لماذا فشلت جهود القوى السياسية المناهضة للهيمنة الإيرانية في المنطقة العربية؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/05 الساعة 10:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/05 الساعة 10:09 بتوقيت غرينتش
صور للخميني وبعض رجال الدين الشيعة في شوارع بغداد عام 2013 / تويتر

صنعاء، بغداد، دمشق، بيروت.. أربع عواصم عربية تهيمن إيران حالياً على قرارها، لا سيما عبر الميليشيات الطائفية التابعة لها. 

ولا يُخفي النظام الإيراني اعتزازه وتفاخره بهذه الهيمنة؛ فما قاله في مارس/آذار 2015، عليّ يونسي، مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الدينية ورئيس وزارة الاستخبارات والأمن الوطني السابق ورئيس المكتب السياسي-الأيديولوجي لجيش "حرّاس الثورة الإسلامية"، بأن "إيران أصبحت إمبراطورية كما كانت سابقاً وعاصمتها بغداد، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما كانت عبر التاريخ"- لَخير موجز يلخِّص العقلية التوسعية السائدة في أوساط أركان النظام الإيراني. 

وقد تباهى النظام الإيراني سابقاً، على لسان علي رضا زاكاني، النائب من جناح المحافظين عن مدينة طهران في مجلس النواب (مجلس الشورى الإسلامي) الإيراني، بأن العاصمة اليمنية أصبحت العاصمةَ العربية الرابعة التابعة لطهران، وذلك إثر سقوطها بيد الحوثيين في خريف 2014.

وسوف يليه بالتفاخر، في شهر مايو/أيار 2015، اللواء إسماعيل قاآني، الذي كان وقتها نائباً لقاسم سليماني في قيادة "فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري"، قبل أن يخلفه على أثر اغتيال سليماني في بداية 2020، عندما قال: "لقد اكتسبنا قوتنا وعظمتنا في المنطقة من خلال قدرتنا العسكرية، ومن خلال الدول والتيارات التي تقف إلى جانب الثورة الإيرانية، وتعمل تحت العلم الإيراني في منطقة الشرق الأوسط".

تشرذم الجهود من جراء الطبيعة الهوياتية للمواجهات

المشكلة أن القوى السياسية المناهضة للهيمنة الإيرانية في الدول العربية الأربعة هذه، تواجه هذه الهيمنة وهي متفرقة فيما بينها، وذلك ليس فقط على المستوى الإقليمي، بل حتى على المستوى المحلي، أي داخل النسيج الاجتماعي لكل من هذه البلدان، في حين أن الهيمنة الإيرانية تبقى في جوهرها إستراتيجية توسعية واحدة، ولو تعددت أشكال هذه الهيمنة، لاسيما من خلال تعدد الأذرع الميليشياوية التي تنفذها حسب كل بلد من البلدان الأربعة.

وسبب هذا التشرذم يعود إلى تمحور مواجهة الهيمنة الإيرانية حول عناوين هوياتية، مما يجعلها مواجهات منعزلة عن بعضها البعض بين البلدان الأربعة المعنية من جهة أولى، وفي كثير من الأحيان تصبح مواجهات متنافسة ومتصارعة فيما بين مكونات البلد الواحد أيضا؛ وحالة التشرذم هذه التي تطغى على معارضة الهيمنة الإيرانية من شأنها أن تضعف مواجهتها وأن تذهب ريحها.

فعلى المستوى المحلي، في لبنان مثلاً، كانت حركة "14 آذار" التي تكونت بُعيد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، إطاراً سياسياً تتوحد فيه مواجهة الهيمنة الإيرانية المتمثلة بحزب الله وحلفائه المحليين، حول عناوين سيادية وطنية جامعة، ولو كانت القوى والأحزاب المنضوية تحت "14 آذار" طائفية بغالبيتها. 

بعد انفراط عقد "14 آذار" لأسباب متعددة لا مجال لذكرها في هذا المقال، انقسمت مواجهة الهيمنة الإيرانية في لبنان إلى مواجهات متعددة، تتمحور كل منها حول عناوين هوياتية طائفية محضة داخل كل طائفة، فأصبحت مواجهة الجزء الأكبر من اللبنانيين السُّنة، الذين يقفون بوجه الهيمنة الإيرانية (رغم تضعضعهم السياسي الكبير حالياً)، مواجهة سُنيّة للشيعية السياسية، وأضحى اللبنانيون المسيحيون يقفون بوجه حزب الله كمسيحيين يتظلمون من هيمنة مكوّن مسلم وينادون بحرية المعتقد، وبعضهم يذهب حتى للمطالبة بضرورة الانفصال بسبب "الاضطهاد" الذي يتعرض له المسيحيون بفعل هيمنة مكوّن مسلم هو الطائفة الشيعية المتمثلة بنظرهم بحزب الله. 

