وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبرفقته وفد يتكوّن من سبعة وزراء إلى الجزائر يوم الخميس، واستقبله عبد المجيد تبون. وفي هذه الزيارة يُركز ماكرون على الجوانب الاقتصادية والأمنية المتعلقة بدول الساحل، ويستبعد منها الملفات المتعلقة بالاستعمار.
وقد أعلن مع نظيره الجزائري في مؤتمر صحفي عن إنشاء لجنة مؤرخين مشتركة بين فرنسا والجزائر، تسعى إلى البحث والتحليل في جرائم الاستعمار الفرنسي، وحرب الاستقلال وكشف جوانبها كاملة بلا قيد أو شرط ودراسة أحداثها وتفسيرها بلا محظورات.
وبهذا يؤكد ماكرون أن التاريخ الذي يربط الجزائر بفرنسا هو تاريخ مؤلم، ولكنه لا يشكّل عائقاً أمام العلاقات المستقبلية بين فرنسا والجزائر، لذا يجب النظر إلى المستقبل الاقتصادي بين البلدين، وانتهى ماكرون إلى أنه لا يمكن التخلص من التاريخ.
وفي سياق خطابه ذكر أن القرار المتعلق بإنشاء لجنة المؤرخين المشتركة كان قراراً مشتركاً، من أجل النظر في الفترة الحاسمة منذ بداية الاستعمار إلى حرب التحرير عام 1954 من القرن الماضي، بحرية كاملة، وغير خاضعة لأي محظورات مُطلقاً.
وبحسب ما نقلته بعض وسائل الإعلام العربية عن قصر الإليزيه، بأن ماكرون وهو أول رئيس فرنسي وُلد بعد استقلال الجزائر يتطلع في هذه الزيارة إلى إرساء أسس لإعادة بناء وتطوير العلاقات الثنائية بين الجزائر من جهة، وفرنسا من جهة أخرى.
ووفقاً لما تم نقله عن قصر الإليزيه، فإن ماكرون يستهدف في زيارته هذه الشركات الناشئة والابتكار والشباب والقطاعات الجديدة. وقد وقف ماكرون على مقام الشهيد، وهو تكريم رمزي لشهداء الثورة الجزائرية التي أنهت الاستعمار الفرنسي للجزائر عام 1962 بعد سنوات من الحرب والنضالات..
الدوافع السياسية لزيارة ماكرون للجزائر
زيارة ماكرون للجزائر هي أشبه بزيارة جنود الاحتلال الفرنسي لمستعمراتهم بإفريقيا في الحقبة الاستعمارية، وإن كانت الظروف السياسية مختلفة، إلا أن السياسة الإمبريالية لم تتغير، والعقلية الإمبريالية هي ذاتها مع اختلافات نسبية في لغة الخطاب.
فالرجل قد انسحبت قواته العسكرية من مالي، ويتصارع مع النفوذ العسكري المتصاعد لروسيا في إفريقيا، لذا يحاول التصدي لهذا الملف الاستراتيجي بواسطة إعادة العلاقات مع دولة تملك حدوداً برية مع مالي من جهة والنيجر وليبيا، لذا لا يمكن التفريط بها.
والجزائر أيضاً هي من ضمن الدول العشرة المصدّرة للنفط، وبالنظر إلى الملفات المتعلقة بدول الساحل، فإن إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الجزائر خطوة أساسية من هذه الزيارة التي جاءت بعد أزمة سياسية سابقة نتج عنها شرخ كبير في العلاقة بين البلدين، فبينما أصدرت حكومة ماكرون قراراً بخفض التأشيرات للجزائريين ردت سريعاً الجزائر بمنع الطائرات الفرنسية من التحليق على أجوائها كما استدعت السفير الفرنسي، وهذه الإجراءات كانت في سياق الانتقام والرد السريع على فرنسا.
بالإضافة إلى الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا الذي فرض على حكومة ماكرون هذه الزيارة إلى الجزائر، وإن كان لم يعترف بأن الطاقة على رأس أهدافه في هذه الزيارة، فالواقع السياسي يشير إلى غير ذلك؛ وانطلاقاً من مبادئ السياسة البراغماتية الأوروبية فإن الواقع السياسي والأزمة الأوروبية التي تواجهها دول الاتحاد مع ابتزازات فلاديمير بوتين لأوروبا تؤكد أن الطاقة هي الهدف الرئيسي وراء هذه الزيارة.
