لكي تفهم المشهد الليبي اليوم عليك أن تعود للماضي قرابة 700 يوم، أي منذ إعلان وقف إطلاق النار بين حكومتي الوفاق والكرامة، أو بين إقليمي طرابلس وبرقة، إلى ما نقف عليه اليوم من أحداث، ولكي تتوقع النتائج عليك دراسة الماضي القريب والبعيد، وإن كان للقريب أهميته في التعمق بالدراسة.
في 23 من أكتوبر/تشرين الأول 2020، وبعد معارك عنيفة، انتهت معركة "طرابلس"، التي دامت قرابة 14 شهراً من القتال المتواصل، بعد الإعياء الشديد الذي عانى منه طرفا النزاع، لم يكن هذا السلام مأمولاً بتلك الطريقة للطرفين، لكن إفشال الأمريكان لـ"مؤتمر موسكو"، في 13 يناير/كانون الثاني 2020، ودعوة الليبيين للتركيز على "مؤتمر برلين"، ودعم كل الجهود الدولية لإنجاحه خفض من تأثير روسيا وأعلى كعب الأمريكان مجدداً كلاعب مهم في الساحة الليبية.
وفي 19 يناير/كانون الثاني 2020، انعقد مؤتمر برلين حول ليبيا بحضور وتمثيل قوي لدول فاعلة من المشهد الليبي، وتم الاتفاق على إيقاف الحرب ومعالجة كثير من الأوضاع عسكرياً وسياسياً ومصرفياً ودستورياً وأمنياً، وهذا ما نتج عنه وضع تصور لتشكيل حكومة وحدة وطنية تقوم بإجراء انتخابات عامة برلمانية ورئاسية.
مرحلة بناء التحالفات السياسية
خلال شهر يونيو/حزيران تقريباً 2020 هدأت المعارك وبدأت أعمال اللجنة العسكرية "5+5" وبدأت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، وعلى رأسها الأمريكية ستيفاني وليمز، في وضع خارطة طريق لتنفيذ المسار السياسي والدستوري، ومنها تشكلت "لجنة الـ75" أو "الملتقى السياسي الليبي" الذي انعقد في تونس، والذي وضع خارطة الطريق السياسية للمرحلة القادمة بدعم من الأمم المتحدة، ثم اعتماد من مجلس الأمن الدولي.
أشارت خارطة الطريق إلى تشكيل سلطة رئاسية وتنفيذية جديدة، من شرق وغرب وجنوب ليبيا، وهذا ما فتح الباب على مصراعيه لعقد التحالفات بين القوى على الأرض والسياسيين الطامحين للوصول إلى السلطة.
أبرز الأسماء غرباً كانت فتحي باشاغا وزير داخلية حكومة الوفاق، وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة، وأحمد أمعيتق عضو المجلس الرئاسي وآخرين، على مستوى شرق ليبيا برز اسم عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، ومعين الكيخيا، والشريف الوافي، عضوا المؤتمر الوطني السابق، ومحمد البرغثي سفير ليبيا لدى الأردن.
أما على صعيد الجنوب فبرز اسم موسى الكوني، عضو مجلس رئاسي سابق مستقيل، من قبيلة الطوارق، وعبد المجيد سيف النصر من قبيلة أولاد سليمان، وسفير ليبيا في المغرب، وعمر أبو شريدة، المقرب من أنصار النظام السابق، أمام هذه النبذة البسيطة حول الشخصيات كان من المطلوب أن تضم كل قائمة رئيساً للمجلس الرئاسي من شرق ليبيا، ونائبين من غربها وجنوبها، ورئيس حكومة من أي منطقة.
عقد التحالف الأول بين عقيلة صالح وفتحي باشاغا بدعم أمريكي وتعاون مصري، ولكنه فشل في إقناع الأتراك بعد استبدال المشري بأسامة جويلي، يشاع أيضاً أن شخصيات تمتلك النفوذ والمال شكلت قائمة لتشتيت الأصوات، أما القائمة الفائزة فكانت قائمة المنفي والدبيبة، والتي اتفق مناوئو قائمة (عقيلة-باشاغا) على دعمها، ليس حباً لعلي بل كرهاً لمعاوية.
الدبيبة حاكماً مطلقاً لليبيا
خرج باشاغا من السلطة وعاد عقيلة لمجلس النواب وبدأ الدبيبة طريقه نحو تنفيذ خارطة الطريق، ليس المتوافق عليها في تونس، بل خارطته الشخصية، البداية كانت بعقد تحالف مع قيادات شرق ليبيا وتعيين وكلاء وزراء من تيار الكرامة، وبالحفاظ على خط اتصال مع حفتر وتيار المفتي في ذات الوقت، لضمان تفتيت تحالف "عقيلة- باشاغا"، والبقاء أطول وقت في السلطة، لكن العلاقات توترت فيما بعد، بعدما تم رفض استقبال الدبيبة في بنغازي، وفشل رسم الهيكل العام للتوافق بينه وبين حفتر، وفشله في تحقيق التوازن بين تيار الإفتاء وتيار الكرامة.