أما في العراق، فيمكن ملاحظة تمحور المواجهة حول عناوين هوياتية حتى داخل المكوّن الواحد، لا سيما داخل البيت الشيعي؛ بين تشيّع عربي، يمثله مقتدى الصدر، يواجه تشيعاً فارسياً يدين بالولاء للولي الفقيه في طهران؛ فضلاً عن ظهور حركات متطرفة هوياتية سنية وتنظيمات إرهابية، لا سيما في العراق وسوريا، كتنظيم الدولة الإسلامية، التي تكفّر جمهور الشيعة وتحاربهم، مدعية بذلك مواجهة الهيمنة الإيرانية.

أما على المستوى الإقليمي، فلا يوجد أي تنسيق فعلي يذكر بين الدول الأربع، لا سيما بين قواها السياسية المعارضة للهيمنة الإيرانية في كل منها. فهناك قوة إقليمية واحدة تهددهم، ولكن بدل أن يوحدوا جهودهم بوجهها، يواجهونها مشرذمين، مما يُضعف هذه المواجهة ويسهّل على إيران الإبقاء على هيمنتها في هذه الدول وربما توسيعها لتشمل بلاداً عربية أخرى. 

السردية الدينية كغلاف أيديولوجي للتوسع الإيراني 

أما مرد تمحور مواجهات الهيمنة الإيرانية حول عناوين هوياتية، فهو الشعور لدى المجموعات الطائفية المواجهة بأنّ الهجمة الإيرانية عليها هجمة هوياتية، أي هجمة بعناوين هوياتية مذهبية، لتغيير هوية هذه المجموعات الطائفية.  

وإذا كان هذا الشعور مشروعاً لأنه مبني على عناصر واقعية لا يمكن إنكارها (ولا مجال لذكره هنا)، فإن نظرة معمّقة لجوهر الإستراتيجية التوسعية الإيرانية من شأنها أن تفيد بأن الأمور أكثر تعقيداً مما تبدو عليه بظاهرها الخطابي. 

فحتى مبدأ "تصدير الثورة" مثلاً، المنصوص عليه صراحة في مقدمة الدستور الإيراني، ليس إلا سردية لرفد خطاب أيديولوجي، بمعنى أنه ليس إلا رداءً أيديولوجياً ألبسه النظام الإيراني لإستراتيجيته التوسعية، من أجل "تجميلها" ولإخفاء حقيقتها البشعة من جهة أولى، وكي يضمن ولاء الميليشيات الطائفية- لا سيما عبر ما يسمى "التشيع الأيديولوجي" ونظرية الولي الفقيه- التي هي أدوات ينفذ من خلالها هذه الاستراتيجية.

بمعنى آخر، المضمون الحقيقي للإستراتيجية الإيرانية في الإقليم- كما ورد صراحة على لسان قآاني في تصريحه الآنف الذكرـ هو التوسع في البلدان العربية عبر ميليشيات طائفية، وإبقاء الهيمنة على هذه الدول، فالميليشيات ليست فقط إستراتيجية إيران للسيطرة بمدى قريب على بلدان عربية، بل هي أيضاً خصوصاً إستراتيجيتها لمنع قيام الدولة في البلدان التي تهيمن على قرارها عبر هذه الميليشيات، مما يخول لها أن تُبقي هيمنتها على هذه البلدان على المدى البعيد؛ فإيران تعلم جيداً أنه لا دولة دون حصرية السلاح بيد الدولة، وهو مبدأ تتمسك به بحذافيره على أراضيها حيث القرار العسكري-الأمني واحد موحد بيد الدولة، لا سيما رأس الهرم فيها، ولو تعددت أجهزة الهيكلية الأمنية-العسكرية بين قوات أمن، وجيش، وحرس ثوري، إلخ. 

