عندما تمشي في شوارع أي مدينة ألمانية ستلاحظ دائماً أن هناك علامات وإشارات معينة تنظم حدود السرعة المسموح بها، خصوصاً في الأحياء السكنية أو بالقرب من مدارس ورياض الأطفال، كما أن بعض الشوارع داخل الأحياء السكنية تُلزم سائق السيارة بأن يسير بسرعة منخفضة جداً تقارب سرعة مشي الإنسان العادي؛ وذلك مراعاة لوجود مساحات داخل هذه الأحياء قد يلهو أو يلعب فيها الأطفال.
وإذا أراد الشخص أن يركن سيارته في أحد الأماكن المخصصة لذلك فسوف يلاحظ دائماً أن هناك أماكن يتم حجزها وتخصيصها لذوي الاحتياجات الخاصة وتكون هذه الأماكن في موضع مُعين، بحيث تراعي القرب من مدخل المكان الذي سيقوم فيه الشخص الذي يعاني من إعاقة- أو من يصطحبه- بإيقاف سيارته فيه، هناك أيضاً مواقف تُخصص للآباء والأمهات الذين يكونون برفقة أطفالهم ويُراعى فيها أيضاً أن تكون قريبة من المداخل وأيضاً سعتها؛ بحيث تسمح بإنزال عربة أطفال أو أكثر (مثل مواقف المحلات أو المراكز التجارية الكبيرة).
وفي المواقف الكبيرة التي تقع تحت الأرض يتم تخصيص قطاعات معينة فقط للسيارات التي تقودها النساء ويُراعى فيها أن تكون مُضاءة جيداً وقريبة من مداخل ومخارج مرائب السيارات، وذلك كنوع من الحماية ضد أي حوادث محتملة قد تتعرض لها المرأة في مثل هذه الأماكن..
وحين تستقل حافلة عامة أو قطاراً ستلاحظ أن الحافلات والقطارات تُصمم بحيث يمكن لمن يستخدمون الكرسي المتحرك الصعود والنزول إلى ومن الحافلة أو القطار بدون صعوبة، كما ستلاحظ أيضاً وجود أماكن ومساحات داخل وسائل المواصلات هذه مخصصة للمعاقين وكبار السن والحوامل وتكون في العادة قريبة من مداخل الصعود والنزول حتى يسهل على من ينتمي لهذه الفئة الركوب أو المغادرة..
وبالنسبة لدورات المياه سواء كانت في حدائق عامة أو مراكز تجارية أو مكاتب حكومية أو تلك التي توجد في الاستراحات بين الطرق السريعة هناك دائماً أماكن مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة أو من لديهم أطفال يحتاجون إلى تغيير الحفاظات..
هذه المراعاة الشديدة لفئات المجتمع المختلفة لا تقتصر فقط على هذا الشكل "الظاهري" الذي يراه المرء في الشوارع والمحلات والطرقات ووسائل المواصلات، إنما تتعدى هذا إلى مراعاة حقيقية وملموسة لأفراد المجتمع في احتياجاتهم ومتطلباتهم التي ترتكز على فقرات وقوانين ومواد تُشكل ما يعرف بالكود أو القانون الاجتماعي الذي يسعى لتحقيق العدالة والرفاهية الاجتماعية بقدر الإمكان لجميع فئات المجتمع خصوصاً الضعيفة منها..
إن القوانين الاجتماعية التي تُطبق في ألمانيا كانت ولا تزال من الأمور التي تثير إعجابي وانبهاري خاصة بالنظر إلى الخلفية التي جئت منها كشخص نشأ وعاش في مجتمع أقرب إلى الغابة حيث لا سيادة للقانون ولا وجود للعدالة إلا في القصص والأفلام، مجتمع لا يُراعي الفرد أو يرحم الضعيف أو يُنصف المظلوم، والحق فيه يؤخذ بالقوة أو بالمحسوبية أو الاكتفاء بـ"الحسبنة" وانتظار يوم البعث والقصاص…!
