إذا دُعيت يوماً –كباحث في التاريخ- لاختيار الإنسان الأسوأ حظّاً في العالم، فلن أتردّد في اختيار الأميرة فاضلة، التي تمتّعت بنسبٍ راقٍ، ورثته في وقتٍ غير مناسب، فحلَّ عليها كلعنة باتت تُطاردها أينما ذهبت.
في ظروفٍ عادية، أو ربما لو وُلدت فاضلة قبل قرنٍ واحد من القرن العشرين الذي وُلدت فيه، لعاشت كأفضل ما يكون، وربما وُضعت صورها على العملة واحتفى الناس بها في الشوارع، ونثروا الورد فوق رأسها.
من جهة الأب هي سليلة أسرة محمد علي، التي تربّعت على عرش مصر، وتنحدر من جهة الأم رأساً من صُلب السلطان العثماني عبد المجيد الثاني.
حينما وُلدت عام 1941م كان النصف الأول من مُلك أجدادها العثمانيين قد زال، بعدما ألغيت الخلافة عام 1924م وُحرِّم عرش تركيا –أو أي عرشٍ آخر- على آل عثمان، وحينما كانت في الـ12 من عُمرها شاهدت بأمِّ عينيها النصف الثاني من مُلك أجدادها العلويين وهو يزول على وقعِ ثورة الضباط الأحرار.
خطوة لا شك أنها كانت مؤلمة على نفسها، إذا ما علمنا أن خالتها كانت آخر ملكة رسمية على مصر حتى أُعلنت الجمهورية وأُسقط الحُكم العلوي في مصر إلى الأبد. لا ريب أنها لم تكن أكثر إيلاماً مما جرى لها بعد 5 سنوات، حينما أوشكت أن تُصبح ملكةً على العراق، وهو اللقب الذي خسرته مُجدداً عقب اندلاع ثورة 1958م وإنهاء حُكم الهاشميين للعراق، لتكون "فاضلة" بحق هي وريثة العروش المنهارة.
البحث عن العروس المناسبة
فور تتويج فيصل الثاني ملكاً على العراق في مايو 1953م، كان لِزاماً عليه البحث عن العروس المناسبة التي تُشاركه عرش العراق.
يقول السياسي العراقي عطا عبد الوهاب، الذي عمل سكرتيراً للملك فيصل وللأمير عبد الإله، في كتابه "سلالة الطين"، إن عبد الإله بذل جهوداً كبيرة للعثور على زوجة مناسبة لفيصل.
يحكي: كانت هناك مرشحات عديدات، فخلال زيارة عبد الإله إلى لبنان طلب من سفير العراق البحث عن فتاة من بنات الأسر اللبنانية العريقة لترشيحها زوجة للملك، وبالفعل جرى اختيار ابنة الزعيم الشيعي كاظم الخليل، وأرسلت السفارة صورها إلى البلاط، لكن يبدو أن الاختيار لم يُعجب ولي العهد، فلم يردّ بالإيجاب على سفارة بلاده.
وبحسب عبد الوهاب، كانت أبرز المرشحات الأميرة عائشة شقيقة الملك الحسن الثاني ملك الغرب، وبالفعل ذهب وفد رسمي إلى الرباط لهذا الغرض ثم صُرف النظر عن الخطوة بعدما اتّضح أن الأميرة المغربية ذات عاداتٍ متحررة لا تلائم السلوم المحافظ الذي درجت عليه الأسرة المالكة.
في المقابل، فإن الجانب الآخر للحكاية هو أن الأميرة المغربية هي التي رفضت لسبب لم يُعلن وقتها، ولاحقاً أُعلن عن زواجها من السيد محمد عواد وزير المواصلات في المغرب عام 1958، وفي العام ذاته أجرت معها محلة آخر ساعة حواراً سألتها عن سبب رفضها الاقتران بالملك فأجابت "أنها فضّلت أن تعيش سعيدة إلى جانب رجل فقير من الشعب، على أن تُصبح ملكة تعيسة وتجلس على عرش يرقص فوق كف عفريت"!
كما كشفت لنا الأميرة بديعة بنت الحسين (شقيقة الأمير عبد الإله الوصي على عرش الملك) في كتابها "مذكرات وريثة العروش"، إن عروساً أخرى رُشِّحت للملك هي الأميرة شاهناز أخت شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي، وهي الزيجة التي كانت لتعقد حلفاً تاريخياً بين العراق وإيران.
