يرى المفكر المؤرخ الإنجليز، أرنولد توينبي، شأنه شأن الألماني أوسفالد شبنغلر، أن الحضارة كائن حي، شأنها شأن باقي الكائنات الحية، تمر بالأطوار نفسها التي يقطعها كل كائن خلقه الله تعالى، فتُولد وتموت، وقد تُبعث أحياناً.
يؤكد المفكر المصري، عبد الرحمن بدوي، على هذا وهو يستحضر تأثير ابن خلدون، فيرى أن الحضارات الإنسانية تمر بثلاث مراحل، المرحلة الأولى مرحلة الروح أو سيطرة الدين، وتتميز هذه المرحلة باندفاعية نحو البناء والتعلم محاطة بهالة من القداسة الدينية، ويُرجع اندفاعيتها إلى الحماسة التي يزرعها الدين في قلوب المؤمنين الجدد، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة العقل، والتي تشهد فتوراً للحماسة الدينية، وارتفاعاً لمنسوب العقل الأَداتي نوعاً ما، وفي هذه المرحلة تبدأ الاختراعات والأبحاث والاطلاع والمناظرات، وهكذا تأتى المآثر التي نشاهدها اليوم، وتأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة العاطفة، وتكون الحضارة في نهاية مسارها، وتتميز هذه المرحلة باكتساح العواطف للحياة العامة وفتور الروح والعقل، فتسيطر الشهوات المادية على الإنسانية، وهكذا ترافق الشهوة الحضارة إلى مرقدها الأخير.
وقد شهد التاريخ البشري بروز حضارات عديدة، ولا تكاد تخلو بقاع العالم من اَثار هذه الحضارات، ففي الشرق كما في الغرب، كان الإنسان في كل مرة يسمو بعالمه فيكتشف ويتفنن ويخترع ويؤلف، وهكذا يصنع لنفسه حضارته التي تشهد له، والذي يجمع بين هذه الحضارات غير جمال ماَثرها، هو اضمحلالها.
فيما مضى كانت هناك حضارة هندية، وبابلية وفرعونية، ويونانية، وأخيراً إسلامية، وقد انتهت كل واحدة منها لنفس المصير، الاضمحلال.
لمَ التعجب من أفول حضارة الغرب؟
"أفول الغرب" هو عنوان كتاب الدكتور المغربي "حسن أوريد"، الذي لم يكن معروفاً لكثيرين قبل أن تُنشر صورة خاصة لشيخ الأزهر وبجانبه الكتاب المذكور. ولعلنا، وببحث بسيط سنتأكد أن الكتاب أضحى هدف الكثير من القراء بعد دقائق من الصورة، أو من زوبعة الجدل الذي أثاره، وبالأخص أن عنوانه مستفز للبعض، وجذاب للبعض الاَخر، خاصة أن الرجل الذي بصدد قراءته هو"شيخ الأزهر".
قد يتساءل المرء لماذا كل هذا الجدل حول الكتاب في المقام الأول؟ ومن هؤلاء الذين أثار حفيظتهم، الكتاب أو عنوانه (لأنهم غالباً لم يقرأوه)؟
لو أننا عرضنا الكتاب على فيلسوف كبير كالألماني هابرماس أو على عالم كتشومسكي وغيرهم، فإننا لن نصطدم أبداً بهجوم هو كهجوم شخصيات عربية كالدكتور خالد منتصر مثلاً، ففكرة الكتاب مطروحة في الغرب في أروقة الفكر، منذ بدايات القرن العشرين، وليس بالرهينة، ولعلنا في هذا الصدد نستشهد بكتاب "تدهور الحضارة الغربية" لأسوالد اشبنغلر، الذي وبكل وضوح ينظر لاقتراب سقوط الغرب وأفول حضارته، ويستعرض العوامل والنتائج وفق خبرته ومكانته العلمية.
كذلك توينبي يفعل، وحتى في جانب اَخر غير التاريخ، يطرح عالم النفس الأمريكي الشهير، إريك فروم، الذي يعتبر خليفة فرويد ومصححاً له، فكرة نكوس المجتمعات الغربية لأسباب نفسية واجتماعية في كتابه "مجتمع سوي ".
بالتالي كتاب الدكتور حسن أوريد ليس أول من تحدث عن الموضوع، ولن يكون بكل تأكيد اَخر شخص، ثم الكتاب ليس كتاباً أدبياً بقدر ما هو دراسة علمية لها أسس معروفة لدى المتخصص.
حين يتعجب الدكتور خالد منتصر من الموضوع ويربطه لزاماً كما يفعل في كل طرح بلازمة "الاَخر الكافر والأنا المؤمنة" يتأكد لنا مدى سطحية وضحالة فكر المثقفين العرب، الذين لا يستطيعون، ولسبب مجهول، أن يفرقوا بين ما هو علمي وما هو عمومي، بين رأي الشخص وبين فعل البحث، فعيتقدون أن أي شخص يدرس الغرب ومنجازاته، وينتقد ما وصلت إليه الحضارة الغربية من سيئات، لا بد ولازماً ودون أدنى شك أنه "متطرف إسلامي"، ولعمري لا أجد في ما عُرف من أفكار أشنع من هذه الفكرة، ولو أننا سلمنا بذلك لأمسى ماركس سلفياً، ولأضحى كل من جيجك وهابرماس إخوانيَّين!
المطلوب من الدكتور خالد منتصر التحلي بالصبر والاطلاع أكثر على الكتابات الغربية والقراءة لروادها، والاستقصاء عن أمهات الكتب، لا الاكتفاء بما هو معروض على العامة والخاصة، فكم مرة حكم الناس بخطأ فكرة ما، فأثبت الزمن وعمقت التجربة صحتها، ويتأكد لنا أن قلة اطلاعنا وسوء فهمنا أعمى بصيرتنا عن رؤية الحقيقة. وكما يقول المتنبي:
وكم من عائب قولاً صحيحاً – وآفته من الفهم السقيمِ
ثم يجب على المثقف مهما كانت المرجعية التي ينطلق منها، أن يكون موضوعياً في طرحه، وأن يكون هدفه لا الدفاع عن فكرته كما يدافع عن حياته، بل يضع نصب عينيه هدفاً واحداً "البحث عن الحقيقة".
ولهذا عليه في أول الأمر ألا يلزم فكراً معيناً قراءة واطلاعاً، بل يقرأ لهذا ولذاك، لمن يناسب توجهه الفكري ولمن يجد غصة في تقبل رأيه، فالمثقف، حسب الدكتور علي الوردي، هو هذا، ولقد وجدت أن هذا هو أفضل تعريف للمثقف.
بالإضافة إلى أن شيخ الأزهر لا ينفي، ولا الدكتور حسن أوريد ولا أي شخص، ما وصلت إليه الحضارة الغربية من تفوق، وليس يجد نفسه في عداء مع منجزاتها، وذلك واضح من أنه اختار دولة أوربية للعلاج، وهذا يؤكد أن الرجل يفهم الواقع، ولا يحاول معاندته ولا تجاوزه، فالطب اليوم في الغرب هو أفضل بمراحل من الشرق أو من العالم الإسلامي.
ولا يحق لأي شخص أن يربط بين البحث العلمي، الذي هو هدف صاحب الكتاب، ولا المعرفة التي هي هدف القارئ، وبين حق الشخص في الاستفادة من العلاج، وإذا بالربط، فإن الذي يقرأ كتاب "الأصول الخمسة" يجب أن يصلب بتهمة المروق، وأن الذي يقرأ كتاب "في الثورة" أن يحاكم بتهمة الخيانة سيادة الرئيس، وهلم جرا.
وعلى سيرة سيادة الرئيس، ما لنا لا نرى هذا النقد الذي يوجَّه لكل ما هو إسلامي يوجه للسياسيين، أم أن مثقفينا تخصص إسلامي، فتجد الواحد منهم يتصدر عناوين وسائل التواصل الاجتماعي عند زلة أي شيخ أو مثقف مسلم، لكنه يفعل تقنية "الصامت"، إذا ما تعلق الأمر بغيرهم، حتى لو كانت زلة الثاني تذهب بالبلاد والعباد.
ثم أليس خالد منتصر دكتوراً، أوليس علمانياً، أوليس قد استطاع أن يتخلص من التقليدية، فأين منجزاته الباهرة في مجال تخصصه؟ كم اختراعاً مسجلاً باسمه؟ كم عدد المرات التي استُدعي فيها محاضراً في هارفرد؟ وأين وصل العلمانيون العرب من أولهم إلى اليوم؟
لم أقرأ كتاباً في حياتي لأحد أعمدة الغرب يستشهد بكتابات وإنجازات الأسماء العلمانية التي تتصدر المشهد اليوم، أي ما يعني أنهم لا شيء في مقام العلم.
سيقول القائل حتى المفكرون الإسلاميون ليس لهم ذكر، أقول أنتم تدّعون أنّ تبني العلمانية يصنع العجب ويفعل بالعقل ما يفعل السحر بالعين، أما المفكرون الإسلاميون فلا يدّعون أنّ تبني النظرة الإسلامية يحوِّل المرء لسوبرمان، لا يفعلون ذلك إطلاقاً.
