDR إلى القاهرة دعوةً قد تعني الاعتراف به نكايةً في أديناور، الأمر الذي أزعج ألمانيا الغربية -التي كانت على وشك الاعتراف بالدولة اليهودية التي تقتل العرب وتحتل أرضهم- والتي أرسلت لناصر تذكره بأن اعترافه بألمانيا الشرقية من شأنه أن يؤثر على العلاقات بين البلدين، وهو ما يعني، في نظر ألمانيا الغربية، أن دعم بلد يحتل أراضي الغير ويقتلهم بشكل ممنهج دعماً مادياً وعسكرياً أمر يجب قبوله بينما الاعتراف بدولة شرعية، وإن كانت ديكتاتورية، قد يقضي على العلاقات بين البلدين.
التقي سفير ألمانيا في القاهرة ناصر عام 1965 ورجاه أن يراجع نفسه في دعوة أولبريشت، لأنه يعي جيداً تأثير مصر في المنطقة العربية، وأن اعترافها بألمانيا الشرقية سيؤدي حتماً إلى اعتراف بقية الدول العربية بها، فقال له ناصر: توقفوا أولاً عن تمويل الصهاينة بالسلاح الذي يقتلون به الفلسطينيين الأبرياء ثم يمكننا التفاوض حول الاعتراف بألمانيا الشرقية التي يحق لنا كدولة ذات سيادة أن نعترف بها كدولة شرعية وليس دولة تغتصب حقوق الفلسطينيين انطلاقاً من جريمة أجدادك التاريخية.
مصر و12 دولة عربية تقاطع ألمانيا
التقى أديناور برئيس وزراء إسرائيل دافيد بن غوريون لأول مرة عام ١٩٦٠ في نيويورك، وبناء على طلب الرئيس الأمريكي جونسون أرسل أديناور شحنة دبابات إلى إسرائيل عام 1964، أعقبها اعتراف المستشار الثاني لألمانيا الغربية لودفيج إرهارد (1897-1977) بإسرائيل عام 1965.
وعندها قطعت العراق ثم مصر تواً العلاقة بألمانيا الغربية وأعلنها ناصر صراحة أن العرب جميعاً يجب أن يقطعوا علاقتهم بهذه الدولة التي ترسل أسلحة لمن يغتصب أراضيهم، فكانت النتيجة أن قطعت 13 دولة عربية علاقتها ببون، وقد وقع خلاف بين ناصر وملك المغرب آنذاك الحسن الثاني (1929-1999) حين رفض قطع علاقة المغرب بألمانيا واكتفى ومعه تونس وليبيا بسحب سفيره من بون وكان معروفاً عن الدول الثلاث الموالاة للغرب.
انتهت المعركة بقطع المساعدات التنموية عن مصر أولاً ثم قطع العلاقات نهائياً من عام 1965 إلى أن أعادها محمد أنور السادات (1918-1981) عام 1972.
اعتمد الألمان في البداية سياسة توازن بين العرب وإسرائيل ولم يفكروا أولاً في الاعتراف بها لكي لا يخسروا ود الدول العربية، بيد أن ضغط أمريكا وخضوع ألمانيا لها قاد الأخيرة إلى الاعتراف بإسرائيل، ما لم يكن من الممكن أن يمر بسلام في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي. إن يكن أديناور ملهماً لألمانيا، وهو أمر يجب أن نحترمه، فإنه وبسبب عقدة الذنب التاريخي من ناحية والخضوع لأمريكا من ناحية أخرى، وهو أمر نلحظه حالياً في أزمة أوكرانيا، قد أقدم على خطوة أضرت بالمنطقة العربية، لاسيما جيران الكيان الصيهوني. فهل يجب علينا أن نقدر الرجل بإطلاق لأنه قفز ببلاده خطوات عظيمة في وقت قياسي في حين أنَّه أضر البلاد العربية ضرراً واضحاً في الوقت نفسه؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.