فهذه القوانين التي تمت صياغتها وتعديلها وتطويرها عدة مرات إلى أن دخلت حيز التنفيذ بشكل نهائي في السبعينات من القرن الماضي تنقسم إلى فصول ومواد وفقرات عديدة، لكنها تهدف في النهاية إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والمساواة، كما أنها تراعي ظروف جميع أفراد المجتمع خصوصاً الفئات الضعيفة فيه مثل الأطفال والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة ومن لديهم إعاقات أو عاهات معينة..
ولا يمكن الحديث بالتفصيل عن هذه القوانين الاجتماعية شديدة التفرع والتعقيد في هذا المقام المختصر، لكن يمكن إعطاء فكرة عامة عنها، فهناك على سبيل المثال فقرات ومواد عديدة تتعلق بالحقوق والمزايا والمساعدات التي تلتزم الدولة بتقديمها لفئات مختلفة من المجتمع، وتختلف وتتنوع هذه الحقوق باختلاف وتنوع ظروف الأشخاص الحاصلين عليها.. فمثلاً العائلات التي لديها أطفال- خصوصاً التي لديها عدد كبير من الأطفال- يمكنها الحصول على مساعدات خاصة ومختلفة من جانب هيئات حكومية مختلفة وذلك كي تتمكن هذه الأسر من توفير مستلزمات ومتطلبات الأطفال المختلفة (وذلك بعيداً عن الاحتياجات الأساسية مثل المأكل والمشرب)..
التلاميذ والطلاب وذوو الاحتياجات الخاصة يحصلون دائماً على تخفيضات أو إعفاءات كاملة فيما يتعلق بتكلفة وسائل المواصلات والرحلات أو تذاكر المسارح والحفلات وكذلك الالتحاق بالنوادي لممارسة الهوايات والأنشطة، هناك مراعاة وقوانين خاصة بالمرأة العاملة "الحامل"، وقوانين أخرى مخصصة لدعم الأمهات أو الآباء الذين يعولون أطفالاً بمفردهم أي ليس لدى أحدهما شريك حياة يساعده في تربية ورعاية الأطفال..
أما فيما يتعلق بالصحة والعلاج، فوفقاً للقانون فإن التأمين الصحي إجباري لكل من يقيم على الأراضي الألمانية.. و"إجباري" هنا لا تعني الإكراه أو الإرغام وإنما تعني أن كل شخص يجب أن يتمتع بتأمين صحي يغطي احتياجاته العلاجية والصحية، فالشخص الذي يعمل يُقتطع جزء من راتبه مقابل التأمين الصحي، ومن لا يتمكن من دفع نفقات التأمين تتكفل الدولة بدفعها عنه إلى أن يتمكن هو من تغطية نفقات تأمينه الصحي بنفسه، الأدوية التي تُصرف للأطفال حتى سن الثامنة عشرة من قبل طبيب مجانية أي لا يدفع الآباء شيئاً مقابل الحصول عليها من أي صيدلية مهما كانت أسعارها مرتفعة، الأشخاص ذوو الدخول المحدودة يدفعون نسبة بسيطة مقابل الأدوية التي قد يقررها الطبيب لهم ويقوم التأمين بتحمل الجزء الأكبر من التكلفة، أما الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة مثل السكري وغيره فيحصلون على تخفيضات كبيرة أو إعفاءات مقابل الأدوية التي يحتاجون لتعاطيها بشكل مستمر..
فيما يتعلق بالسكن فإن هناك قوانين تُلزم شركات العقارات والبناء بأن تخصص نسبة من الشقق والبيوت التي تمتلكها وتقوم بتأجيرها بأسعار مخفضة كي يتمكن العاملون وذوو الدخول المحدودة من استئجارها..