من هو خالد منتصر؟
ليس يهمنا بكل تأكيد الدكتور كشخص، بقدر ما يهمنا كفكر، من خلال متابعتي للرجل وما ينشر، تبين لي أن الدكتور علماني على النمط الفرنسي.
تنقسم العلمانية في الغرب إلى فرنسية "laïcité" وأخرى إنجليزية "secularism " وقد يعتقد المرء أن الأمر لا يتجاوز اللغة، لكن الحقيقة غير ذلك، فمن المعروف فيما يخص موضوع العلمانية أن التجربة الفرنسية غير التجربة الإنجليزية.
ففي فرنسا تبنّى الفلاسفة الموسوعيون philosophes (يتميزون عن philosophers انظر الطرق إلى الحداثة ص7) أمثال دلامبير اتجهاً معادياً للدين والكنيسة، فشنوا هجوماً جاداً على رجال الدين، وتبنوا أفكاراً متطرفة للغاية، ولعل أشهر مقولات التنويريين الفرنسيين ما قاله ديدرو "اشنقوا اَخر ملك بأحشاء اَخر قس".
وقد كان موقفهم مع حدته متماشياً والصراع المرير مع الكنيسة في فرنسا، التي أذاقتهم المر، وعلى عكس هذه التجربة وجد الإنجليزي نفسه في جو من الود والسلام، لا يعكر صفوه صراع مع رجال الدين، ولا مع مؤسسة الكنيسة، لهذا كانت العلمانية الإنجليزية منفتحة على الدين، حتى أن فولتر سجل إعجابه الشديد بالتسامح في إنجلترا أثناء فترة مكوثه هناك بعد هربه من فرنسا.
للأسف الشديد انتشرت في العالم العربي اللائكية لا العلمانية، ولهذا تجد أن أغلب العلمانيين حاقدون على الدين والشيوخ، وهم لم يمروا بتجربة مشابهة لفولتر أو ديدرو، لكنهم يجدون أنفسهم في الموقف نفسه دون مبرر، ومع أن فولتر نفسه يشهد بأن الإسلام كدين لا يعترف بالهرمية الدين وليس لرجال الدين فيه مؤسسة (الإسلام السني لا الشيعي).
لو تمهل العلماني قليلاً، لوجد أن التفوق الأوروبي بدأ مع انحدار المسيحية (عصر النهضة)، وأن تفوق المسلمين بدأ بعد انتشار الإسلام، اللهم إن كان العلماني يرى رأياً غير الذي يراه الكل.
إذاً خالد منتصر لائكي في المقام الأول، وأما في المقام الثاني فهو علماوي، أي إنه يؤمن بقدرة العلم على حل جميع المشاكل، وأن العلم في النهاية هو ما يجب أن نؤمن به ونحكِّمه، وهو رجل تجريبي، أي إنه يؤمن بأن التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة الإنسانية.
ولا أعرف إن كان الدكتور قد اطلع على كتاب "فلسفتنا" للسيد محمد باقر الصدر، فهو كتابٌ يرد، بالتفصيل التام، وبطريقة علمية بحتة على التجريبين وغيرهم، ويبين كيف أن المعارف الإنسانية لها عدة مصادر غير التجربة والعقل.
هل العلمانية هي الحل؟
إن التوجه الذي ينطلق منه الدكتور خالد منتصر قديم، فقبله كثر، ربطوا كل تقدم بالغرب، وكل تخلف بالشرق، بل إن الواحد منهم عبّر بكل صراحة عن رغبته في الارتباط الكامل بالغرب، واعتبره الحل لكل مفسدة والدواء لكل داء.
وفي هذا الصدد يقول سلامة موسى: "[…] لأن الشعب المصري لا يزال في سُحنته ونزعته أوروبياً، فهو أقرب في هيئة الوجه ونزعة الفكر الإنجليزي والإيطالي، فلماذا لا نصطنع جميعاً الثقافة والحضارة الأوروبيتين، ونخلع عنا ما تقمّصناه من ثياب آسيا، هذا هو مذهبي الذي أعمل له طوال حياتي سراً وجهراً، فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب" [اليوم والغد، ص: 8-9].
كما دعا الأديب المصري طه حسين إلى ضرورة الانصياع للغرب والسير على منواله، وإلا فإننا سنعاقَب بما نستحق، يقول: "التزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة ونسلك طريقها في التشريع، ولو هممنا الآن بأن نعود أدراجنا، وأن نحيي النظم العتيقة، لما وجدنا لذلك سبيلاً، ولوجدنا أمامنا عقاباً لا تُجتاز ولا تُذَلَّل تقيمها أوروبا لأننا عاهدناها" [مستقبل الثقافة في مصر، طه حسين، ص:36].