والسبب الذي فرض على صاحب فضيحة "بارتي غيت" بوريس جونسن من زيارة السعودية هو السبب نفسه الذي أجبر جو بايدن على التسول وطلب المساعدة من الرياض لكي يستعيد السوق العالمي قوته. وكما يتضح لنا من هذه الزيارات أن الدافع الأول وراءها هو: أزمة الطاقة، وهي الأزمة التي أجبرت ماكرون على زيارة الجزائر، وهي زيارة استمرت لمدة ثلاثة أيام من التفاوض.
التناقضات السياسية لماكرون
ولكن السياسة التي يتعامل بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سياسة عرجاء، أو بعبارة صريحة وواضحة، هي سياسة متناقضة وغير حكيمة، وفي السطور القادمة سأشرح تلك التناقضات في سياق تصريحات سابقة صرح بها ماكرون في مناسبات مختلفة.
وجميع هذه التصريحات إذا تم تحليلها في سياق مفهوم الاستعمار ستساعدنا على فهم بنية التناقضات السياسية في خطابات ماكرون، وتلك التناقضات هي مؤشرات على العقلية والأيديولوجيا التي يتعامل بها ماكرون مع السياسة الدولية، فهي تناقضات تصاحبها أيديولوجية سياسية راديكالية؛ كانت نتاجاً للإرث الاستعماري الفرنسي.
في شهر يوليو/تموز ألقى إيمانويل ماكرون كلمة لقناة تلفزيونية جزائرية بمناسبة زيارة قديمة للجزائر، وفي تلك الكلمة تحدّث عن الحقبة الاستعمارية، وعن جرائم الاستعمار وأن الاستعمار مرتبط بالتاريخ الفرنسي؛ وانتهى في كلمته تلك إلى أن الاستعمار جريمة ضد الإنسانية، وأنه جريمة وحشية ويجب مواجهة ذلك الماضي بتقديم الاعتذار لمن ارتكب بحقهم هذه الممارسات. ذلك هو المعنى الذي أراده ماكرون في تصريحاته عندما كان مرشحاً للرئاسة.
وهذا التصريح واضح من التاريخ الذي جاء فيه، والمناسبة التي قيل فيها، بأنه تصريح للاستهلاك السياسي، فالمناسبة التي قيل فيها هي مناسبة فرضت على ماكرون التحدث عن الاستعمار الفرنسي؛ لأنه كان على أرض ارتكب فيها الاستعمار الفرنسي أبشع الجرائم.
ولا يفهم من ذلك أن ماكرون يستوعب حقيقة تلك الجرائم التي وصفها بأنها ضد الإنسانية التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي، فهو نفسه قد انتقد الاستعمار بعد هذا التصريح عندما أصبح رئيساً لفرنسا، وذهب في زيارة إلى إفريقيا وانتقد الاستعمار وتحدّث عن جرائم الاستعمار أمام الطلبة بجامعة في بوركينا فاسو.
ولكن قبل أن يصبح رئيساً لفرنسا قدّم تصريحاً أثار جدلاً واسعاً، وفي ذلك التصريح توجد حقيقة التناقضات في خطابات ماكرون، فعندما قدّم تصريحه لمجلة "لوبوان" الفرنسية في عام 2016 اعترف بالجرائم التي ارتكبتها مؤسسة الاحتلال الفرنسي في شعب الجزائر، ولكنه أثنى على الدولة التي قامت في ظل الاستعمار، وهذا تخبط واضح، فهو يؤكد على الحضارة التي جاء بها المستعمر، ويشير إلى أن هناك عوامل حضارة جلبها المستعمر وعوامل وحشية.
وفي السنة الماضية تساءل إيمانويل ماكرون أمام 18 شاباً فرنسياً من أصول جزائرية استقبلهم في قصر الإليزيه: هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ بهذا التساؤل كشف ماكرون عن حقيقة الوجه الإمبريالي والإرث الاستعماري المشين الذي يتفاخر به الرجل في خطاباته من جهة، بينما ينتقده من جهة أخرى، والسياسة هي التي فرضت هذه التناقضات على ماكرون، فبينما يتبنى في خطاباته وجهاً علمانياً يسارياً محافظاً يحفظ حرية الشعوب ويدافع عنها بخطابات أشبه بخطابات ما بعد الاستعمار، نجده يعود إلى الظلام بخطاب استعماري أكثر راديكالية من خطابات مارين لوبان واليمين المتطرف؛ ولكن الظروف السياسية دائماً تجعل من الساسة الأوروبيين أشبه بممثلين كوميديين على مسرح السياسة الدولية، وبهذا نؤكد أن زيارة ماكرون للجزائر كانت بهدف المصلحة، وملف الذاكرة هو الورقة التي يتاجر بها ماكرون إذا همَّ بزيارة دول إفريقيا، فهذه الدول تذكّره بأيام الحقبة الاستعمارية وتاريخ أجداده والماضي الاستعماري.