رُتِّبت مقابلة بينهما في مدينة "كان" الفرنسية عام 1955، لكنهم فوجئوا بفتاة "متحررة" لم تتحرج من شُرب الخمر والحديث عن مغامراتها في الهرب من المدرسة أمامهم، وهو ما أثار امتعاض الملك، فرفض إتمام تلك الزيجة.
وبعد العديد من المحاولات وقع الاختيار أخيراً على الأميرة المصرية العثمانية فاضلة التي ينحدر والدها من نسل محمد علي باشا الكبير، وأمها من نسل السلطان عبد الحميد العثماني، لتجمع بذلك الحُسنيين في نظر عبد الإله الوصيّ على العرش وصاحب الرأي الأول والأخير في هذا الأمر.
لحظة إتمام الخطبة كانت في الـ16 من عُمرها، وتجيد الفرنسية والإنجليزية والتركية، فضلاً عن العربية طبعاً، ووُصفت بأنها "تميل إلى الرياضة والموسيقى ولها دراية واسعة بالعلوم العامة وذوق مرهف للفنون الجميلة"، وتغنّت كُتب التاريخ بجمالها الفائق الذي ورثته عن أمها.
وكان اختيار أميرة مصرية لتكون زوجة لفيصل الثاني وملكةً على العراق لافتاً؛ لأنه في هذا الوقت كان الخلاف على أوجه بين "مصر الناصرية" وبين "العراق الملكي"، وكانت هجمات إذاعة صوت العرب لا تتوقّف ضد العراق وضد نوري السعيد وضد حلف بغداد باعتبارهم "عملاء للبريطانيين ولقوى الاستعمار".
أجّج ذلك الصراع الوحدة مع سوريا وخطاب عبد الناصر الشهير في المسجد الأموي الذي قال فيه "أرى عروشاً تهتزُّ تحت مَن يجلس عليها"، وهو ما فهمه الجميع أنه إشارة لا تخفى ضد العراق، لاحقاً سيتبيّن إسهام عبد الناصر في دعم عبد الكريم قاسم وعبد الرحمن عارف في انقلابهما الذي أنهى الأسرة الهاشمية.
ملاحظة خبيثة: أميرة العروش المتهاوية
بحسب كتاب "العثماني الأخير"، لزكريا عبد الجواد، فإن خالة الأميرة فاضلة هي الأميرة "نسل شاه" التي اقترنت بالأمير محمد عبد المنعم، وكان ولياً لعهد أبيه الخديوِ توفيق، الذي عزله الإنجليز عن الحُكم.
تولّى الأمير محمد رئاسة مجلس الوصاية على الملك أحمد فؤاد الثاني (آخر ملوك مصر) لمدة عام، وهو ما يجعل زوجته "نسل شاه: (خالة الأميرة فاضلة) ملكة رسمية على مصر طيلة هذه الفترة، وهو الأمر الذي لم يُطبّق بطبيعة الحال بسبب استيلاء الضباط الأحرار على السُلطة حتى أعلنوا إلغاء الملكية في يونيو 1958، وبهذا فقدت الأسرة العلوية –ومعهم الأميرة فائقة- حقّهم في حُكم مصر، وخرجوا جميعاً إلى أوروبا.
وهو ذات المصير الذي لاقاه أهل الأميرة فاضلة من جهة الأم، فجدّها هو الأمير عمر الفاروق بن السلطان العثماني عبد المجيد، وعقب إلغاء أتاتورك للخلافة لم يكن مرحباً بآل عثمان لفترة من الزمن قضوها في شتات أوروبا.
لهذا يقول محمد الجعفري في كتابه "نهاية قصر الرحاب"، إن بعض العراقيين اعتبروا الأميرة "مصدر شؤم" للعائلة المالكة؛ فهي تنتمي إلى أسرتين ملكيتين تم إقصاؤهما عن عرشيهما، فما هو مصير العائلة الهاشمية؟
خطوبة في إسطنبول
حكت الأميرة بديعة عن أول مرة رأى فيها الملك الأميرة فاضلة، إذ تقول "ما أن وقعت عينا الملك على عينيها الملوّنتين حتى أُعجب بها، ودخلت مزاجه، لأنها كانت طبقاً للمواصفات التي يبحث عنها".
بعد هذا اللقاء بعام أُجريت الخطوبة رسمياً، وبحسب كتاب "سيرة حياة الملك فيصل الثاني" لطارق إبراهيم شريف، فإن الخطوبة جرت في 4 سبتمبر/أيلول 1957 في إسطنبول، وحضر حفل الخطوبة الأمير عبد الإله ولي العهد، وعلي جودت الأيوبي رئيس الوزراء، ونوري السعيد وداود الحيدري وحكمت سليمان وعدد كبير من الشخصيات العراقية المرموقة. ويضيف "أقام نجيب الراوي سفير العراق في تركيا مأدبة عشاء في فندق هيلتون في إسطنبو؛ تكريماً للملك فيصل الثاني وخطيبته التي تجري في عروقها الدم العثماني والعلوي".
