أما الحديث عن "بن نبي" و"سيد"، فهو حديث عن مقاربة بين مفكر ومهندس ينطلق من الواقع إلى الفكرة، ومفكر وأديب ينطلق من الفكرة إلى الواقع، جمعت بينهما الفكرة، وفرق بينهما السياق وطريقة التوصيف، فالأول يخاطب العقل بالدقة والحساب ويؤيده المنطق، والثاني يخاطب العاطفة بلغة ثرية وشاعرية قوية، ويشفع له الصدق.
عندما كتب بن نبي عن البنا في كتابه "شاهد القرن"، وقال: "إني لا أعرف سيرة مؤسس الإخوان المسلمين".. وأثنى على جماعته، وقال: "إن الحركة الأحدث، والتي تؤكد الجديد بلا منازع، حركة الإخوان المسلمين في مصر".
كما يذكر في المذكرات نفسها أن أحد أسباب مشاكله مع السلطات الفرنسية وهروبه إلى فرنسا سنة 1951، هي مقالاته الصحفية التي عرّف فيها الشباب الجزائري بأسماء "خطيرة" مثل "حسن البنا" و"جماعة الإخوان".
ولربما كانت هناك زوايا نظر مختلفة، ذكرها "بن نبي" بعد استشهاد البنا، أدت إلى انتقادات مبطنة أحياناً، ومعلنة أحياناً أخرى، مع سيد قطب خصوصاً، بدأت بعد زيارة "بن نبي" لمصر، ولقائه بمحمد نجيب، وجمال عبد الناصر سنة 1954، وحضور الاستعراض العسكري، كما جاء في مقال الكاتب الفرنسي "يوسف جيرارد".
وشهد "بن نبي" الخصومة بين الجماعة وعبدالناصر، وصدمه حل الجماعة، فكتب يقول: "علمتُ أنّ الحكومة المصرية قد حلّت البارحة جمعية الإخوان المسلمين.. أما أنا، فمذهول لهول لم أتوقعه أبداً".
"أنا أفهم تماماً أن يغتال فاروق حسن البنا، فمن طبيعة الأمور أن يقاوم العفن كل محاولة للنظافة. ولكن أن يقاوم رجل أمين رجلاً أميناً آخر، فهذا ما لا أفهمه كثيراً، وهو الحال اليوم بين نجيب والهضيبي".
وكذلك قيادة الجماعة الجديدة لم تفهم علاقة "بن نبي" المتميزة بالحكومة المصرية، ولم تغفر له كتابه "الإفريقية-الآسيوية" المساندة للثورة المصرية والوحدة العربية التي دعا لها عبد الناصر، والذي نشر بعناية الحكومة المصرية.
ورأى فيه "بن نبي" أن الإخوان ظلوا أبعد ما يكون عن طرح القضايا الأساسية للعالم الإسلامي، وركزوا على "الإسلام الوعظي" و"الإسلام السياسي" وغفلوا عن الإسلام الحضاري، فيقول: "كانت العين السائدة التي تبصر وترى وتعاني من قصر شديد في النظر، لذلك فبالكاد كانت تستطيع فهم "الإسلام السياسي" أو "الإسلام الوعظي"، أما الحديث عن الإسلام كحضارة وكمعادلة، ومخطط بياني للصعود والهبوط، فقد كان شديد الصعوبة على الالتقاط من قبل تلك المستقبلات التي تَقولبت على مصطلحات "الإسلام السياسي" و"الإسلام الوعظي".
وكان سيد قطب قد أدخل معاني جديدة في الجماعة، ومن ذلك "العزلة الشعورية" والحكم على المجتمع بـ"الجاهلية"، وأن على المسلم أن يسمع القرآن وينفذه، ولا يأخذ إلا من المصدر الوحيد الذي ربى الصحابة وهو القرآن. وخطابه الحاسم والساخط على الواقع، وأسلوبه في تمجيد العظماء والتاريخ.
