تحتاج النصوص الأدبية إلى قراءة عميقة، وكلما تعمَّق القارئ في النص اقترب من بنية النص واستطاع أن يتأمل فيها من الداخل، والتأمل مرحلة عميقة من مراحل قراءة النصوص في الأدب. وبالتأمل يسافر القارئ بذهنه إلى أعماق مخيلة الكاتب ونفسه.
وعندما يمارس الذهن رياضة التأمل في النص يستبصر بسهولة المعاني الدقيقة التي تقوم عليها أفكار الكاتب فيقوم بشرحها بدقة. وكلما كان الشرح بليغا دل ذلك على قوة فهم القارئ للنصوص، فهو وحده من يقترب من حدود المعاني في ذهن الكاتب وشرحها.
والأدب في حقيقته مرآة تنعكس فيها صورة المجتمع الإنساني، والأدباء هم الأدوات التي تنقل المعاني الحلوة من واقع الحياة إلى النص. وهم القوة الروحية التي تمد النص بالحياة وتجعله نابضاً، والكتابة هي العملية التي يتم فيها نقل تلك المعاني وانتزاعها من الحياة بصورة، ووضعها داخل النص بصورة مختلفة وحيوية.
وأدب الرافعي هو من الأدب الراقي الذي يستخرج معاني الحياة من أبسط الأشياء، وفي كل شيء يتأمل فيه الرافعي يخرج منه بأسرار عظيمة توجد بها حقيقة الأشياء مفسرة بعمق في معانيها، لذا لم يترك الرافعي مناسبة صغيرة إلا واستخرج منها حِكماً.
والأبوة التي أحاول الكتابة عنها هي أبوة فوق الطرح النسوي، الذي يحاول إعادة التأمل في المجتمع الأبوي والذكوري في خطاباتهن. وهي خطابات راديكالية مؤدلجة خالية من المنطق والتأمل معاً. وليس فيها أي نظرة سوية تجاه الفرد والمجتمع، لذا فهي أطروحات تائهة. وخالية من المنطق والفلسفة وعدائية في جميع اتجاهاتها، وتحاول تفسير التمايزات الجندرية وفقاً لرؤيتهن المتطرفة تجاه المجتمع الأبوي، وهو مجتمع تسود فيه الرحمة والرفقة والوفاء.
والأدب النسوي عموماً يفتقر إلى مثل هذه النظرة الأبوية الرحيمة التي أناقشها الآن في نصوص الرافعي، فالأدب النسوي مؤدلج، وتغلب عليه نظرية الصراعات الجندرية وضرورة التخلص من الأدب الذي يهيمن عليه الرجال والآباء كما تتصوره عقول النسويات.
وفي الأدب النسوي نحن نفرق تماماً ما بين المدارس النسوية المتقاطعة اتجاهاتها ما بين نسوية ماركسية ومحافظة وراديكالية، بالإضافة إلى الخطاب النسوي الذي يستمد قضاياه من فلاسفة ما بعد البنيوية ونماذجها المتشعبة بين دريدا وفوكو.
والأدب النسوي المتأثر بسيمون دي بفوار وإشكاليات الهوية الجندرية، ومحاولة تفسير التاريخ الإنساني وتحليل التراث، انطلاقاً من رؤية نسوية تستبعد التاريخ الذي أسهم فيه الآباء، وهذا المقال لا يناقش التاريخ النسوي ولا الأدب النسوي.
والأبوية الأدبية التي أتحدث عنها موجودة في النص المتعلق بزفاف ابنة مصطفى صادق الرافعي، في هذا النص نجد أبوية راقية تشع منها معاني الحياة داخل النص، كما تضيء الحكمة الأدبية في قالب من البيان لا مثيل له في تاريخ الأدب العربي.
يبدأ الرافعي مقاله في وصف المكان الذي سيقام فيه العرس، وينطلق من المكان الذي وقفت فيه العروس بجلوتها، ويبدأ تحليلاته النفسية التي يربط بينها وبين فرحة العروس بيوم زفافها، وهو بهذا التحليل يسافر بين الماضي الزمني المتعلق بالعروس وحاضرها، ويتأمل في معاني السعادة وهي تتحرك في قلب العروس وتغطي وجهها بالسعادة والفرح، الذي تحقّق روحياً ووجودياً في هذا المكان الساحر.
