الرئيس ليس كل شيء.. كيف تُرسم السياسة الأمريكية الخارجية؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/06 الساعة 09:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/06 الساعة 09:28 بتوقيت غرينتش
الرئيس الأمريكي جو بايدن / رويترز

في ظل تمتع واشنطن بالنفوذ الأكبر عالمياً، وتأثيرها على أحداث كثيرة في مناطق متباعدة، فمن المهم فهم كيفية صنع السياسة الخارجية الأمريكية. ففي الوقت التي تشن فيه طائرات أمريكية غارات على مليشيات موالية لإيران في سوريا، تتفاوض الإدارة الأمريكية بخصوص الملف النووي الإيراني في فيينا. وبينما تشن الطائرات المسيرة الأمريكية غارات في الصومال على عناصر حركة الشباب، يجتمع السفير الأمريكي في ليبيا مع رئيس الوزراء المكلف من البرلمان فتحي باشاغا لحثه على تجنب تصعيد العنف في طرابلس. وبينما تدخل حاملة طائرات أمريكية إلى بحر الصين الجنوبي إثر التوتر الناشب عقب زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان، تواصل واشنطن مد أوكرانيا بالأسلحة المتطورة للتصدي للهجوم الروسي. وبينما تدعو الإدارة الأمريكية لتحسين الوضع الحقوقي في مصر، تواصل تقديم مساعدات سنوية بنحو 1.3 مليار دولار للقاهرة. وبينما تحث واشنطن أنقرة على السماح للسويد وفنلندا بالانضمام إلى الناتو، تواصل في ذات الوقت دعم المليشيات الكردية المناهضة لتركيا في سوريا. فكيف يتمكن صناع القرار في واشنطن من إدارة تلك الملفات المتنوعة والمتناقضة بشكل يلبي المصالح الأمريكية دون أن تخرج الأمور عن مسارها؟ وهو السؤال الذي تتفرع منه أسئلة عديدة؛ مثل السؤال الذي تناولته دراسة نشرها مركز راند بعنوان "تقييم جدوى الالتزامات الأمنية بالخارج"، وأخرى بعنوان "العجز الأمني الأمريكي: التصدي لانعدام التوازن بين الاستراتيجيات والموارد في عالم مضطرب".

الرئيس ليس كل شيء

تمثل السياسة الخارجية الأمريكية وجهة نظر معينة للمصالح الأمريكية في الوقت الذي تُتخذ فيه قرارات محددة. وتُنفذ تلك السياسات بناءً على الزخم الخاص بها والمتجذر في مجموعة واسعة من التحالفات والاتفاقيات الدولية وقيود الموازنة المالية والقرارات التي كان من الممكن اتخاذها قبل شهر أو عام أو عقود. وتساهم مذكرات الساسة الأمريكيين في رسم صورة داخلية واقعية لديناميكية اتخاذ القرار داخل الإدارات المتعاقبة، فواشنطن ليست دولة عسكرية أو ملكية يصنع فيها القرار شخص واحد يقبع على قمة الهرم، إنما تشترك في صناعة القرار جهات متعددة؛ مثل البيت الأبيض ووزارات الخارجية والدفاع ومجتمع الاستخبارات ومراكز الدراسات، وجماعات الضغط، والكونجرس، ولوبيات السلاح والتجارة.

وبالنسبة للكثيرين في الإدارة الأمريكية، بحسب مذكرات "بين رودس" نائب مستشار الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية وكاتب الخطابات الرئاسية خلال فترتي رئاسة أوباما (2008-2016)، فإن نظرة الرئيس للعالم لا تهم المؤسسات الأمريكية بالدرجة الأولى، فلكل مؤسسة مصالحها الخاصة التي لا تتغير مع تغير الرئيس. فالجيش يريد المزيد من حرية العمل، ووزارة الخارجية تريد الحفاظ على العلاقات والترتيبات القائمة مع الدول والجهات الأخرى، ويريد مجتمع الاستخبارات المزيد من القدرات. الكل يريد المزيد من المال والموظفين والمزيد من الدعم من البيت الأبيض. وفي ظل تلك الأجواء عادة ما يضغط الرئيس لتطبيق أجندته من خلال قيادة هذه المؤسسات لكن آراءه لا تعكس بالضرورة آراء الحكومة الأمريكية. 

الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، والحالي جو بايدن - Getty images
الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، والحالي جو بايدن – Getty images

 وفي المحصلة يمثل سلوك السياسة الخارجية مزيجاً من إدارة الظروف التي يرثها الرئيس الأمريكي من الرئيس السابق، والاستجابة للأزمات التي تحدث تحت إشرافه مثلما حدث في إدارة ترامب لأزمة كوفيد 19، وانتهاز الفرص لإطلاق مبادرات جديدة ستترك بصمة على العالم. فعلى سبيل المثال ورث أوباما من جورج بوش الابن ملفي الحرب في العراق وأفغانستان، وبينما كان أوباما معارضاً لحرب العراق؛ حيث خطب في عام 2002 قبيل الغزو الأمريكي قائلاً (أعلم أن غزو العراق بدون مبرر واضح وبدون دعم دولي قوي لن يؤدي إلا إلى تأجيج النيران في الشرق الأوسط، وسيدفع نحو الأسوأ في العالم العربي…. أنا لا أعارض كل الحروب، أنا أعارض الحروب الغبية)، فقد اضطر أوباما لإدارة ملف الحرب بالعراق ثلاث سنوات تعامل خلالها مع مسؤولين في الجيش والاستخبارات يتبنون رؤية مختلفة عنه، فبينما يرى هو أن المشكلة تكمن في خطأ قرار الغزو من البداية في المقام الأول، يرون هم أن المشكلة تكمن في استراتيجية خوض الحرب، وليس الحرب نفسها، ولم يتمكن أوباما من سحب الجيش الأمريكي من العراق سوى في عام 2011، بينما فشل في المقابل طوال 8 سنوات من رئاسته في الوفاء بوعده الانتخابي بإغلاق معتقل غوانتانامو. ورغم الخلافات العميقة بين ترامب وبايدن، فقد ورث بايدن من ترامب اتفاق السلام مع طالبان المعقود في الدوحة عام 2020، وهو الاتفاق الذي في ضوئه سحب بايدن القوات الأمريكية من أفغانستان في عام 2021.

قرار العزوف عن الشرق الأوسط

كثيراً ما لا تصنع واشنطن الأحداث إنما تتأثر بها، فبعد عقدين من الانخراط الأمريكي المكثف في الشرق الأوسط منذ حرب الخليج الثانية عام 1991، وما تضمنه ذلك من حربي العراق وأفغانستان، ومحاولة غير ناجحة لبناء عملية سلام إسرائيلية فلسطينية، وصل صناع القرار في واشنطن إلى أن مشاكل الشرق الأوسط التي تتسبب فيها الأنظمة الاستبدادية والصراعات الطائفية أكبر من قدرة أي قوة خارجية على حلها، وكتب رودس صراحة معقباً على أحداث ما بعد الربيع العربي قائلاً (كانت القوى الرجعية في المنطقة والتي تتمتع بدعم سياسي عميق في الولايات المتحدة عازمة على التمسك بالسلطة. كان بشار الأسد في طريقه للقتال حتى الموت بدعم من رعاته الروس والإيرانيين. وكانت الفصائل تقاتل في شوارع ليبيا. وكان السعوديون والإماراتيون على وشك القضاء على المعارضة السياسية في مصر قبل أن تصل إلى بلادهم. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يتفوه بكلمات عن السلام بينما يبني مستوطنات تجعل السلام مستحيلاً). 

وفي تلك الأجواء، بحسب "رودس"، بدت آسيا وكأنها تمثل المستقبل، وقد ساعد في ذلك رغبة الحكومات الآسيوية في تعميق العلاقات مع أمريكا، ويرجع ذلك جزئياً إلى مخاوفهم بشأن صعود قوة الصين. ومن ثم اعتمد أوباما سياسة جديدة تبتعد عن الشرق الأوسط وتركز على كبح الصعود الصيني، فاستضاف قمة دول المحيط الهادي لمناقشة عقد اتفاقية تجارية مع العديد من الدول للتأكيد على أن الصين ليست هي التي تكتب قواعد التجارة الدولية، كما سافر إلى بالي بإندونيسيا لحضور قمة شرق آسيا، وهي المرة الأولى التي حضر فيها رئيس أمريكي تلك القمة في إشارة إلى زيادة التركيز على المنطقة.

ويخلص رودس إلى أن الإدارات الأمريكية تنتهج سياسات معينة في ظل اعتقادها أن العائد يستحق ذلك حتى لو عانت أحياناً من الخسائر والإحراج والتنازلات الأخلاقية. ولكن لأنها تتكون من أفراد فيصيبهم ما يصيب البشر من أخطاء في التصور والفهم والإدراك أو قصور في التنفيذ؛ مما يجلب الفشل أحياناً، والتناقض أحياناً أخرى، لكن ما يميز الأمريكيين أنهم يتكيفون مع الواقع سريعاً، ويسعون لدراسة أسباب الإخفاق لتلافيها قدر الإمكان. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد مولانا
باحث في الشئون السياسية والأمنية
باحث في الشئون السياسية والأمنية
تحميل المزيد