كيف سرقت إسرائيل تراث الزهور الفلسطينية وسمّتها بأسماء عبرية؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/08/21 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/21 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
زهور فلسطينية / تويتر

"سلبوا الأرض.. والآن يسرقون الزهور!

الزهور روح الأرض.. بناتها اللاتي تحملهن داخل أحشائها، وتلدهنَّ لتتزين بهن وتتعطر من شذى عطرهن.. ينثرن الحياة في كل مكان، لعلهن يُزحنَ الحزن عن قلب الكسير العليل، ويدخلن الحبور على نفوس المتعبين؛ لذلك، أليس حقاً علينا أن نحفظ الزهور كما نحفظ الأرض؟ من منا لم يصنع في طفولته طوقاً من أزهار الأرض يضعه إكليلاً على رأسه أو رأس والدته أو من يحب؟ من منا لا ترتبط ذكريات الوطن والصبا في ذهنه بزهور الأرض التي تنبت في الخريف والشتاء والربيع وحتى الصيف؟ أليست زهور فلسطين جزءاً من هويتنا وفلسطينيتنا؟ كيف يكون عليه الحال ونحن نشهد بأم أعيننا سرقةً منظمةً للزهور وتسميتها بمسميات لم تحملها ذات يوم، منذ أن سكنت الحياة الأرض وحتى الآن، بعد أن سرق الأرض وشوهَ معالمها؟

برغم صغر مساحة فلسطين فإنها تتميز بتنوع تضاريس السطح وتنوع التربة، الأمر الذي أدى إلى تنوع حيوي عام وتنوع في النباتات البرية والأزهار بشكل خاص.. 

يقول المدير التنفيذي لجمعية الحياة البرية في فلسطين عماد الأطرش، إن التعدد في النباتات البرية بفلسطين يعود إلى تنوع عناصر النظم المناخية، ويقدر عدد أنواع النباتات البرية في فلسطين ب2700 نبتة برية تقريباً، لافتاً إلى أن النظم المناخية تمتاز بنباتات محددة تتأقلم مع عناصره، ويساعد التغير المناخي في عملية إزهار النباتات.

ويضيف الأطرش، أن التغير المناخي يميز المناطق الغربية لسلسلة جبال القدس بكثرة الغطاء النباتي إلى حد كبير، مقارنة مع المناطق الشرقية، كأزهار شجر اللوز التي تزهر في المناطق الغربية بشكل أفضل منها في المناطق الشرقية لسلسلة جبال القدس، مؤكداً أن العوامل المناخية لها تأثير واضح في ذلك، من حيث كونها مناطق ساحلية، تمتاز بوفرة الأمطار، وتعرضها للشمس.

يعم الفرح القلوب لدى ظهور الأزهار في بدايات موسم المطر.. النرجس يكون أول المطلين علينا بعبقه الزكي وشذاه، ينبت في ثنايا الصخور وأمام سيقان أشجار الزيتون والخروب والسنديان.. وعلى أطراف الوديان وجوانب السهول.. زهوره الأنيقة ذات البتلات البيضاء المترفعة شامخة الرأس التي تلتف حول كأس صفراء فاقعة تسارع لتزيين الأرض التي جففها حر الصيف.. تسير على خطاه أزهار قرن الغزال وتسارع بقية زهور الأرض ذات الألوان الزاهية والعبق الذي لا يُنسى إلى اللحاق بالركب والانتشار فوق تراب الأرض المباركة بجرأة مؤكِّدةً فلسطينيتها.. 

اعتاد الفلسطيني أن يأكل من خيرات الأرض ونباتها.. الخُبيزى، الرِّجلة أو البقلة، اللوف، الزعتر، الميرمية، الزعمطوط، اللسينة، الحميض، الهيليون… وغيرها.. يقطفها من ثنايا الأرض ليسد بها رمقه، يقطف أوراقها أو أزهارها أو حتى سيقانها ويجففها ليحفظها للاستعمال على مدار العام بحسب حاجته ويحرص على إبقاء جذورها تتشبث بالأرض وبذورها لتنتشر في كل مكان لتنبت في العام المقبل.. فهو لا غنى له عنها.. فكيف لكأس شاي لا تعطره الميرمية أن يُشرب؟! وكيف لغداء شتوي لا تحضر فيه الخبيزى أو اللوف أو العِلِك أن يؤكل؟!