بعد الحفل بـ12 يوماً، أعلن راديو وتليفزيون بغداد بياناً رسمياً جاء فيه "بناءً على رغبة حضرة صاحب الجلالة الملك المُعظم بالزواج من الأميرة فاضلة بنت الأمير محمد علي بن محمد وحيد الدين بن إبراهيم أحمد بن أحمد رفعت بن محمد علي الكبير، ووالدتها الأميرة خانزاد بنت الأمير عمر فاروق بن الخليفة عبد المجيد، وبناءً عليه اجتماع مجلس برئاسة جلالته وعضوية كلٍّ من أصحاب الفخامة والمعالي رئيس الوزراء ونائب رئيس مجلس الأعيان ونائب رئيس مجلس النواب ووزير العدلية ووزير الداخلية، وأعلن عن ترحيبه بهذه الرغبة الملكية السامية".
حكى عز الدين المُلا، نائب رئيس مجلس النواب، بعض تفاصيل ذلك الاجتماع، قائلاً "كان الملك مسروراً ومنشرحاً، وقال خلال الاجتماع إن خطيبته "جميلة وهادئة"، ولقد وافق المجلس على رغبة الملك بعد أن اطّلع على كون الاميرة فاضلة تنتمي إلى العائلة المصرية الملكية من جهة الأب، وإلى أسرة آل عثمان من جهة الأم".
عقب ذلك صدر إعلان من مجلس الوزراء باعتبار يوم 16 سبتمبر/أيلول يوم عُطلة رسمية، وتبنّت دار الإذاعة العراقية نهجاً خاصّاً بهذه المناسبة اقتصرت فيه على بثِّ إذاعة أغاني البهجة والسرور.
كما أوفد الملك كلاًّ من جودت الأيوبي، رئيس الوزراء، وعبد الله بكر، رئيس الديوان الملكي، لإتمام مراسم الخطبة، وتقديم خاتم الخطوبة إلى الأميرة فاضلة في منزلها.
على الرغم من الفرح الذي عمّ الكثير من العراقيين، إلا أن حالة ما من التشاؤم سيطرت على بعض نساء العائلة المالكة، فحسبما أورد عبد الكريم العلوجي في كتابه "نهر الدماء في العراق"، عندما توافدت صديقات الأسرة الهاشمية على القصر للتهنئة بالخطوبة، قالت الأميرة عابدية (أم الملك فيصل الثاني) لصديقتها "والله لقد أصبحنا لا نريد الملك ولا نريد العرش، كل ما أريده وأتمنّاه أن آخذ هذا الشاب وعروسه وأعيش معهما في بيتٍ صغير، لأنعم برؤيته سعيداً بعد أن عاش محروماً من حنان الأبوين".
رغم ذلك تواصلت الاستعدادات للزيجة ومراحل تأهيل فاضلة لتكون ملكة للعراق؛ وفي 11 ديسمبر/كانون الأول سافر الأمير عبد الإله إلى لندن، حيث سجّل للأميرة فاضلة، خطيبة الملك، للالتحاق بإحدى المدارس البريطانية كي تُواصل دراستها هناك.
وفي أواخر فبراير/شباط 1958، وصلت الأميرة فاضلة في زيارتها الأولى والأخيرة للعراق بصحبة والدها الأمير محمد علي، ووالدتها الأميرة خانزاد، حيث استقبلتها الدولة العراقية بكل ترحاب، وكان عند الجميع فضول للتعرف على تلك الفتاة الصغيرة التي ستُصبح "أصغر ملكة في العالم" حسبما وصفتها وسائل الإعلام العراقية حينها.
أُقيمت على شرفها حفلة تعرّفت فيها على أبرز سيدات المجتمع العراقي، وألقت كلمة أكدت فيها أنها ستتبنّى نهج الملكة عالية (زوجة الملك الحسين) في احتضان مشاريع الأمومة والطفولة، وكذلك زارت العتبات المقدّسة في كربلاء والنجف بعدما ارتدت الحجاب –ربما لأول مرة في حياتها- احتراماً لتقاليد الأسرة الهاشمية.
في كتابها "نوري السعيد"، نقلت عصمت السعيد شهادة والد زوجها نوري السعيد، آخر رئيس وزراء في العهد الملكي، على زيارة الأميرة فاضلة، إذ يقول "كانت ترتدي ثوباً أزرق أنيقاً، يُبرز قامة ممشوقة وصفاء وجهٍ منير. وقد حازت إعجاب الجميع بعدما سمعن كلمات الشكر والترحيب التي ألقتها باللغة العربية الفصحى، فالجميع يعلم أنها لم تعِش في مصر فترة طويلة، فبعد تنازل فاروق عن العرش ظلّت تتنقل بين تركيا وفرنسا، لكن الأميرة أصرّت في هذه المناسبة أن تبرهن على درجة اعتزازها بلغة البلاد التي تنتسب إليها".
وعلى الرغم من حماسه لسُرعة إتمام الزيجة، فإن الملك فضّل تأجيل موعدها لحين الانتهاء من بناء قصر ملكي لائق بزوجته؛ فالقصور الملكية العراقية حينها كانت متواضعة المستوى، ومنذ عام 1955 بدأ إنشاء قصر جديد فضّل الملك ألا يرتبط بزوجته إلا عقب الانتهاء منه. لن يتمكّن الملك من العيش في هذا القصر الجديد بعدما قضى نحبه داخل قصر الرحاب الذي كان يعدُّ الأيام للانتقال منه بسبب بساطة إنشاءاته وصعوبة تأمينه.
لقاء أخير لم يتم
يقول سعد ماهر في كتابه "تراتيل على شاطئ البحر: قصة العراق"، إن الملك فيصل الثاني أعدَّ نفسه للسفر إلى تركيا صباح يوم 14 يوليو 1958 لحضور اجتماعات حلف بغداد. وكان مُقرّراً أن يغادر تركيا إلى لندن للقاء خطيبته الأميرة الفاضلة، وبحسب سعد "كان الملك أكثر اهتماماً بلقاء خطيبته من صراع الخُطب السياسية في اجتماعات الميثاق".
لسوء حظ الملك –وخطيبته والعائلة الهاشمية بأسرها- أُرجئ سفر الملك لحاجة الحكومة إلى توقيعه على عددٍ من القوانين المهمة حتى باغتته يوم 14 من ذات الشهر ثورة عسكرية دبّرها عددٌ من ضباط الجيش بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف.
في مساء ذلك اليوم، قضى الملك جلسة هادئة باسمة في شرفة قصره بصحبة خاله الامير عبد الإله وخالته الأميرة عابدية والأميرة هيام زوجة الأمير عبد الإله. بحسب طارق شريف "تميزت الجلسة بأجواءٍ مفرحة وتفاؤل كبير، خاصة من قِبَل الملك الذي كان منشرحاً، وكان الحوار مفعماً بروح المرح الذي كان يطغى على الحديث لاسيما فيما يخص سفر يوم غدٍ، ولقاء الملك المرتقب بخطيبته الأميرة فاضلة".
عقب انتهاء تلك الجلسة وخلود الجميع إلى النوم، اندلعت الثورة فجر ذلك اليوم، وانتهت بشكلٍ دموي، إثر اقتحام سرية من الجنود قصر الرحاب، حيث ضبطوا الأسرة الهاشمية مختبئة في إحدى غرف الدور الأول، وبعدها أعدموهم جميعاً رمياً بالرصاص في حديقة القصر، لتشهد الأميرة فاضلة خسارتها الثالثة لصلة وثيقة بعرشٍ ملكي.
ما بعد مقتل فيصل
وفي لندن، فُجعت الأميرة فاضلة حينما تتالت أنباء الثورة التي بثّتها إذاعة بغداد قبل أن يصلها خبر مصرع خطيبها الملك ومعه جُل أفراد عائلته.
عقب النهاية الدموية لفيصل امتنعت عن الزواج لسنواتٍ عِدة، حتى ديسمبر 1965 حين أُعلن زواجها من المهندس خيري أوغلو نجل سعاد أوغلو رئيس وزراء تركيا الأسبق. استمرت تلك الزيجة 15 عاماً وأسفرت عن طفلين.
بعدها تكثر الشائعات عن مصير الأميرة سيئة الحظ، المؤكد منها أنها التحقت بالعمل في اليونسكو عام 1980م، وأنها حرصت على العيش بعيداً عن الأضواء تماماً، لم ينجُ من العزلة إلا تلك الصورة التي نُشرت على تويتر -ولم تُتداول كثيراً بطبيعة الحال- منذ عامين في باريس بصُحبة أمير تونسي، ليكون هذا الدليل الوحيد الذي نملكه على أنها لا تزال على قيد الحياة حتى الآن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.