أن تعيش مع داعشي يراك كافراً في قفص واحد!

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/06 الساعة 10:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/06 الساعة 10:23 بتوقيت غرينتش

كُنت قد تحدثت في المقالة السابقة عن حديثي مع (م.ح)، مُسَيِّر الدواعش في أحد السجون الصحراوية بالجنوب، والمُسَيِّر كما عرفته سابقاً هو السجين المسؤول عن تَسْييرِ أمور باقي السجناء، ويكون حلقة الوصل بين السجين وإدارة السجن، وهي المُتمثلة في المأمور ورئيس المباحث وضابط أمن الدولة، ويُتاح للمُسَيِّر في بعض الأحيان حُرية التحرك في أماكن مُعينة داخل السجن بين العنابر المُختلفة ومكاتب مُعينة في مبنى الإدارة. كان السجن الصحراوي مُقسماً بين الإخوان المُسلمين من جهة والدواعش من جهة أخرى، وكان الصراع على أشده بينهما في كسب النفوذ داخل السجن.

بدأ ظهور الدواعش في السجون المصرية بمُجرد إعلان أبو بكر البغدادي للخلافة في جامع النوري بمدينة الموصل العراقية، وعند تداول هذه الأخبار داخل السجون سارع العديد من السجناء الإسلاميين لإعلان مُبايعتهم لأبو بكر البغدادي كخليفة، وإعلان انتمائهم لداعش، ومن ثم بدأت حلقة بغيضة من التكفير والتحزب داخل السجون والصراع بين الإخوان والدواعش على استقطاب أكبر عدد من السجناء. كانت معارك الاستقطاب والتجنيد تدور داخل الزنازين وفي أوقات التريض وفي عنابر التأديب ومن بين نظارات الزنازين وفي فترات الامتحانات وفي سيارات الترحيلات. 

تُعد فترات الامتحانات داخل السجون أشد مراحل الاستقطاب والتجنيد وغسل الأدمغة لشباب صغير السن في المرحلة الثانوية والجامعية؛ حيث يتم ترحيل العديد من السجناء من سجونٍ مُختلفة إلى أحد السجون الذي تُقام به لجان الامتحانات التابعة لمجموعة من الكليات العلمية والأدبية لجامعة ما.

كان (م.ح) يحظى بمكانة مُهمة وعلاقة متينة مع إدارة السجن، وبخاصة مع رئيس المباحث؛ حيث كان يتمتع بشخصية قوية وقُدرة كبيرة على السيطرة على الدواعش الموتورين، كما كان يُحقق للإدارة التوازن، بحيث لا ينفرد الإخوان بالسيطرة على السجناء، فكان وجوده يُحقق توازن الصراع على السلطة بين السجناء، ومن ثم كان بإمكان إدارة السجن السيطرة على السجن؛ حيثُ يسعى جميع الأطراف إلى كسب رضاها، ويسعى كل فريق لتحقيق أكبر مكاسب لفريقه على حساب الفريق الاَخر.

بدأ (م.ح) في سؤالي عن وجهة نظري عنهم، أي عن الدواعش في السجون، فأجبته أنني قسّمت الدواعش إلى ستة تصنيفات، وكل تصنيف له بُعد خاص به. وفي هذه الأثناء، كان مُخبر العنبر يأتي بين الحين والاَخر كي يُطالبه بالانتهاء من الحديث معي حتى يُغلق الزنزانة، وكان يفعل ذلك كي يأخذ أي أموال ويتركنا دون إزعاج فوعده (م.ح) بإعطائه خمسين جُنيهاً.

 ثم استكملت حديثي معه بأن الفئة الأولى من دواعش السجون هي من الشباب الذين استهوتهم فكرة التنظيم والبروباغاندا الإعلامية من خلال الإصدارات المرئية للتنظيم واَلات الحرب واستخدام مختلف الأسلحة والوعود البراقة بتحقيق دولة العدل والعطايا من الأموال والنساء الأجنبيات الحسناوات في التنظيم ودخول جنة النعيم. 