ولكن، ومنذ أن احتُلت فلسطين عام 1948 تغير الحال إلى النقيض.. أقبل وافدون جدد لم يألفوا طبيعة المنطقة وتضاريسها والحياة البرية فيها، ولا يعرفون قيمة هذه الأرض ولا قيمة كل ما يعيش فوقها من كائنات.. لذلك لم يكن لديه أدني شعور بوخز الضمير وهو ينسف الجبال ليشق الطرق والأنفاق والجسور، ولم يشعر بسوء وهو يقتلع أشجار الزيتون والتين والخروب والبلوط والصنوبر التي سكنت هذه الأرض قبل ولادته وليس قبل قدومه إلى هنا، ولم يداخله أي ندم وهو يقضي على أصناف بأكملها من النبات والحيوان والحشرات ويدفع بها إلى الانقراض، ويغير من طبيعة المنطقة ويُربك التوازن البيئي المتأصل فيها.. جاء إلى هنا وهو يعادي كل شيء، ويحمل في جوفه حقداً بشعاً أفرغه على شكل عدوان لم يسلم منه حجر أو شجر أو بشر، ويدَّعي أن إلهه قد وعده بهذه الأرض!

وبعد أن سيطر على الأرض، وغيَّر معالمها، انتبه إلى أن الاهتمام بالبيئة رقي ضروري يلزمه ليظهر بمظهر العصري المحب للسلام.. ولاحظَ أيضاً الثراء الكبير في الحياة البرية، حيوانات كانت أم نباتات.. فبدأ بحصر أعدادها وأصنافها وأنواعها، وانطلق يُنشئ المحميات الطبيعية مدَّعياً أنه يحرص على الطبيعة ويهتم بها.. رغم أنه في نواحٍ أخرى يجرف التربة ويحفر الجبال ويلوث الينابيع وعيون الماء ويجفف بحيرة الحولة ونهر الأردن والبحر الميت ويقضي على موائل الحيوانات والنباتات ليبني مكانها مستوطناته ومشاريعه الضخمة لإنشاء الطرق الالتفافية والجدران العازلة والمشاريع العمرانية والمائية الكبيرة فوق الأرض الفلسطينية، غير عابئ بأنواع النباتات والحيوانات التي يُعدمها خلال ذلك ويؤدي إلى انقراضها.

الأزهار البرية في التراث الفلسطيني الموروث

يا زهرة السوسن السمراء ترفَّقي*** فقلبي يهواك إن كنت لا تعرفي

ارتبط الفلسطيني دوماً بأرضه وما ينبت عليها، أحبها.. بل عشقها، وبما أن النباتات البرية وأزهارها كانت جزءاً مهماً من حياة الفلسطيني؛ نراها حضرت بوضوح في التراث، ما بين أمثال شعبية، وغناء، وحتى حكايات. فقال الفلسطيني في الأمثال: "طلع الرنجس والحَنّون انظب بدارك يا مجنون".. وغنى في أعراسه:

باب البوابة لأزرع لك رنجس*** خايف يا حلوة عمرك تينقص   

يالله عالدبكي يا بنت نرقص*** ونغني سوا على دلعونا          

وقال عن الزكوكو أو قرن الغزال أو عصا الراعي:

يا زريف الطول يا أبو عيون اوساع***  سارح ع الزيتون برفقة الملاح

يا زريف الطول ساري ع البرية ***  راجع بالزكوكو للحلوة الصبية 

وغنى أيضاً:

على دلـعونا هي يا دَلعِـتنا*** ويـش اللي جابك على حارتنـا

أتمنى من الله تصيري جارتنا*** ويطلع الحنون في البساتينا

وقال:

يا بيت الشّعر يا بو الشقايق*** يا اللي حولك نابت زهر الشقايق

والله يا خَـلق كلامي لايـق*** من شـوف العذارا دورت مجنونا

استهداف أزهار فلسطين بالتهويد

يقول السلوادي، وهو مصور فلسطيني يوثق أزهار فلسطين بعدسته، وقام برصدَ غالبيتها في كتاب خاص، بعنوان "أرض الورد" والذي يعدُّ بمنزلة موسوعة مصوّرة: "لقد بدأ الاحتلال في نشر أسماء النباتات المتأصلة في فلسطين باللغة العبرية على صفحات الإنترنت ونسبها إلى أصول إسرائيلية"؛ وكمثال على ذلك زهرة "دم الغزال أو شقائق النعمان" التي غيروا اسمها إلى "زهرة المكابين" لإضفاء الصبغة العبرية عليها.

 ولكن اجتهد النشطاء لإفشال مساعي الاحتلال، وذلك عبر التغذية المعرفية والمعلوماتية على ويكيبيديا؛ للحفاظ على الزهرة واسمها وموطنها نقيا"ً من التلوث العنصري والسرقات الممنهجة.

