كانت مُقابلتي الأولَى مع السجينِ الشيخ (م.ح) حين تم ترْحيلنا من أحد السجون المَركزيةِ بالقاهرةِ إلى أحد السجونِ الصحْراويةِ في الجنوبِ. كُنّا خَمسةَ أشخاص في سيارةِ الترحيلاتِ، وكُنتُ مُقيد اليدِ مع السجينِ (ع)، وكانَ الشيخُ (م.ح) مُقيّدَ اليدِ مع سجينين آخرين هما (ع.ف) و(خ.ق). لمْ أتبادل الحديثَ معهُم قط في هذه الرحلة العَصيِبة التي تحولت إلى مشاهد عنيفة من التعذيبِ الجسدي والنفْسي عند وصولي إلى السجنِ الجنوبِي.
مرت الشهور مُنذ وصولنا إلى ذلك السجن، حينَ أتَى لي الشيخُ (م.ح) بالقُربِ من زنزانتي الانفراديةِ وخَاطَبَني من خلال (الهوّايةِ)، وهي باب حديدي تتخلله بالكاملِ فتحاتِ حديدية لتهويةِ الزنزانةِ، وطلب التحدثُ معي لمُناقشتي في أمر ما، وحين أجبته بالموافقة، طلب من مُخبر العنبر فتح زنزانتي من أجْلِ التحدثِ مَعي قَليلاً.
كان (م.ح) قَدْ تم تعْيينه من قبلِ إدارةِ السجنِ المُمثلةِ في رَئيسِ المباحثِ والمأمورِ كـ مُسَيِّر لشؤونِ الدواعش داخل السجن، فأصبح بإمكانه التحرُّك بحُرية بين العنابر، حيثُ كان السُجناء السياسيون مُقسّمون على جميعِ العَنابِر دون تجْميعهم في عنبرٍ واحد، وذلك لتخوفاتِ إدارة السجن من اتحاد السُّجناء في أوقاتٍ مُعنية للضّغْط الجَمَاعي من أجلِ تنفيذ مطالب ما.
دخل (م.ح) إلىَ زِنْزَانتي وكانَ طَوِيل الْقَامَةِ وعَرِيض الْمَنْكِبَيْنِ وضَخْم الجَسدِ، ولِحْيَته كَثيفة بَيْضاء ووجْهه ذا حُمرة، ويبدو عليه أنه في آخرِ العقْدِ الخامسِ من العُمر. رحبتُ به وطلبتُ منه الجلوس، فجلسَ علىَ فَرشَتي. لمْ أقدم له شيئاً ليشربه، حِينها بخبثِ قال لي ألن تُقدم لي شيئاً؟ فأجبته بأنه يعْلم وأنني أعلم أنه لن يشرب أو يأكُل شَيْئاً أملُكه وهو يُصنفني كافراً بالله، ابتَسمَ حِينَئذٍ ولمْ يُعَقّب.
أرادَ الحديث مَعي بخصوصِ مَشاكلي مع إدارةِ السجنِ، وبالأخص مُعاون المباحث الذي أشرف على تعذيبي أثناء دخولي السجن بتوصيةِ من إدارةِ السجنِ الذي انتقلت منه. اسْتطرد قائلاً لي إنِّ بإمْكَانه إصْلاح الأُمورِ بَيْني وبَيْنَ الإدارةِ وتَهْدئة الأوْضَاع مَعي. أجبته بأنني لا أريد إصلاح الأمور، وأن مُشكلتي قُمت باختصارها في شخص ذلك الضّابِط السّادي حتى لا أدخُل في عداء مع الإدارة بأكْملها، وأنه كان شاهداً على ما تم معي، حِينها استدرك قائلاً إنه لا يُساومني على شيء، وأن مُحاولة التهدئةِ هي مُبادرة منه في مُحاولة لتحسيِن أوضاعي، وذلك حينما لاحظ امتعاضي ولاحت في وجهي بوادر الضيق من كلامه. شكرته على اهتمامه وأجبته بأنني لن أقبل بأي مُحاولة للصلحِ بَيْني وبَيْن الضَّابِط، وأنني مُتَقبّل للوضعِ الذي أتَعَايش مَعه حتّىَ يُفْتَح بابُ زِنْزَانَتي للخُروجِ للحُرية.
