يعد اختيار مدرسة الطفل من الأمور المهمة في حياة الطفل، ومن القرارات المصيرية التي تقوم بها الأسرة، لأن الطفل يقضي فيها معظم وقته، ويتعلم منها السلوكيات والقيم، ويتأثر بالبيئة المحيطة به فيها، فهي مجتمعه الأول، ومنها يتعرف على العالم الخارجي، كما أنها المكان الذي يخرج فيه طاقاته وإبداعاته، ويكتشف فيها مواهبه وينميها، وهو ما يساعده على بناء مستقبله.
وعلاوة على ذلك، فإن اختيار مدرسة الطفل في الغربة أمر شائك ومحير للكثير من الآباء، وتختلف تجربة كل طفل من أسرة ومدرسة لأخرى، بل ومن مجتمع ودولة إلى أخرى. فما هي الأسس والمعايير لاختيار مدرسة أطفالنا في الغربة؟ وأيهما أهم الحفاظ على الهوية أم الاندماج في المجتمع؟ وكيف نجمع بينهما؟
يا ترى أي مدرسة هي الأنسب
في الغربة تصيب الحيرة الآباء عند اختيار المدرسة المناسبة لطفلهم، وخاصة إن كانت السنة الأولى لهم، ويزداد الأمر صعوبة إذا كان سفرهم مفاجئاً وعلى أعتاب الدراسة، فتبدأ الحيرة والبحث والسؤال عن المدرسة الأنسب للطفل، وقد يوفقون، وقد لا يوفقون في الاختيار، وتستمر التجارب والتنقل من مدرسة لأخرى، وهو ما يؤثر على نفسية الطفل.
لا تهدر وقتك.. حدد أولاً ماذا تريد
كما يقولون فإن معرفة الداء نصف الدواء، وتحديد الهدف نصف طريق الوصول، كذلك فقبل أن تبحث عن المدرسة الأنسب لا بد أن تجيب أولاً عن بعض التساؤلات التي ستضبط بوصلتك وتساعدك على معرفة ما تريده بالضبط، ومن ثم تسهل عليك الاختيار فيما بعد. ودعني أساعدك في طرح بعضها:
ما المعايير التي تبحث عنها؟ تريد مدرسة مناسبة، أجل، ولكن أنسب، وفقاً لماذا؟ ما المجتمع المدرسي الذي تريد لطفلك أن يقضي جل وقته فيه؟ ما اللغة التي تريد لطفلك أن يتحدث بها طوال يومه أو يتعلمها هناك؟ ما السلوكيات التي توده أن يكتسبها؟ هل تريد المحافظة على هويته العربية وعقيدته الدينية، أم أنه لا مانع لديك من اكتسابه ثقافات وعقائد الآخرين وهوياتهم ويندمج معهم؟ هل يستطيع التعبير عن هويته بحرية فيها دون خجل أو ازدراء؟ ما المنهج الذي تود أن يدرسه طفلك؟ هل تلك المدرسة، وطرق التدريس بها والمجتمع المدرسي فيها سيلائم شخصية طفلك يا ترى، ويستطيع التكيف معها دون أن يشعر بالاغتراب النفسي أو أن تؤثر عليه سلباً، وقد تفقده ثقته بنفسه وقدرته على التفوق وتنمية مواهبه ومهاراته.
أجل يا رفاق (اللغة، الهوية، العقيدة، المنهج وطرق التدريس، الحرية المسؤولة، المجتمع المدرسي، الدين، القدرة على التكيف، ملائمة شخصية الطفل، تنمية مواهبه ومهاراته) تلك هي المحاور التي تدور حولها تساؤلات الآباء، والتي يجب أن نحدد ما نريده أولاً منها، ونضع المعايير التي تلائم الطفل في المقام الأول، ومن ثم نبحث عن مدرسة تتوفر بها معظم تلك الشروط التي نريدها، وبذلك نكون قد سهّلنا عملية البحث والانتقاء للمدارس.
إذا كنت ممن تزيدهم التساؤلات حيرة أكثر فدعني أقدم لك بعض الإرشادات التي تساعدك في اختيار مدرسة ملائمة لطفلك:
- يفضل أن تختار مدرسة تهتم بالجانب التربوي والترفيهي للطفل على حد سواء، والتأكد من وجود أنشطة وفعاليات تُخرج طاقات الطفل وتنمي مهاراته ومواهبه.
- يجب الاطلاع على المنهج التربوي المتبع، والتأكد من ملائمته لعقيدة الطفل والسلوكيات التي سيكتسبها منه فيما بعد كمخرجات للتعلم، إضافة لطرق التدريس المستخدمة، والتي يجب أن تكون وفق أساس علمي تربوي حديث.
