تنتابنا الكثير من المشاعر المختلطة حين ننظر إلى صورنا العائلية؛ هناك الحميمية والحنين إلى الماضي والشعور بقوة الرابطة الأسرية، نشعر بتلك القوة حين نرى الملامح التي ورثناها من الآباء والأجداد، قد نحصل على ابتسامة الأب ولون عيني الأم والشعر المجعد للعمَّة، وحتى الخصائص العقلية والعاطفية والمواهب قد نرثها من العائلة، ولكن هل يقف الأمر عند هذا الحد، أم أن تأثير الأجداد قد يمتد لأبعد من ذلك؟ هذا السؤال حاول المسلسل التركي Another self أن يجيب عنه عبر تناوله لمفهوم كارما الأجداد، أو ما يُعرف باسم family constellation، وإليكم في هذا المقال قصة المسلسل وحكاية كارما الأجداد:
مسلسل Another self: ثلاث صديقات يبحثن عن ذواتهن الضائعة عبر العودة للماضي
في 28 يوليو/تموز من هذا العام بدأت شركة نتفليكس عرض أولى حلقات المسلسل التركي Another self، المسلسل جاء من بطولة نجمة تركيا الشهيرة توبا بويوكستون، بونجوك يلماز، سيدا باكان وفرات تانيس، وقد أخرج هذا العمل بوركو ألبتكين، وكتبت السيناريو نوران إيفرينيت.
وطوال ثماني حلقات هي مدة عرض المسلسل شاهدنا قصة ثلاث صديقات يحاولن رسم مسار جديد لحياتهن؛ بدأت القصة من المحامية سيفجي، التي تعاني من السرطان، ثم قررت فجأة أن تترك المستشفى وتبحث عن علاج لها بالطرق الروحية، فيما بعد، وبمرور الحلقات تتبعها صديقتها الطبيبة أدا، التي ترفض العلاج الروحي بشدة وتتمسك بالطب الذي تعمل به منذ سنوات، ولكن الصديقة الثالثة ليلى تحاول أن تقنع أدا بأن تترك سيفجي تخوض رحلتها الخاصة.
تترك الفتيات الثلاث مدينة إسطنبول الكبيرة، ويتجهن صوب مدينة أيفاليك الساحلية، وبصفتي متابعة مخلصة للدراما التركية منذ سنوات طويلة يمكنني القول إن الأعمال الدرامية التركية تركز بشكل كبير على المناظر الطبيعية في مواقع التصوير، وتحاول قدر الإمكان الابتعاد عن مدينة إسطنبول من أجل الترويج للسياحة.
في مدينة أيفاليك تدور كل أحداث المسلسل، وهناك تخضع سيفجي لجلسات العلاج الروحي عبر تقنية كارما الأجداد، وبالفعل تُشفى من مرض السرطان، وتقنع صديقتيها بتجربة هذا العلاج الجديد، وينجح الأمر معهما أيضاً، وتتفاجأ أدا من ذلك الأمر، وتظل تسأل نفسها: كيف تمكنت هذه الطريقة البدائية غير العلمية في علاج يدها التي لم تكن تتوقف عن الارتعاش، حتى كلفها الأمر وظيفتها؟ والحقيقة أن الإجابة كانت تكمن في الماضي، السر كله يقبع هناك.. عند الأجداد.
البداية من قبيلة الزولو الإفريقية: كيف ظهر مفهوم كارما الأجداد؟
حين قررت سيفجي أن تترك المستشفى الذي تُعالج فيه من مرض السرطان وتتجه إلى مدينة أيفاليك، كانت قبلها بليلة واحدة تقرأ في كتاب عن كارما الأجداد، والعلاقة بين روابطنا الأسرية والمشاكل التي تواجهنا؛ والحقيقة أن مفهوم كارما الأجداد ظهر للمرة الأولى على يد عالم النفس الألماني بيرت هيلينجر، الذي كان يعمل كاهناً كاثوليكياً ومبشراً في جنوب إفريقيا.