مشروع إيران لبلدان الإقليم ظاهرٌ الآن أمامنا في النموذج العراقي حيث استتبت هيمنتها بالكامل، وحيث لم يعد لها أي منافس دولي أو إقليمي فعلي: هيمنة إيرانية عبر ميليشيات متقاتلة فيما بينها، والدولة غائبة عن المشهد، تقف متفرجة وعاجزة عن القيام بأي شيء لوقف العنف وحماية المدنيين. هو مشروع خراب مستمر للبلدان التي تسيطر عليها إيران، ونموذج يولّد حروباً أهلية حتى بين أهل البيت الواحد، وموت عبثي.

أما لازمة "تصدير الثورة" فمجرد طلاء خطابي شكلي براق لتغليف هذه الإستراتيجية وتجميلها. 

وإيران لم تخترع شيئاً في هذا المضمار، فهي ليست أول دولة تقوم بعملية التنميق هذه لنواياها التوسعية. فمثلاً كانت السردية الشيوعية (تصدير الثورة، والإخاء بين الشعوب، وتحرير العمال، وغيرها من سرديات الاممية) إحدى الأدوات الخطابية الأساسية (بروباغندا) التي يستعملها الاتحاد السوفييتي لتجميل إمبرياليته وإستراتيجياته التوسعية، لا سيما في أوروبا الشرقية ووسط آسيا.

فمن الحري عدم الوقوع في فخ التحليل والجدل حول الشكل الخارجي للخطاب ("تصدير الثورة")، أي عدم الغوص والاسترسال حول المنطلقات العقائدية الدينية لهذا الخطاب، لأن هذا ما يريده النظام الإيراني أصلاً عبر استعماله هذا الخطاب. من الأفضل تفكيك هذا الخطاب وتعريته عبر إبراز الحقيقة الواقعية لمضمون جوهره السياسي، أي هذا الجوهر السياسي الإستراتيجي التوسعي الذي يستعمل الدين (نظرية ولاية الفقيه) كمجرد خطاب لتغليفه، وتبريره، وتجميله. 

وفي الجهد التفكيكي هذا، يمكن للقانون، لا سيما للقانون الدولي، أن يكون الفيصل، أي المرجعية النظرية التي يمكن الارتكاز عليها لتعرية هذا الخطاب، لا سيما عبر إبراز تعارض نتائج هذا الخطاب مع مبادئ القانون الدولي. يبقى السؤال الأساسي: أي مفهوم من مفاهيم القانون الدولي يمكن الارتكاز عليه في ذلك؟

القانون الدولي كعنوان لتوحيد المواجهة: مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول

تعتمد الأوساط السيادية اللبنانية، لا سيما المسيحية منها، خطأً مفهوم الاحتلال العسكري كعنوان لمواجهة إيران في لبنان. الاحتلال العسكري مفهوم من مفاهيم القانون الدولي، لا سيما القانون الدولي الإنساني (قانون النزاعات المسلحة)، وهو نظام قانوني منصوص عليه بشكل أساسي في اتفاقية جنيف الرابعة (لا سيما المادتان 47ـ 78).

وكي يستطيعوا توصيف الوجود المسلح لحزب الله في لبنان كاحتلال إيراني لبلد الأرز، يعتمد هؤلاء- غالباً دون أن يدروا- على نظرية الاحتلال بالواسطة، وهي نظرية قانونية ركيكة يرفضها جمهور فقهاء القانون الدولي- لا سيما كبارهم- ما عدا بعض الاستثناءات الصغيرة والهامشية، فضلاً عن رفض تطبيقها عملياً- أقله حتى الآن- من قبل محكمة العدل الدولية في القضايا التي طرحت أمامها والتي كان عليها أن توصّف فيها حالة احتلال عسكري.

طبعاً، مفهوم "الاحتلال العسكري" جذاب للجماهير، ويسهّل على الناشطين مهمة الحشد السياسي والتعبئة، خصوصاً عندما يحاكي جروح مظلوميات تاريخية يعاد تحريك الخنجر فيها عبر اجترار التاريخ الهوياتي- ومنه القريب: كبدايات الحرب الأهلية اللبنانية ضد منظمة التحرير الفلسطينية- للجماعات الطائفية، فتصبح مواجهة حزب الله أو غيره من أذرع إيران من منطلق طائفي هوياتي، وليس وطني سيادي جامع.

صحيحٌ أن الاحتلال العسكري مفهوم جذاب سياسياً، لكنه في الواقع الحالي- لا سيما في حالة لبنانـ مفهوم شعبوي واهٍ، لأنه لا يرتكز على عناصر قانونية صلبة تدعمه، مما من شأنه أن يجعل منه توصيفاً ركيكاً ممكن أن يُفقد القضية السيادية في لبنان مصداقيتها بنظر العالم.