- تأكد من حصول المدرسين على شهادات علمية عالية متخصصة كل في مجاله، والتأكد من كفاءتهم، وذلك بالتواصل الفعال والزيارات الدورية للمدرسة والسؤال عنها.
- اختر مدرسة تحترم الاختلاف وتتقبل الآخرين، وتتواصل بشكل فعال مع أولياء الأمور، وخاصة المغتربين.
- اسأل عن طرق المدرسة المتبعة في حل الخلافات والنزاعات.
- تأكد من وجود مختصين يقومون بمتابعة الطالب دورياً من الناحية النفسية والاجتماعية، ويخصصون له ملفاً لديهم لمتابعته وتسجيل كل جديد، والتدخل في الوقت الملائم.
- لاحظ أخلاق الطلاب في المدرسة وسلوكياتهم، لأن ذلك هو المحيط المجتمعي الذي ستترك به طفلك.
- التأكد من معايير المدرسة فيما يخص "حرية الاعتقاد"، فهناك مدارس لا تمانع في وجود طلاب لا دين لهم، أو دين يغاير دين طفلك، أو ممارسة "المثلية" مثلاً، والتي شاعت في الفترة الأخيرة بكثرة، فيجب الانتباه والحذر من هذه الأمور.
- يجب أن تحدد اللغة التي تلائم طفلك، خاصة في عمر صغير، فحتي عمر أربع سنوات يفضل تعلم اللغة الأم، ومن ثم يمكن إدخال لغات أخرى بشكل تدريجي، والتزام طرق تربوية في تعلمها حتى لا يعاني الطفل بعد ذلك من تداخل اللغات، وهذا يعود لما يفضله الأهل، ولكن يجب توحيد اللغة حسب المكان، فيمارس الطفل اللغة الأم في البيت، ويتحدث اللغة الأجنبية فالمدرسة وخارج البيت، أو وفق الزمان، فيمكن أن يتعلم ويتحدث اللغة الأجنبية طوال أيام الأسبوع، وفي العطلة الأسبوعية لا يتم التحدث سوى باللغة الأم، وهكذا.
- يفضل اختيار مدرسة تستخدم لغة يجيدها الآباء حتى يستطيعوا متابعة أبنائهم ومساعدتهم، وأن تكون أقرب للنظام التعليمي المتبع في البلد الأم، حتى لا يكون هناك فارق كبير إن تم اتخاذ قرار العودة لاحقاً، ولا يضطرب الطالب ويستطيع استكمال دراسته.
- اختر مدرسة بها تنوع كبير من الجنسيات المختلفة، والتي لا تشعر الطفل بالوحدة أو الاختلاف، ويمكن أن يتم ذلك حتى فترة معينة، خاصة في الأعمار الأولى للأطفال، حتى يستطيع التكيف، ثم يمكن استكمال الدراسة بمدارس البلد المغتربين به، بعد التأكد من تكيف الطفل معهم.
- يفضل التحاق الأطفال بالمدارس في عمر الرابعة، خاصة في البلاد الأجنبية، حتى يستطيع اكتساب اللغة بشكل سريع، مع الحفاظ على اللغة الأم وممارستها بالشكل الذي ذكرته مسبقاً.
- يجب تواصل الآباء مع أولياء الأمور الآخرين، ما يسهل سرعة التكيف والاندماج في المجتمع الجديد.
- يفضل تعلم لغة البلد التي سيتم السفر إليها قبل السفر بمدة لا تقل عن ستة أشهر، ما يسهل عملية التواصل والتكيف وصولاً للاندماج الاجتماعي، وعدم الإحساس بالاغتراب.
كيف أدعم طفلي نفسياً أثناء التعلم؟
١- المشاركة: اسمح لطفلك أن يشاركك في اختيار المدارس ونوع المناهج، واللغة التي يود تعلمها، ويبدي رأيه في القرارات المتعلقة به.
٢-الدعم: ادعم طفلك نفسياً وحفزه، أخبره أنك تشعر به وتثق في قدرته على التفوق والنجاح رغم كل شيء.
٣-الروتين: حافظ على روتين طفلك، فلا تجعل من تجربة الاغتراب مدعاة لفساد نظامه اليومي المعتاد في السلوكيات والتعاملات، الوجبات التي يتناولها والأنشطة التي يمارسها، حيث إن الحفاظ على روتين الطفل اليومي يحافظ على صلابته وأمانه النفسي، ويشعره بالاستقرار، وهو ما يساعده على التركيز في دراسته.