تصريحات ماكرون المتناقضة في مسألة الاستعمار الفرنسي
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مسجون في حقبة مظلمة من تاريخ الاستعمار الفرنسي في إفريقيا، لذا يقف ماكرون حائراً على أعتاب تلك الحقبة الاستعمارية، وفي ظل هذه الصورة المشوهة تخرج سياسة ماكرون المتناقضة إلى المسرح الدولي.
فبينما يحاول ماكرون صياغة خطاب سياسي ينتقد فيه الاستعمار الفرنسي برؤية ما بعد كونوليالية نجده قد عاد ثانية إلى تمجيد ذلك الإرث الاستعماري؛ وبهذا التناقض فشل ماكرون في إيجاد شخصية متماسكة في الخطاب السياسي الذي حاول تقديمه للعالم كله باسم الديمقراطية.
ففي التصريح الذي أدلاه لمجلة لوبوان الفرنسية في عام 2016 وقع في تناقض كبير بين الثناء على الاستعمار والحضارة التي أتى بها وبين وحشية الاستعمار، وذلك هو الوجه الحقيقي الذي يحاول إخفاءه ماكرون فعندما يكون الخطاب موجها للجمهور الفرنسي؛ تكون الكلمات واضحة، بينما إذا كان الخطاب لغير الفرنسيين فإنه سيأخذ شكلاً جديداً ولغة خطابية مختلفة.
والتصريح الذي نقلته محطة جزائرية عن الاستعمار الفرنسي لا يتجاوز حدود السياسة الدبلوماسية، وليس فيه أي منطلق حقيقي يعكس السياسة الواضحة التي يمارسها ماكرون خارج فرنسا، إنما هو تصريح تفرضه حالة الترشح لماكرون للرئاسة بهدف خدمة حملته الانتخابية؛ مما أجبره على نقد الحقبة الاستعمارية بلا وعي.
والنقد الذي قدمه ماكرون للسياسة الاستعمارية ليس نقداً ذاتياً حقيقياً؛ إنما هو متطلب من متطلبات السياسة الطارئة، كان له وقته وجمهوره وأرضه، ولا يعبّر عن القناعات الأخلاقية التي ينطلق منها ماكرون، وهو خطاب جاهز يقدم للجمهور في قارة إفريقيا.
والتصريح الأخير الذي أدلى به ماكرون أمام الشباب الفرنسيين من أصول جزائرية في قصر الإليزيه يشرح حجم التناقضات الداخلية التي يتعامل بها ماكرون مع السياسة، فالرجل يتساءل إذا كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وهنا مؤشر يحمل دلالات تشرح بدقة قناعة ماكرون عن الاستعمار الفرنسي للجزائر، فهو يعتقد أن الاستعمار جعل من الشعب الجزائري أمة عظيمة.
وإن كان هذا التصريح جاء في ظروف انتقامية من النظام الجزائري والعلاقة التي تضررت بين فرنسا والجزائر، إلا أنه يعكس النظرة التي ينظر بها ماكرون إلى الشعوب الأخرى. وإذا ربطنا هذا التصريح بالتصريح الآخر المتعلق بأن الاستعمار قد جلب عناصر حضارية للشعوب المستعمرة وعناصر وحشية نكتشف حقيقة التناقض في خطابات ماكرون السياسية.
والسياسة العرجاء تجعل من ماكرون اتخاذ أساليب مختلفة وتجعله أيضاً سجيناً للماضي الاستعماري الفرنسي البشع الذي ينتقده ويثني عليه، وبهذا التناقض تتكون شخصية الخطاب السياسي لماكرون. فهو مرة يجسد خطاب اليمين المتطرف في تصريحاته الراديكالية ومن الناحية الأخرى يقدم نفسه بأنه مناهض للاستعمار الفرنسي.
وفي جميع تصريحاته يقدم ماكرون أسوأ صورة عن الديمقراطية الفرنسية، والقيم الليبرالية الهشة التي تحاول العلمانية الفرنسية تصديرها إلى شعوب العالم، وعلى أعتاب السياسة الدولية يقف ماكرون حائراً ومتسائلاً في تصريحات متناقضة في جوهرها!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.