هناك أيضاً مواد عديدة صُممت بعناية لتشمل فئات المجتمع الضعيفة وتضمن حصولهم وكذلك حصول من يقوم برعايتهم على أشكال مختلفة من الدعم والمساعدة، فمثلاً لو كان أحدهم يقوم برعاية أحد أصحاب الاحتياجات الخاصة أو شخص مصاب بمرض جسدي أو نفسي مزمن فإن هناك مساعدة مالية يتم تخصيصها لهذا الراعي نظير رعايته لذلك الشخص حتى لو كان المصاب قريباً من الدرجة الأولى لمن يقوم برعايته مثل أن يقوم أب أو أم برعاية طفل معاق، ففي هذه الحالة فإن قوانين المساعدة الاجتماعية لا تراعي فقط الشخص المُعاق والمحتاج إلى الرعاية بل أيضاً من يقوم برعاية هذا الشخص حتى لو كان ابناً يرعى أمه أو أباً يرعى ابنته، لأن العناية بهذه الفئة من الناس هي مسألة مُجهدة نفسياً وجسدياً، وتحتاج إلى جهد وتفرغ، ومن يتفرغ لمهمة كهذه لن يجد الوقت كي يعمل ويعيل نفسه لذا تُعتبر رعايته لهذا المعاق "عملاً" يستحق عليه أجراً شهرياً بغض النظر عن صلة القربى أو أنه من الواجب فعل ذلك بدون مقابل كما هو سائد في ثقافة بعض المجتمعات الأخرى.
بالطبع أنا لا أتكلم هنا عن "المدينة الفاضلة"، فهناك دوماً ثغرات ونواقص أو حتى تعقيدات في التطبيق بسبب البيروقراطية و الروتين، لكن ما يثير الإعجاب و الاحترام هو أن جميع هذه القوانين الاجتماعية التي تراعي ظروف فئات المجتمع خصوصاً الضعيفة منها، هذه القوانين تُطبق بالفعل وليست مجرد حبر على ورق، فهي تُطبق في كل مكان وتسري على الجميع وتلتزم بها كل الجهات الرسمية، فلا يحتاج المرء إلى وساطة أو محسوبية أو رشوة كي يحصل على حقوقه من خلال هذه القوانين إنما كل ما يجب عليه عمله هو معرفة الحقوق التي تنطبق على حالته ومن ثم التقديم للحصول عليها، كما أن هناك جهات وهيئات رسمية وغير رسمية تتولى مهمة تعريف وتوعية الناس بالحقوق التي يمكنهم الحصول عليها، وفي حالة وجود أي لبس أو إشكال أو ظلم أو انتقاص لحق من الحقوق فهناك دوماً طرق سلمية للتسوية أو الاعتراض أو الشكوى، كما يمكن أن يلجأ المتضرر في النهاية للقضاء الذي قطعاً سينصفه إن كان الحق معه بدون الحاجة لوساطة أو رشوة، وحتى في هذ الجانب هناك مراعاة أيضاً للفئات الضعيفة، فالشخص الذي يريد أن يرفع دعوى ما أو يشتكي على جهة رسمية أو غير رسمية وليس لديه الإمكانية المادية يمكنه أن يتقدم بطلب كي يحصل على مساعدة مادية من الدولة تتيح له توكيل أو استشارة محامٍ..!
لذلك توصف مثل هذه المجتمعات بأنها "متقدمة" ليس فقط من الناحية الاقتصادية أو الصناعية وإنما من الناحية الاجتماعية والانسانية أيضاً، فمهما كانت الدولة غنية ولديها موارد طبيعية وبشرية أو متفوقة تكنولوجياً أو عسكرياً، فإن مقياس تقدمها الحقيقي ورُقيها هو بمقدار انحيازها إلى أفراد مجتمعها ومراعاة أوضاعهم وأحوالهم خصوصاً الفئات الضعيفة منهم ومحاولتها تحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع أفراد المجتمع بقدر الإمكان، والمجتمع "القوي" فعلاً هو ذلك الذي يساند ويراعي ضعفاءه ويضعهم على رأس أولوياته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.