إن المطلوب -إذًا- عند سلامة موسى وطه حسين وجُلّ العلمانيين ليس تطبيق مبادئ العلمانية من حقوق وحريات… إلخ، ولو كان ذلك؛ لما احتقر سلامة موسى وطه حسين ماضي الناس، -فالعلمانية ترفض ذلك نظريّاً على الأقل-، أم أنها علمانية حسب الطلب والمزاج؟
بالتالي، فإن الغاية لكل دعوة علمانية اتباع الغرب في كل تفصيلة صغيرة كانت أم كبيرة، ولهذا يقول سلامة موسى "لغرامي بالحضارة الغربية الأوربية فإني أحث بني وطني أن يلبسوا القبعة؛ لأنها تبعث على العقلية الأوروبية" [سلامة موسى، ص: 135- 136].
يقف د. علي شريعتي موقفاً مضاداً فيقول: إن كل من يريد أن يصير متحضراً عليه أن يستهلك الحضارة التي يصنعها الغربيون، وإذا أراد أن يرفضها فليظل وحشياً وبدائيّاً، ويقول السيد موريس تورز إنه لا يوجد شعب باسم الجزائر، ذلك أنه يريد أن يتجاهل تماماً حضارة شمال إفريقيا العظيمة، وكل ما كان لدى الغرب هو (أغاني رولان) في ذلك الوقت كان المكان الوحيد المتحضر في أوروبا هو إسبانيا أو الأندلس" [العودة إلى الذات، ص: 37]
للأسف يعتقد كثر أن اتباع الغرب هو الحل النهائي، وهكذا يرون الحداثة كمرجعية نهائية لا ريب فيها، وهم أنفسهم حين ينتقدون الفكر الإسلامي يركزون على مسألة اللامراجعة، أي إنهم يرون أن الشرع الإسلامي مسألة فيها نظر، بينما الحداثة مقدّسة، مَن انتقدها فهو جاهل غارق في الظلمات، ساكن في خيمة في قفار الربع الخالي معتمر لعمامة، راع للماشية، متطرف ولا بد.
ثم ليس بالضرورة أن نقلد أوروبا حتى نكون مثلها، فنحن نمتلك نماذج إسلامية هي خير من أوروبا، وأقصد الأندلس في العصور الذهبية؛ كما يوجد نموذج عالمي استطاع بناء تفوقه بالاستناد إلى تراثه الخصب، دون الحاجة لاتباع أوروبا وهو اليابان؛ زد على ذلك، أن العلمانية لا تطبَّق في الدول المتقدمة فقط، بل تعتمدها دول متخلّفة كالهندوراس وتوغو وغيرها، وتبنتها من قبل حكومات شديدة التطرف والعنف كالفاشية والنازية والستالينية والماوية في الصين، إلا أنّ العلمانية لم تنقذ هذه الدول من الفقر والتطرف، فلماذا؟
ولعل الجواب بسيط وواضح، فالعَلمانية ليست المنتَج الكامل، وليست المقولة الخالدة التي تُسقى بماء الشباب الدائم الذي تحكي عنه الأساطير، وليست الدواء لكل داء؛ وشعار "العَلمانية هي الحل" كذبة اعتادت الأفواه ترديدها كما تُردد الببغاوات الكلمات والجمل، دون إدراكٍ للمعنى.
نهاية لا بد منها
كدت أغفل قضية مهمة، وهي أن الدكتور خالد منتصر قد يكون في تعليقه بعض الصواب، وذلك إذا ما قلنا إن قراءة الكتاب في لحظة استفادة الدكتور أحمد الطيب شفاه الله تعالى، غير مناسب، لأنه لتوه استفاد من الغرب، هذا ممكن إلى حد بعيد لو أن الدكتور خالد يتبنى العلمانية الإنجليزية، ولو أنه لا يظل اليوم كله ينتقد الدين فقط.
في رأيي المتواضع أن على الدكتور خالد، وعلى القنوات الثقافية أن تعيد المناظرة إلى الساحة، فعوض أن نستمر في الكتابة، كل من موقعه، لماذا لا يلتقي الدكتور خالد بالشيخ أحمد الطيب لا كشيخ للأزهر، بل كمثقف وخريج للسوربون، في مناظرة على المباشر، ولنرى ما في جعبة كل فريق، فنكسب أجرين، أجر نقل العلم إلى العامة، وأجر كشف حقيقة كل فريق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.