فقانونياً، وبالمختصر المفيد، في الحالة اللبنانية مثلاً، رغم خضوع حزب الله لدرجات متفاوتة من السيطرة الإيرانية، ومنها الفعلي، فإنّ لبنانية حزب الله ومقاتليه تبقى عائقاً قانونياً كبيراًـ من وجهة نظر القانون الدولي- لإمكانية اعتماد توصيف "احتلال عسكري إيراني للبنان".

وبجميع الأحوال، فإن المنظمة المذكورة، ولو كانت تسيطر على لبنان بدرجة كبيرة، فإنها لا تسيطر على لبنان بشكل كافٍ- حسب معايير القانون الدولي- لاعتبار أنّ لبنان واقع تحت "احتلال".

كما أن توصيف احتلال عسكري ينتج عنه نظام قانوني يحتوي على صلاحيات واسعة يعترف بها القانون الدولي، لا سيما معاهدة جنيف الرابعة، للقوة التي تمارس الاحتلال، إلى جانب الموجبات التي يفرضها عليها، بمعنى آخر من شأن هذا التوصيف أن يعطي نتائج عكسية بالنسبة لمن ينادون باعتماده بوجه حزب الله، فهم كمن يطلق النار على رجله.

المستغرب هو كل هذا اللف والدوران ومحاولة التحايل على القانون الدوليـ من خلال مفهوم الاحتلال العسكريـ توخياً لممسك قانوني ضد إيران، في حين أنه يوجد مبدأ واضح وصريح يمكن استعماله لمواجهة إيران قانونياً، ألا وهو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

فمواجهة إيران أمام الرأي العام الدولي وفي المحافل الدولية لا تكون عبر مفهوم الاحتلال العسكري، بل من خلال مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو مبدأ عرفي في القانون الدولي، كرسته شرعة الأمم المتحدة، لا سيما في الفقرة السابعة من مادتها الثانية.

إنّ ضرب مبدأ حصرية السلاح بيد الدولة، من خلال تسليح إيران لتنظيمات مسلحة على أراضي هذه الدول، ومن خلال تمويل إيران لهذه التنظيمات المسلحة الخارجة عن سيطرة هذه الدول، يشكل خرقاً فادحاً لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المذكور آنفاً، ومن شأن هذا الخرق لمبدأ عدم التدخل أن يلقي بالمسؤولية الدولية ذات الصلة على عاتق إيران. 

الخلاصة

إنّ تفرق القوى المعارضة للهيمنة الإيرانيةـ على المستويين المحلي والإقليمي- وقود أساسي لاستمرار هذه الهيمنة وتوسعها. 

لا بد من بناء إستراتيجية عابرة للدول العربية ولمكوناتها، مدماكها مبدأ عدم التدخل المذكور آنفاً، تكون قائمة على إيجاد إطار سياسي للتنسيق بين الرافضين للهيمنة الإيرانية وتوسع سطوتها في بلدانهم، يكون عابراً لمختلف الدول العربية، بجميع مكوناتها، الخاضعة حالياً لهذه الهيمنة.

إن اعتماد خطاب سياسي يكون قوامه القانون الدولي، لا سيما مبدأ عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول كمرجعية وضعية لمواجهة الهيمنة الإيرانية في البلدان العربية، من شأنه أن يحرر هذه المواجهة من سجن الخطابات الهوياتية وانغلاقاتهاـ طائفية كانت، أم قومية (عروبية أم غيرها)، أم أيديولوجية بشكل عام- التي تشرذم حالياً القوى السياسية المناهضة لهذه الهيمنة، والتي تُفرقها وتُضعف مواجهاتها عبر جعلها مواجهات متنافسة، لا بل متصارعة فيما بينها في أحيان كثيرة. 

يا معارضي الهيمنة الإيرانية في الإقليم، 

لبنانيين، وسوريين، وعراقيين، ويمنيين، وربما قريباً غيرهم كثيرون،

شيعة، وسُنة، ومسيحيين، ودروزاً، وعلويين، وإسماعيليين، وملحدين، وكثيرين غيرهم،  

إيران تأكلكم بالقطعة، فاتَّحِدوا بوجهها!

أنتم الأكثرية.. فاتحدوا في مواجهتكم لهيمنتها!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد