أقضي عطلة الصيف مثل كل عام في مدينة طنجة، هذه المدينة الساحرة، التي يمتد تاريخها عبر الأزمان، استهوت الكثير من الكتاب والفنانين في الماضي، أشهرهم الرسام دولاكروا، وبعده الكاتب الأمريكي بول بولز، ومجموعة من الكتاب الآخرين، يروي بولز في سيرته الذاتية التي وسمها بدون توقف، أن من بين الأسباب التي جعلته يستقر في هذه المدينة، هدوءها وبساطة الحياة فيها، حيث إنه كان قد طاف بجل بقاع العالم، قبل أن يقرر الاستقرار فيها، وبها أمضى حياته، حتى وافته المنية نهاية القرن المنصرم، غير أن بلوز لم يكن يتصور كيف ستصبح المدينة بعده، حيث إنها أضحت مثل تلك المدن التي كان يهرب منها طوال حياته، مثل المدن الأمريكية بالضبط، وبدل أن يستقر فيها الفنانون والكتاب أصبح يؤمها المستثمرون وأصحاب رأس المال، وبدأ الجشع والأنانية تطغى على أصحابها، ففقدوا بسطاتهم، ولوثتهم لوثة العصر، استرعاني إقبال الناس على الاستهلاك المدهش فيها، وفاجأني هذا التحول المتسارع التي تعرفه، وكأني وأنا أمشي بين الناس مثل شبح أو تمثال يمر الناس بجانبه دون أن يعيروه أي اهتمام، وكأني أسمع همساتهم، وهم يرددون نبحث عن السعادة، نبحث عن السعادة، فأبتسم وأواصل المسير، وأسأل نفسي سؤالاً حيّر الفلاسفة وأرّق المفكرين، ما السعادة؟ وهل هي موجودة أصلاً؟ أم هي وهم أو سراب والناس يسعون حوله.
مفهوم السعادة بين الدين والفلسفة
تنازع مصطلح السعادة في الماضي صنفان، علماء الدين والفلاسفة، كل منهم يرى أنه الأولى بالحديث عن هذا المفهوم، وكل منهم يرى أن هذا المفهوم هو من اختصاصه، ولا داعي هنا للحديث عن الجدلية التاريخية بين الدين والفلسفة أساساً، وما العلاقة بينهما، أو الفلسفة والعلم، أو العلم والدين، الجدل بين هذه الثنائيات كان وما زال، وسيظل ولا شك في ذلك، وذلك ببساطة لأن الإنسان في حاجة إليهم كلهم، لنعُد إلى مفهوم السعادة ونرى ماذا قال فيه الفلاسفة، ثم بعدهم علماء الدين، يرى أرسطو أن السعادة هي الخير، والفضيلة، ويرى أيضاً أن السعادة أنواع، أحدها السعادة المادية الحسية، والأخرى هي السعادة التي تقوم على التأمل الميتافيزيقي، وأقرب منه يذهب الفيلسوف المسلم الفارابي، حيث يرى أن السعادة تكون جماعية وليست فردية، والسعادة هي في الفهم والوعي والفكر، وبالتالي فهي في طريقة فهم العالم، ولا نخلق بها، وأما ابن مسكويه فإنه يرى أن السعادة جسدية، ونفسية وفكرية، فالسعادة الدنيوية ناقصة، حسب رأيه؛ لأنها تعرّض الإنسان للألم والحسرات، وإنما السعادة الأخروية هي الأهم، بينما يرى الفلاسفة المعاصرون أن السعادة هي الحد من الرغبات بدل السعي في إشباعها، كما يذهب إلى ذلك جون ستوارت ميل، وأما كير كجارك فيرى أن الحياة ليست مشكلة نسعى إلى حلها، بل واقع يجب أن نعيشه، وبالتالي فهو يرى أن مفهوم السعادة يكون في الانغماس في الواقع، ويرى ثورو أن السعادة كلما حاولت البحث عنها ابتعدت عنك، وإذا انشغلت بشيء آخر عنها أتتك طوع نفسها.