قبل سفره إلى القارة السمراء عاش بيرت مع أسرته في ألمانيا بمعزل عن تشوهات الاشتراكية القومية، وبسبب تغيبه المتكرر عن الاجتماعات المطلوبة لمنظمة شباب هتلر، ومشاركته في منظمة شبابية كاثوليكية غير شرعية، صنّفه الجستابو في النهاية على أنه "يشتبه في كونه عدواً للشعب" بعد ذلك جُند بيرت في الجيش حين كان في السابعة عشرة من عمره، وأُلقي القبض عليه فيما بعد وقضى فترة في معسكر لأسرى الحرب في بلجيكا مع الحلفاء.
فور خروجه من المعسكر انضم بيرت إلى طائفية دينية كاثوليكية، وقرر أن يبدأ عملية طويلة للتطهير؛ تطهير روحه وجسده، ومن هنا بدأت مرحلة جديدة تماماً في حياة بيرت، وهي مرحلة كونه كاهناً كاثوليكياً ومبشراً في جنوب إفريقيا، وهناك أدار مدرسة كبيرة من أجل تعليم الرعية، ولكن الحقيقة هي أن بيرت هو من تعلم من هناك؛ فأثناء وجوده في جنوب إفريقيا عاش بيرت في كنف قبيلة الزولو وتعرف عن قرب على عاداتهم وتقاليدهم؛ ووفقاً لتقاليد الزولو الأسلاف مقدسون، وشفاء جروح الأسلاف هو مفتاح الروابط الأسرية القوية.
البداية دائماً تكمن في جذور الماضي: الأساس الذي بُنيت عليه نظرية كارما الأجداد
ليلى بطلة مسلسل Another self كانت تخاف من الماء ولا يمكنها أبداً نزول البحر، حين حضرت جلسة للعلاج الروحي تبين أن لها جدة ماتت في البحر، ولا تزال ليلى تعاني من رهاب الماء بسببها، حين كان بيرت في جنوب إفريقيا عكف على مراقبة تقاليد الزولو، وأتقن لغتهم وتبين له أن العائلة هي نظام ولهذا فهي تعمل أيضاً وفق لجميع القواعد الأساسية التي تحكم الأنظمة؛ فإذا تعرّض أحد الأعضاء إلى مشكلة تتأثر البقية.
بعد ذلك ترك بيرت العمل الديني بعد 25 عاماً وعاد إلى ألمانيا، ثم ذهب إلى فيينا من أجل دراسة التحليل النفسي، ولكن المجتمع الطبي في فيينا لم يرحّب بتضمين تجربة بيرت الجسدية في العملية العلاجية، ومن هنا تخلى بيرت عن المجتمع الطبي النفسي في فيينا، وظل مخلصاً لنظريته في العلاج ولم يكتفِ بتطبيقها فقط، ولكنه قام كذلك بتطويرها، حيث اهتم بالعثور على الديناميكيات الخفية للتشابك النظامي، وقال بيرت أننا مرتبطون بأسلافنا عبر سلسلة خفية من الأسس الروحية؛ فإذا واجه أحد أسلافنا مشكلة في الماضي ولم يستطع حلها سيتعين علينا نحن حل تلك المشكلة وإلا سنظل نعاني من تبعاتها علينا.
تقول سوزي تاكر منسقة مركز كريبالو لليوغا والصحة بمدينة ستوكبريدج القابعة في ولاية جورجيا الأميركية "إن كارما الأجداد موجودة في حمضنا النووي"، وأنها طريقة علاجية تهدف إلى خلق السلام والشفاء من الآثار طويلة الأمد للنزاعات العائلية التي لم يتم حلها، وتوضح سوزي بعد ذلك، وتقول إذا وقع حادث صادم في الماضي فإن آثار المعاناة تمتد عبر الأجيال، وحتى لو نسي جيل الحاضر ذلك الحادث أو لم يكونوا على دراية به فإن تأثير الدومينو العاطفي سيجعل الألم محاصراً لهم، وفي سياق متصل يقول مارك وولين منسق المركز ذاته ولكن في مدينة سان فرانسيسكو "أنا مهتم بالكلمات المشحونة عاطفيا التي يستخدمها المرضى لوصف مخاوفهم وأعراضهم، وذلك لأن هذه الكلمات غالباً ما تشكل مسار تنقل يمكن أن يعيدنا إلى حدث صادم في تاريخ عائلاتهم، إلى صدمة ربما ورثوها بيولوجياً عن آبائهم وأجدادهم".
عبر جلسات جماعية ودوائر داعمة: كيف يعمل العلاج بنظرية كارما الأجداد
من خلال حلقات مسلسل Another self رأينا تقنية العلاج الروحي عبر كارما الأجداد، حيث جلست سيفجي في منتصف باحة واسعة وطلبت من بعض المشاركين أن يجسدوا حياتها؛ أحدهم اختار أن يكون هي في الماضي، ومشارك آخر قرر أن يقوم بدور والدها الذي قُتل في عيد ميلادها، من خلال هذه التجربة شاهدت سيفجي حياتها ولكن من الخارج، شاهدتها كمتفرجة وليست كفاعل أساسي، في النهاية قد يطلب المسؤول عن الجلسة من المشارك أن يحاول البحث أكثر في الماضي، وفي أوقات أخرى قد يطلب منه أن يسامح أهله ويتقبّل كل ما حدث معهما.
حين كان بيرت في فيينا وانفصل عن المجتمع الطبي النفسي كان يحاول وقتها إجراء تشخيص دقيق ومعرفة سبب الأمراض النفسية الجسدية مثل الإدمان والصداع النصفي والكوابيس والاكتئاب وغيرها، وترتكز عملية العلاج على مجموعات تضم من 10 إلى 40 مشاركاً، حيث يجلس الجميع في دائرة حول الميسر، ويشارك شخص واحد فقط في الدائرة؛ إذ يبدأ الميسر في طرح الأسئلة على المشارك ويحاول التركيز على حدث مهم من الماضي، وحين يكشف المشارك عن هذا الحدث يطلب منه الميسر أن يختار أشخاصاً من المجموعة من أجل تمثيل أفراد العائلة المهمين، ثم يختار المشارك شخصاً لتمثيل نفسه.
تقول سوزي إن الممثلين عن العائلة يختبرون مشاعر ليست خاصة بهم، مثل الغضب والرعب والحزن وهذا تحديداً رأيناه داخل أحداث المسلسل، تضيف سوزي أن الممثلين يشعرون بالكراهية أو التعاطف تجاه عائلة المشارك، رغم أنهم لا يعرفون شيئاً على الإطلاق عن عائلة العميل "نحن جميعاً متصلون على مستوى ما". "نحن نعرف قصص بعضنا البعض بالطرق الأساسية" هذا تحديداً ما قالته سوزي تاكر.
أثناء قيام الممثلين بالإبلاغ عن تجاربهم، تقول سوزي إن الصورة تبدأ في الظهور، والتي تساعد في شرح كيف يمكن أن تتشابك مشكلة العميل مع مشكلة متشابكة في تاريخ العائلة، يؤكد مارك الكلام نفسه حيث يقول إن "إنشاء هذا الرابط يمكن أن يمنحنا السياق الذي يشرح أخيراً سبب شعورنا بالطريقة التي نشعر بها".
حين شاهدت المسلسل على نتفليكس لم أظن لدقيقة واحدة أن موضوع كارما العائلة حقيقياً، ظننته من وحي خيال المؤلف، ولكن فضولي ساقني للبحث أكثر عن الموضوع، لم أجد بالطبع نتائج باللغة العربية، ولهذا توسعت في البحث باللغة الإنجليزية ووجدت الأمر حقيقياً، حتى كتابة هذه السطور لم أستوعب الأمر بعد، ولكن ربما ما تقوله سوزي صحيح، فالأمر يبدو جنونياً فعلاً ولا يمكن تصديقه بأي حال من الأحوال، ولكن علينا في مرحلة ما أن نعود إلى الماضي من أجل وضع الأمور في أماكنها الصحيحة، يشبه الأمر لعبة البازل غير المرتبة، أو المنقوصة، ربما علينا أن نبحث عن القطعة الناقصة ونضعها في مكانها حتى نمضي قدماً في الحياة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.