بينما كان "بن نبي" يرى إبداعاً كبيراً لحسن البنا في الحديث عن القرآن، حين يقول فيه: "إنّ الرجل يمتلك قدرة عجيبة، حيث تتحوّل الآية القرآنية على لسانه إلى أوامر حية تملي على الفرد السلوك الجديد، وتدفعه إلى العمل دون تردّد".
وبدأ الخلاف يتدحرج مع "سيد"، حول مفهوم الحضارة، التي لا تعني الإسلام بالضرورة في نظر "بن نبي"، فقد يكون المجتمع المسلم متخلفاً، والدولة فيه ظالمة وخارج عن الحضارة.
وانتقد "بن نبي" "سيّد" دون ذكر اسمه، وقال: وقد أراد أحد هؤلاء المفكرين أن يخط برنامج عمل اختار له عنوان "نحو مجتمع إسلامي متحضر"، ولكنه فكّر، ثم غيّر العنوان إلى "نحو مجتمع إسلامي"، ويعلق فيقول: "عندما يعتقد هذا المفكّر المحترم أو يريد إقناعنا بأنّ مجتمعاً مسلماً هو متحضّر بطبعه، فهو يتجاهل القضية الكبرى للعالم الإسلامي".
ورد عليه "سيد" في "معالم في الطريق" "ولفت هذا التعديل نظر كاتب جزائري يكتب بالفرنسية، ففسره على أنه ناشئ عن عملية دفاع نفسية داخلية عن الإسلام. ثم يقول: "أنا أعذر هذا الكاتب، لقد كنت مثله من قبل، كنت أفكر على النحو الذي يفكر هو عليه الآن".
ورفض "بن نبي" مقترحاً بتوحيد الحركة الإسلامية على قاعدة كتاباته وكتابات سيد قطب والمودودي، ورأى أن ذلك سيفضي إلى الفوضى وليس إلى الوحدة، باعتبار الخلافات المنهجية القائمة بين المفكرين الثلاثة.
ولكن لم يمنع مالك أن يثني على سيد، ويعبر "عن عمق احترامه لرجل ظلّ وفياً لأفكاره حتى النهاية، واختار الشهادة على الخيانة".
إننا عندما ننظر بعيون الكبار، إلى تلك الأفكار الشاهدة على القرن، وذلك البناء المجدد للقرن نرى فيه ثراءً وإبداعاً وتكاملاً بين المدارس. تحضر فيه المعاني والأفكار، وترى فيه سمو النفس وأخلاق الأبرار.
وعندما ننظر له بعيون الصغار، أو "إنسان الضد والنصف"، فترى فيه التضاد والتضارب، وترى فيه نصف المعنى ونصف الخلق، وتحضر فيه الذات وتغيب الفكرة، وتحضر الشحناء ويغيب الإخاء.
لم يختلف "بن نبي" مع البنا، واختلف مع بعض تلاميذه اختلاف الكبار. ولم يختلف تلميذ البنا "محفوظ نحناح" في الجزائر مع أستاذه "مالك بن نبي"، وقد سبقه بالتعريف بـ"البنا" وحركته لشباب الجزائر، وكان يكبره بـ36 سنة، وجمعهم مسجد الجامعة في جمعة أمَّها الشيخ "محفوظ نحناح" وحضرها المفكر"مالك بن نبي" واثنا عشر من مؤسسي مسجد الجامعة المركزية، كانت النواة الأولى للحركة الإسلامية في الجزائر.
وتوالت أحداث كثيرة واختلافات واختلالات، لا أسمح لنفسي بالتحدث فيها في حياة من عاصروه، وكانوا جزءاً من تلك الحقبة التاريخية.
لنقل أخيراً: إنه لم يكن الاختلاف خطيئة ولا بدعة، بل كان سنّة اجتماعية من لدن ابني آدم، وموسى وأخيه. ولكن، فرق بين اختلاف الكبار الذين جعلوا منه ثراء وورثوا الإنجازات والأفكار، وبين اختلاف الصغار الذين ورثوا الانشقاق والاندثار.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.