قالَ لي أتدْري كَيْفَ أراك يا زين؟ فأومأتُ له بأنني لا أعلم، فقال لي إنه يراني مُخلصاً لما أؤمن به وعنيداً في الدفاع عن كرامتي علَى خِلاف ما يراه من العديد من المُنتسبين للدولة الإسلامية في السجون، وأنه يراني شخصاً ذا ثِقة ولكن ينقصني الإيمَان والتّوحيد بالله وأن يكون مِنهاجي الإسلام ومسعاي لوجه الله، وأنه حَزين لعدم تواجُدي في زُمْرة المؤمنين ويتمنّى أن يُهْدِني الله وأن يدخل الإيمان قلبي، واستشهد بالحديث النبوي: ''فَخِيارُكُمْ في الجاهليةِ خِيارُكُمْ في الإسلامِ''.
لم أُرِد التَعْقيِب علىَ كَلامه حَيثُ كُنت أرىَ أنّ هَذا النقاش لنْ يُؤدي إلىَ نتيجة، إلا أنني قُلت له على الرّغْمِ مِنْ أنّ حُريتنَا مُصادرة وأجْسَادَنا تُنتهك وأرواحَنا تُسْلب، إلا أننا ما زلنا نُفَتِّش عن إيمانِ البعض!
توقفنا للحظاتٍ عن الحديثِ، ثم قَطَعَ (م.ح) الصَّمْت بسُؤالي عنْ وجهة نَظَرِي عنْهم، فسَألته هل تقصد وجهة نَظَرِي عن الدواعشِ في السجنِ؟ فأجاب بل عن الأخوة في الدولةِ الإسلاميةِ دولة الخلافة داخل السّجْن. أخبرته بأن من خلال مُلاحظاتي في بعض السجون التي انتقلت إليها وجدت أن هناك العديد من الاختلافات الجوهرية بين أنصار داعش داخل السجن. وجدت الاهتمام يغزو قسمات وجهه دون أن يُقاطعني مُعترضاً حين قُلت داعش هذه المرة. ثم أخبرته بأنني قُمت بتقسيم الدواعش إلى ست فئات داخل السجون، فتعجب قائلاً لي: ''أقمت بتقسيمنا؟!''. قلت له نعم وكان من أسباب ذلك هو إعلانكم العلني عن مُبايعتكم لتنظيم الدولة الإسلامية وأنتم داخل السجون تحت أعين جهاز الأمن الوطني القائم على إدارة السجون، فكان ذلك يُثير ريبتي وكنت أتساءل: كيف لسجين أن يُعلن عن مُبايعتِه لتنظيمِ يقوم بعملياتِ إرهابية داخل مِصر؟! لم يكُنْ هذا التَّسَاؤل من قبيل دهْشتي عن كيف يُبايِعون تنْظيماً يُرهِب مواطني البلد كما لم يكن أيضاً من قبيل البَحْث عن وَطَنيّتهم وانْتمَائهم، ولكن كان نابعاً من كيف يُعْلِنون ذلك وهم داخِل السَّجْن تحت أعيُن أمْن الدّولة، ألا يَخْشَون تدْويرهم في قَضَايا أخرى، أو أن يتم تصفيتهم، فكان ذلك يُثير ريْبَتي، فهُناك فَارق كبير بَيْنَ أن يَقوم جهاز أمن الدولة بتصْنيفك، وبَيْن أن تكُن أنتَ منْ يُصنّف نَفسه.
في المقالِ القادمِ سأستَكْمِل بَقِيّة حَديثي مع (م.ح) مُسَيِّر الدّواعِش عن التصنيفاتِ الستة للدواعشِ داخل السجونِ.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.