وأما مفهوم السعادة في الدين، فإننا مثلاً في التراث الإسلامي الديني نجد مفهوم السعادة وارداً كثيراً، لكن أغلبها مرتبط بالآخرة، وأن السعادة الحقة أو الحياة الحقة هي في الآخرة، لكن ورد حديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء"، وكأن السعادة هنا مرتبطة بما نطلق عليه الحياة الكريمة، لكن وردت مؤلفات تحمل اسم كلمة السعادة، أو دار السعادة، ويقصدون بها الحياة الأبدية في الجنة، ومرادف ذلك أن الحياة الدنيوية هي حياة شقاء ومشقة وجهد وابتلاء، والدار الآخرة هي حياة جزاء وفلاح، كما أن السعادة في الدنيا في أداء الفروض والواجبات الدينية، لكن الحقيقة أن السعادة لم ترد كثيراً، وخصوصاً في نصوص الحديث والقرآن، وإنما ورد مصطلح الفلاح، والسكينة، وغيرهما.
السعادة بين الاقتصاد وعلم النفس
لا يشك أحد في أن النقاش السالف وارد في عالم ما قبل ظهور الثورة الصناعية، والتي قلبت موازين العالم، بل دعت إلى إعادة النظر في الكثير من الأفكار والنظريات التي كانت سائدة في القديم، وأصبح العالم كما نراه اليوم، الصراع من أجل المصالح الاقتصادية لا غير، ومن له اقتصاد قوي هو من يتحكم في كل شيء، في السياسة والعلم والفكر والأدب، بل والتعليم، بل وحتى كيف يفكر الناس، وما أولوياتهم وأهدافهم في هذه الحياة، هكذا هو العالم الرأسمالي اليوم، المصالح المادية هي التي طغت على حياة الناس، وأصبحت هي أهم أهدافهم في هذه الحياة.
أصدر الكاتب البريطاني وليام ديفيز، كتاب صناعة السعادة، الذي تُرجم ونشر في نسخته العربية، ضمن منشورات عالم المعرفة، حاول هذا الكاتب أن يكشف سر هذا الوهم، الذي أصبحت تسوقه الشركات اليوم، وذلك لحسابها الاقتصادي، وكما يبدو واضحاً من العنوان أن السعادة صناعة، وهي وجه إعلامي يباع فقط، وليست إحساساً يمكن أن يعاش كما يتخيل معظم الناس، صحيح أن المفهوم الذي كان رائجاً قبل ليس هو نفسه اليوم، ولكن الكاتب يُثبت أن مفهوم السعادة ما هو إلا سراب وصناعة من قِبل الشركات الكبرى، التي تتحكم في الرأسمال العالمي اليوم، كما أن المؤسسات المالية اليوم بدورها تسعى للاستثمار في هذا المفهوم الجذاب.
كيف أسهم علم النفس في ذلك؟
سبق في مقالات بيان أهم مدارس علم النفس، وكيف تطوّر علم النفس من مجرد تخمين بما يجول في خاطر الإنسان، إلى علم قائم له مناهجه الدقيقة، والتي بدأت بدراسة السلوك، قبل أن تتحول إلى الاهتمام بالذهن والدماغ، والأعصاب، وبالتالي مستوى أعمق في فهم سلوكيات الإنسان، هذه المجهودات لم تكن هكذا في سبيل العلم فقط، بل في الحقيقة هي مجهودات في غالب الأحيان كان الدافع وراءها اقتصادياً محضاً، صحيح أن الآلة في العصر الصناعي هي من عوَّضت الإنسان، لكن السوق الاقتصادي لا يمكن أن ينجح من دون هذا الإنسان، ولذلك كانت الشركات تستثمر في سبل فهم الإنسان، حتى تستطيع أن تسيطر عليه وتُخضعه، وهذا لا ينفي أيضاً أن هناك علماء نزهاء في علم النفس أو غيره، كان هدفهم هو السعي إلى تحسين حياة الإنسان، وهذا حصل أيضاً، حيث نجد أن علم النفس اليوم يحل الكثير من مشكلات الإنسان، كما يُسهم في وضع المناهج الأنفع للتعلم، وكذلك مساعدة بعض الأشخاص الذين هم في وضعيات صعبة، غير أن الكاتب يذكر كيف أن علم النفس أسهم في هذه العملية، وذلك من خلال تحديد وقياس سلوكيات الإنسان، وبالتالي معرفة مستوى السعادة التي يشعر بها الناس وبشكل خاص العمال، ولا شك هنا أنه يمكن أن يُطرح السؤال الأخلاقي والقيمي لهذه التجارب التي تنجز.