ويصف بأسلوبه الأدبي خروج أحلام العروس من تحت النوم إلى اليقظة؛ إشارة بليغة يجسد من خلالها اللحظة الزمنية التي تخرج فيها العروس إلى الناس، بعدما كان زفافها حلماً وخيالاً، وأصبح حقيقة ماثلة أمام العين. ثم يستمر في وصف المكان بشكل درامي دقيق فيه الضوء والموسيقى، وفيه أيضاً الأزهار بألوانها الساحرة، ويضع تشبيهات بليغة بين الموسيقى والشعر ويشبههما بالقصيدة البارعة، وفي تلك القصيدة يصبح المكان ومَن فيه كسحر الموسيقى والشعر.
بعد ذلك يضع الرافعي لمسة بيانية بليغة، من خلالها يصنع الزمن داخل النص الأدبي، ويُشعر القارئ بالليل وبنجومه، وبالقمر وهو في السماء والنجوم حوله، ويضع القارئ في لوحة كونية بيانية، تستمد سحرها وجمالها من النساء وهن حافّات حول عرش الورد.
ويُبدع الرافعي كلمات عن الربيع والأزهار والنباتات، لينتهي إلى أن عرش الورد تحيط به الأزهار من جميع الاتجاهات بألوانها المختلفة، وتحت أقدام العروسين باقة من الأزهار والورد الأحمر.
وعلى هذه الأزهار توجد منصة وُضع فوقها كرسيان يتوهج منهما الذهب، في منظر جميل يجلب الفرح والسرور إلى النفس البشرية.
وتدلّت على العرش قلائد المصابيح التي تتموج بالنور في المكان، وتسطع بأنوارها، وكلما أضاء المكان بذلك النور ازداد بضيائه جو العروس وأضاء الجو والقلوب، وهنا يصف الحضور. وبعدها يأتي المشهد الدرامي مع خروج العروسين وبرفقتهما العذارى يحملن باقات الزهر في لباس أبيض، ومن أجسامهن تفوح رائحة العطر. وبين أيديهن باقات الورد المختلفة بألوانها الساحرة.
وبعد دخول العروسين يركز الرافعي على تلك الطفلة التي جلست تحت ربوة من الزهر دون أقدام العروسين، وفي يدها باقة من الورد الأبيض، ويضفي الرافعي تحليلاته العميقة عن الطفلة وأثرها في المكان، وكيف استطاعت ببراءتها أن تضع في المكان معاني الطفولة، ومع الطفلة يؤكد الرافعي على زيارة الملائكة لهذا الزفاف، إشارة إلى براءة الأطفال.
وبعد هذا المشهد يحلل الرافعي معنى السرور في النفس البشرية، ويجزم بأن السرور لا يأتي إلى النفس إلا بصورة جديدة، وبهذا المعنى يتحقق السرور داخل النفس البشرية، مشيراً إلى التجدد.
والطبيعة بحد ذاتها تتجدد في نفوسنا كل يوم تشرق فيه الشمس ويتعاقب فيه الليل والنهار، وبهذا التعاقب يكون معنى الجديد.
ويصف الرافعي عرش الورد كيف كان جديداً على نفسه، وكيف تفاعلت معه نفسه، لأنه كان جديداً على نفسه وعند نفسه، ويؤكد أن صباح يوم عرش الورد نزل على قلبه بروح الشمس، وجاء مساء ليلته على قلبه بروح القمر، وكان يمد عقله بأفكار عظيمة.
ويكتشف الرافعي أن الفرح سر من أسرار الطبيعة، وأن كل ما خلقه الله جمال في جمال؛ فإنه تعالى نور السماوات والأرض. ويختم الرافعي عرش الورد بهذا الدعاء:
"يا نسمات الليل الصافية صفاءَ الخير، أسأل الله أن تنبع هذه الحياة المقبلة في جمالها وأثرها وبركتها من مثل الورد المبهج، والعطر المنعش، والضوء المحيي؛ فإن هذه العروس المعتلية عرش الورد: هي ابنتي…" (عرش الورد، وحي القلم ج١).
تلك هي الأبوة الأدبية في عرش الورد التي تعاطف بها الرافعي في حفل زفاف ابنته وهيبة؛ فكانت مادة لهذا المقال المفعم بالعاطفة الأبوية والأدب الأبوي الراقية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.