مع مرور الأيام ازداد سوء العلاقة بين الدبيبة وأغلب الأطراف على الأرض، فاحتفظ بعلاقته بتيار الجبهة وتيار الإفتاء، واستبدل تيار الكرامة بتيار "سبتمبر"، وعلى مستوى القوى الفاعلة أهمل عقد التحالفات الواسعة، فاستغل باشاغا هذه الفراغات، وعقد لقاءات مع خصومه في مصر وتركيا.
شكَّل باشاغا كتلة لا يستهان بها في مجلسي النواب والدولة، والسبب الرئيسي هو استئثار حكومة الوحدة الوطنية بكل الموارد المالية والسياسية للدولة، ورفض توسيع المشاركة، وهو ما كثّر الخصوم، ناهيك عن وجود سوء في الإدارة إجمالاً، وفشل على مستوى الخدمات، بداية بالكهرباء إلى العلاقات الدولية إلى الأمن إلى الخدمات المصرفية.
باشاغا يعود للمشهد مجدداً
في مارس/آذار 2022، نالت حكومة باشاغا ثقة مجلس النواب، لكن الدبيبة لوّح بالقوة، وحاول جاهداً منع وصول الحكومة إلى طرابلس، حكومة باشاغا في مارس/آذار كانت مدعومة من "المنطقة العسكرية الغربية" وقوات الشرق وبعض من قوات مصراتة، التي بقيت على الحياد، بينما يعارضه بالمطلق قوات من الزاوية ومن طرابلس.
أسباب رفض حكومة باشاغا تختلف من دولة لأخرى، لكن الأمر الجامع هو كيفية التنصل من اتفاق برلين الدولي، ومن قرارات مجلس الأمن الداعمة للاتفاق، لكن الانسداد السياسي وصعوبة وعدم وجود رؤية في الاتفاق نفسه، إذا انهارت الانتخابات، جعلت له سبيلاً للمناورة، مكّنه من فرض نفسه.
في 20 يوليو/تموز دخل باشاغا إلى مسقط رأسه مصراتة، وهنا بدأ بعقد التحالفات وقيادة الصراعات، بينما تورّط الدبيبة شعبياً في استجلاب فرحات بن قدارة رئيساً للمؤسسة الوطنية للنفط، ما أثّر سلباً على علاقاته مع قطر ومصر والسعودية والولايات المتحدة، ناهيك عن كون الاتفاق بين شخصيات مقربة من الدبيبة وحفتر، وهو ما كان ينادي برفضه حتى أصبح محرجاً في تسويقه، ثم عقد اجتماع "لجنة 5+ 5" في طرابلس بقدوم الفريق الناظوري، وهو ما سبب اختلالاً في قبول الدبيبة، الذي كان يرفع شعارات بأنه لن يقبل حفتر.
أخرج الدبيبة ورقته الأخيرة، وهو رأي دار الإفتاء حول هذه الزيارة، والتي ألصقت التهمة برئيس الأركان في غربي ليبيا محمد الحداد، رغم أن حكومة الوحدة الوطنية تمتلك السطوة على المطار، وقد علقت الرحلات بين الشرق والغرب وقتما أرادت حكومة باشاغا النزول في مطار معتيقة بطرابلس.
طريق باشاغا
نجح باشاغا في ربط قواته في مصراتة وطرابلس والزنتان والزاوية وورشفانة والأمازيغ ببعضها، وأعلن عن لواء عسكري شرق طرابلس تحت قيادة سالم جحا، أحد أبرز القادة العسكريين من مصراتة، وأصبح يحاصر العاصمة ويفرض أمراً واقعاً، مع استمرار غرق حكومة الوحدة في أزمات الخبز والوقود ونقص الموارد والكهرباء وضعف الخدمات المصرفية، وانهيار القوة الشرائية بالمجمل.
أما عن موقف تركيا فيبدو أن تغييراً قد حصل بعد الموافقة على تعزيز التعاون والحصول على تثبيت الاتفاقية البحرية عن طريق مجلس النواب الليبي، وهذا ما يجعل الدبيبة في موقف حرج، تغيب فيه أدواته الفاعلة عن اللعب في إقليم طرابلس.
على الصعيد الدولي، أصبح بقاء حكومة الدبيبة شبه مستحيل، فإن لم تمر حكومة باشاغا فإن الخيارات نحو حكومة ثالثة أصبحت متعثرة، لكن إمكانية توزيع القطاعات على الساسة تبقى واردة، والقصد هنا الحكم عن طريق المؤسسة الوطنية للنفط، والمصرف المركزي، والجيش، والقوات الأمنية، والمجلس الأعلى للقضاء، وهذا ما يصعب تطبيقه؛ نظراً لوجود خلافات عميقة بين الأطراف، وتغلغل الساسة أنفسهم في الأجهزة الأمنية وكتائب الجيش، وفي إدارات المركزي والنفط والقضاء.
بحسب قراءة واضحة دخلت حكومة الدبيبة غرفة العناية المركزة، وتدهورت إمكاناتها، وحتى داعموها والمستفيدون منها بدأوا في التفكير في الخروج من البلاد، ويبقى أمام باشاغا تحديات كبيرة، منها توحيد المؤسسات، وضبط الأمن، وتفادي أخطاء الدبيبة من تقديم وعود دون تنفيذ، ومن تضييق دائرة المشاركة السياسية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.