ضحايا هذا المفهوم المزيف
في هذه المقالة الصغيرة لا يسعني الحديث عن كل جوانب هذا المفهوم الشائك، لكني أحاول فقط التنبيه على أهم النقاط المُثارة للإشكال، طبعاً من يعرف القليل عن عالم الإشهار وكيف يعمل سيدرك جيداً مدى مساهمة علم النفس في ذلك، ولولا تقدم علم النفس في هذا الجانب لما استطاع الإشهار أن يكون ناجحاً هكذا، والذي يعتبر هو المحرك الأساس لعملية الاستهلاك، إذ لولاه لانهار هذا العالم الرأسمالي، فبالاستهلاك المفرط يظل قائماً، فأهم ضحايا هذا المفهوم الزائف هم المستهلكون، الذين أصبحوا يعبدون المادة، والصورة، أصبحوا يسعون وراء إشباع الرغبات، والتي لا يمكن أن تتوقف، بل هم كذلك الظمآن الذي يسعى جاهداً أن يروي ظمأه من ماء مالح، كلما شرب منه ازداد ظمأه، إنهم هؤلاء الذين وصفتهم في بداية المقالة، يسعون ليل نهار يبحثون عن سراب غير موجود.
أما ثاني أصناف ضحايا هذا المفهوم الزائف فهم العمال، حيث إن الدراسات أثبتت أنه كلما شعر هؤلاء باللذة ارتفعت نسبة إنتاجهم، وهذا ما يزيد من عملية الإنتاج، ويحضرني هنا الفيلم الأمريكي الشهير the wolf of wall street الذي يصور بجلاء ما أقول هنا، وكيف أن العمال كلما كانوا يعبدون المادة، ويسعون لتحقيق الرغبات البيولوجية، ازداد ولاؤهم للشركة التي يعملون بها، وبالتالي فإن إنتاجهم لا شك سيتضاعف، كل هذا يأتي من بيعهم وهم السعادة، الكثير ثري بالأفكار والدلائل وتوثيق التجارب وشرح النظريات، في كل من علم النفس، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، ولا يمكن الحديث عن كل ذلك في هذا المقال المختصر جداً.
العدالة الاجتماعية والحياة الكريمة
ما سلف لا يعني أبداً الزهد المطلق في الحياة المادية، بل هذا بدوره خِداع صنعته إحدى القوى السياسية في فترة تاريخية معينة، كنت كلما ناقشت مفهوم السعادة، واللذة، أتذكر مفهومين اثنين، مفهوم الحياة الكريمة، والعدالة الاجتماعية، هذان المفهومان كانا هما شعار كل الحركات الاحتجاجية التي كانت تسعى لتحسين حياة الناس، عبر التاريخ وفي جميع ربوع العالم، وآخرهما الربيع العربي وأصحاب حركات السترات الصفراء، وأيضاً حركة حياة السود مهمة، the black lives matter جميع هذه الحركات كانت تسعى إلى تحقيق هذه المطالب، وهذا لا يعني أبداً ما تروجه الرأسمالية من استغلال للطبقات الفقيرة والمحتاجة، واستعبادها، بغية تحقيق أرباح مضاعفة، وكل ذلك في تجاهل تام لحياتهم، بل النظر إليهم وكأنهم عبيد، العدالة الاجتماعية تعني أن تكون ساعات العمل للعمال معقولة، وأجورهم كذلك، كما أن إعطاءهم جميع حقوقهم السياسية والمدنية، وليس استغلالهم واستعبادهم فقط، وبيعهم الوهم من خلال تسليط الآلة الإعلامية المتوحشة عليهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.