رئيس جمعية الحماية البرية، عماد الأطرش، يشير إلى أن هناك أنواعاً متعددة من السوسن مثل: "سوسن الناصرة" و"الشفا غوري"، وهو من النباتات المهددة بالانقراض بسبب نقلها من موطنها ومنبتها لمناطق أخرى، وتعرضها لرش المبيدات والتجريف والرعي الجائر وعدم وجود حشرات للتلقيح.

ولم يسلم الحنّون الفلسطيني من التهويد. ففي عام 2013 أعلنت سلطات الاحتلال عن شقائق النعمان "زهرةً وطنية"، وكانت قد استخدمت رسمها سابقاً في صك العملات وطوابع البريد وشعارات وحدات جيش الاحتلال.

زهرة الحنون أو شقائق النعمان

لم يتوقف الأمر إلى هنا، بل نرى الاحتلال يشجّع الاستيطان في شمال ديار بئر السبع (النقب) عبر إقامة فعاليات رياضية وموسيقية منذ عام 2007 ضمن ما يسمّى "مهرجان الجنوب الأحمر"، وهو احتفالٌ صهيونيٌّ سنوي بين شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط، مع موسم تفتُّح الحنون. 

ويسلّط التهويد أطماعه على زهرة السوسن "الملكية"، التي تنتشر في قرى فقوعة وجلبون في محافظة جنين بالضفة الغربية على وجه التحديد، وهي المنطقة الوحيدة بالعالم التي تنبت فيها هذه الزهرة الفريدة، ليرتبط اسمها باسم تلك المنطقة حيث تشتهر باسم "سوسن فقوعة"، ويشير خبراء البيئة إلى أن هذه الزهرة استوطنت في فلسطين منذ العصور القديمة.  

زهرة سوسن

ويقول الصحفي نواف العامر من نابلس، إن شبح التهويد بات يلاحق زهرة سوسن فقوعة، "الزهرة الوطنية لفلسطين"؛ في محاولة محمومة منه لسرقة الاسم والمعنى.. حيث سعوا لتغيير اسمها من سوسن فقوعة إلى "إيروس هجلبوع"، وإيروس هو ترجمة للاسم اللاتيني والعلمي (Iris)، وجلبوع هو الاسم القديم الكنعاني لجبال فقوعة التي تنمو فيها هذه الزهرة. كما حاول أيضاً خبراء التهويد والتنوع الحيوي إلصاق اسم "سوسن أريئيل" على أنواع أخرى من السوسن التي تستوطن شمال الضفة.

وتحاول سلطات الاحتلال تهويد السوسنة، لكن الجهد الفلسطيني والمؤسسي كان لهم بالمرصاد عام 2017، وتم تثبيت اسم الزهرة الفلسطيني.

عام 2007 قام الاحتلال بترشيح ثلاثة نباتات فلسطينية معروفة لتمثيلها في حديقة الورود التي تعتزم الصين إقامتها بمناسبة استضافتها للألعاب الأولمبية، وهي: زهرة قرن الغزال وزهرة شقائق النعمان وشجرة الزيتون، حيث تقرر اعتمادها وتثبيتها باسم إسرائيل في حديقة الصين.

 رغم أن زهرة شقائق النعمان نبتة ذات جذور تاريخية وثقافية في فلسطين، وتنتشر في أراضي فلسطين من الشمال إلى الجنوب، وقد كانت تغطي أرض فلسطين في العهد الروماني، ولهذه النبتة مكانة خاصة في الحضارة العربية والإسلامية والأدب العربي، حيث دخلت في الشعر والقصص والحكايات الشعبية الفلسطينية؛ ونبتة قرن الغزال تدخل في التاريخ الغذائي للفلسطيني الذي يطبخها مثل ورق العنب في مواسم البرد والمطر. ويهدف الاحتلال من وراء ذلك إلى سرقة التراث والمصادر الطبيعية ويدَّعيها لنفسه، معتقداً أنه سيمحو التراث الفلسطيني من الوجود، بعد أن سرق صحن الحمص وأقراص الفلافل وأرغفة المسخن والثوب الفلسطيني والدبكة الفلسطينية وأخذ يعرضها في الخارج على أنها تراث إسرائيلي! 

واعتمد مجلس الوزراء الفلسطيني عام 2016، رسمياً، "سوسن فقوعة" النبتة الوطنية لدولة فلسطين؛ تثبيتاً للحق الوطني والتجذر في الأرض، ودفعاً لمحاولات التزييف وسرقة التراث الطبيعي والثقافي الذي لا يتوانى الاحتلال في ممارسته طوال الوقت.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زهرة خدرج
كاتبة وروائية وناشطة فلسطينية
كاتبة وروائية وناشطة فلسطينية
تحميل المزيد