٤- اقضِ وقتاً معه: لا تجعل تجربة الاغتراب تشغلك عن أطفالك، أو تجعلك تركز فقط على دراستهم، يجب أن تهتم أيضاً بمهارات الحياة وتشاركها معهم، فيجب قضاء الوقت واللعب معهم والحفاظ على الاستمتاع بأبسط أمور الحياة برفقتهم، مثل قضاء وقت في الطهي معاً.
٥- ادعمه أكاديمياً: اهتمامك بالجانب الأكاديمي لحياة طفلك يشعره بالتشاركية والأمان، وأنه ليس وحيداً يواجه العالم، يمكنك مساعدته في إعطائه دروساً لتقوية اللغة الجديدة وتعلمها في الإجازة، دون أن تجور على حقه في الترفيه، وذكره أن الوقت دوماً معنا، ولصالحنا، وكلما مر الوقت تقل المشكلة ولا تزيد، وأن اللغة تكتسب بالممارسة، فيجب أن نسعى لتكوين صداقات جديدة.
٦- حفّز التحدي لديه: علّم طفلك أن يحول المشكلات لتحديات يتغلب عليها، لا مشكلات تشعره بالعجز والفشل وتحد منه وتحجمه، وأنه بالفعل قادر على اجتياز تلك التحديات.
٧- الاختلاف سر الجمال: علم طفلك أن اختلاف البشر هو سر تميزهم وجمالهم، وأن اختلافه عامل جذب لا نفور، وبالتالي فالتواصل مع الآخرين ليس فقط بلغة اللسان، فهناك لغة الجسد، وأننا حتى وإن اختلفنا عنهم فذلك لا يعني أن نكون على خلاف معهم.
الهوية أم الاندماج وكيف نجمع بينهما؟
الإنسان هو محض اختياراته، وكل حسب ما يريد، إن أردت فاختر الهوية فقط، أو الاندماج فقط، فالأمر متفاوت وتحكمه ظروف مختلفة للناس والمجتمعات، ولكن السعيد هو من استطاع أن يوازن بين الأمرين ويجمع بينهما، وذلك من خلال:
– الاختيارات الذاتية: يمكنك اتباع تلك الاستراتيجية، حيث ستتشكل سلوكياتك كلها وفق معاييرك وهويتك، فتفكر دوماً قبل أي خطوة وقرار: هل هي تتفق مع هويتي أم لا؟
– مرجعيتك بوصلتك: الإنسان دونما مرجعية يعتقد أنه حر طليق يسير كالبرق، ولكن أين وجهته؟ وأين مرجعه؟ إذن فنحن دون مرجعية على خطر محدق، ونسير نحو التهلكة! والحل أن تأخذ من المجتمع الجديد ما يلائم هويتك، وجد النقاط المشتركة وتعايش معهم فيها، وما تختلفون فيه لتكن نقاط تميزك، وتحترم فيك، ولا تنكر ما سواها على غيرك، وتقبل الجميع دون تهكم.
– جزئي أو تام: يمكنك اختيار مدرسة تحافظ على هوية طفلك بشكل تام، وتجعل الاندماج يتم خارج المدرسة، أو يمكنك اختيار مدرسة تمثل ثقافة البلد، وتقوم أنت بالحفاظ على هويته بشكل جزئي، وذلك من خلال الاشتراك له في أنشطه وفعاليات أبناء جاليتكم، وبالتالي يستطيع الطفل أن يوازن بين الثقافتين، ولا تكون تركته للمدخلات الجديدة عليه بشكل كامل، ويكون له مرجع يتعلم منه ويحافظ على هويته.
في النهاية، لا بد أن تعرف عزيزي المربي أنه لا توجد تجربة واحدة تُعمَّم على كل الأطفال والأسر والمجتمعات، فلكل طفل ومجتمع ظروفه الخاصة التي تختلف فيها تجربته عن غيره من الأطفال -حتى داخل المجتمع الواحد- ولكننا هنا نسعى جاهدين في اختيار المدرسة الأكثر ملاءمة مع طبيعة الطفل والمجتمع الذي يعيش فيه، والتي نرجو أن تؤتي ثمارها فيما بعد، ولا تنسَ، فدورك كمربٍّ مجرد تسهيلي وقائي، للحفاظ على صحتهم النفسية أثناء التعلم، ويجب أن تترك الأمر لمرونتهم وصمودهم النفسي يكمل مسيرة تكيفهم مع الوضع الجديد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.