ثم ذكرت له أحد الأمثلة التي قابلتها في الامتحانات وهو شاب يُدعى (دبور)، وهو اسم اُطلق عليه لصغر حجمه ويبلغ من العمر عشرين عاماً، كان شاباً صغيراً قادماً من أحد سجون الدلتا. كانت عادة دبور أن يتحدث عن إصدارات التنظيم بطريقة مُضحكة، ودائماً ما يُحرك كلتا ذراعيه كأنه يحمل سلاحاً اَلياً ويُنشد أنشودة داعش ''هذه بيجي الأبيّة، قلعة المجدِ العصيّة''، ولا يخلو كلامه من أسماء لأنواع مختلفة من الأسلحة كالآر بي جي، وهو أحد الأسلحة المفضلة في إصدارات التنظيم.

 وقد حدث هذا التحول الفكري لدبور أثناء تواجده بأحد السجون المركزية بالقاهرة لأداء الامتحانات؛ حيثُ تمت دعوته واستقطابه. وذات مرة أثناء نقاشي معه، قال لي إنه لا يعبأ بالتعليم فهو يقوم به كي يُقابل إخوته المُنتسبين لداعش، وكان يرى أن العلوم الدنيوية ليس لها من الأهمية مثل ما تحمله العلوم الشرعية فهي الأساس والأصل والمنتهى.

كنت أكبر منه في العُمر بثماني سنوات، وكان ينظُر لي نظرة من فقد دينه ودُنياه واَخرته، وكان يسألني عن أيديولوجية حركة 6 أبريل وأنه لم يحضر ثورة يناير، ويرى أن تحقيق دولة الخلافة هو أسمى المعاني، وكيف لي بعد رؤيتي لدار الحق (داعش) أن أستمر في الانتماء لدار الكفر (حركة 6 أبريل).

حينها قاطعني (م.ح) قائلاً لي كيف يكون شعوري حين أجالس أو أتحدث مع شخص يراني كافراً، فأجبته بأنني أشعر بالشفقة والغضب ممن يفتش عن الإيمان بقلبي، بينما أنا وهو مُكبّلان الأيدي. وأخبرته أنني أعلم أنه يراني كافراً ولن يُغير حديثنا هذا شيئاً؛ لأن توجهاتنا مختلفة ومُتباعدة ولن تتقابل أبداً، وأن حديثنا هذا يحدث فقط؛ لأننا داخل السجن في وضعٍ جبري يُفرِض علينا التعايش القسري، وأن مشاكلي في السجن لن أزيدها بصناعة أعداء اَخرين لي من السُجناء فيكفيني عداء مع من قام بمُصادرة حُريتي.

حينها استأذن (م.ح) بأنه سوف يُغادر؛ لأنه قد حان الآن موعد إجراء التمام على الزنازين (التمام: هو إجراء تأميني يقوم به مُسَيِّر العنبر الجنائي مُنفرداً أو بمُصاحبة مُخبر وشاويش العنبر، وفي بعض الأحيان يصطحبهم قائد العنبر وذلك للقيام بإحصاء عدد السُجناء في كل زنزانة، ويتم تسليم العدد الإجمالي لكل عنبر للمُسَيِّر الجنائي الرئيسي للسجن والذي بدوره يُسلم التقرير النهائي بالعدد الإجمالي لسُجناء السجن لمأمور السجن). 

وحين همَّ بالمُغادرة، أخبرني (م.ح) أنه مهتم لمعرفة باقي التصنيفات، وأن بيننا حديثاً سيُستكمل لاحقاً في وقت التريُض وقام بمُغادرة الزنزانة. 

جاء مُخبر العنبر وأغلق زنزانتي وكان مُسرعاً؛ لأنه تأخر في إجراء وتسليم التمام وقد بلغت الساعة الخامسة مساء، ثم بدأتُ مُحاولة استكمال يومي الذي يعدو بطيئاً في زنزانتي الانفرادية حتى يبدأ صباح يوم جديد.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زين الناجي
ناشط سياسي مصري
تحميل المزيد