في 18 من يوليو/تموز 2022، خلال زيارته إلى ألمانيا، طالب الرئيس عبد الفتاح السيسي بوساطة الدول الأوروبية ودعمها للضغط على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتخلي عن شروط الإقراض الصعبة.
وفي المؤتمر الصحفي الذي أقيم في العاصمة الألمانية برلين، دعا الرئيس المصري "أصدقاءنا في أوروبا لإيصال رسالة إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بأن الواقع الموجود في بلادنا لا يحتمل المعايير المعمول بها خلال هذه المرحلة وحتى تنتهي هذه الأزمة".
وتُجري مصر محادثات مع صندوق النقد الدولي منذ مارس/آذار الماضي للحصول على قرض جديد، لحل مشكلة هبوط الجنيه المصري مقابل الدولار، وتراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي وصدمات ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وباقي الضغوط الاقتصادية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
وهذه هي المرّة الأولى التي تطول فيها المفاوضات إلى هذا الحد دون الإعلان عن التوصل لاتفاق نهائي بين الطرفين.
لماذا ترغب مصر في الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي بأسرع وقت؟
مع بداية العام الجاري، لم تكن الحكومة المصرية تعرف أنها ستكون في هذا المأزق، وأنه سيكون عليها التعامل مع هذا الكم من الصدمات الاقتصادية، وكانت معظم التقديرات بشأن النمو وتحسن الاقتصاد المصري متفائلة.
لكن كل شيء تغير مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، ووجدت الحكومة المصرية نفسها في ورطة سداد عشرات المليارات من ديون وفوائد لم تتوقع الاضطرار لها قبل الحرب والأزمة الاقتصادية التي تسببت في هروب 20 مليار دولار من الأموال الساخنة.
وعلى حد وصف صندوق النقد الدولي، فإن مصر الدولة الأشد تضرراً على الإطلاق من الحرب الروسية الأوكرانية، حيث أثرت على ثلاثة مستويات أساسية على مصر، وتتضمن التأثير المباشر؛ نظراً للعلاقات التجارية والسياحية مع بلدي الحرب، وكذلك باعتبار مصر أحد الأسواق الناشئة والمتأثرة بتقلبات أسعار الفائدة عالمياً، بالإضافة إلى الضغوطات على الاستثمارات ورؤوس الأموال التي تشهدها الأسواق الناشئة.
وفي آخر بيان حول الاحتياطيات الدولية، قال البنك المركزي المصري إن صافي ما تملكه مصر من الاحتياطيات الأجنبية تراجع بواقع 7.8 مليار دولار، ليصل إلى 33.14 مليار دولار في نهاية شهر يوليو/تموز 2022، وفي نهاية يونيو/حزيران انخفض احتياطي مصر من النقد الأجنبي بنحو 2.12 مليار دولار مقارنة بمستواه في مايو/أيار، بعد أن تراجع بنحو 1.63 مليار دولار مقارنة بأبريل/نيسان.
وكان احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري قد تراجع بواقع 232 مليون دولار خلال شهر يوليو/تموز الماضي، على خلفية سداد مدفوعات مرتبطة بالمديونية الخارجية بنحو مليارَي دولار، وشملت المديونية استحقاق كوبونات لسندات حكومية صادرة عن وزارة المالية، ومستحقات لصندوق النقد الدولي، والتزامات أخرى.
وبذلك يواصل الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى مصر التراجع في العام الحالي بنحو 19%، مقارنة بمستواه البالغ 40.93 مليار دولار بنهاية ديسمبر/كانون الأول 2021، وهو ما يُعد أدنى مستوى يصل إليه منذ 2017، حسب تقرير المركزي المصري.
ويعد هذا النزيف الكبير في الاحتياطي مقلقاً إلى أبعد حد، إذ يعني أن الدخل الدوري للدولة من الدولارات يغطي الواردات الشهرية فقط، ولا يغطي سداد المديونية والفوائد والأقساط المستحقة، وهو ما يجبر الدولة على اللجوء للاحتياطي النقدي.
وتعاني مصر من نقص في العملات الأجنبية، بعد أن تسببت جائحة كورونا في تدهور قطاع السياحة، ثم جاءت الحرب وأججت الأزمة أكثر، وتراجع أعداد السياح من روسيا وأوكرانيا، ومع ارتفاع أسعار النفط والسلع الغذائية في مقدمتها القمح، ازداد الضغط على واحدة من أكبر مستوردي القمح في العالم.
كما سارع المستثمرون الأجانب إلى سحب مليارات الدولارات من سوق السندات المصرية، بعد موجة التشديد النقدي عالمياً التي بدأها الفيدرالي الأمريكي، وانتهجت بقية البنوك المركزية نفس النهج برفع سعر الفائدة، وهو ما تسبب في الضغط بشدة على اقتصادات الدول النامية ومنها مصر.
وبحسب تقرير قاعدة بيانات البنك الدولي، فإن إجمالي الدين الخارجي وصل إلى مستويات غير مسبوقة مُسجلاً حوالي 158 مليار دولار بنهاية مارس/آذار الماضي. وتلتزم مصر بدفع مستحقات ديون خارجية بقيمة 33 مليار دولار في عام واحد من مارس الماضي حتى مارس القادم، وهو ما يعادل تقريباً كل الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي تملكه الدولة، والذي يُقدر الآن بـ33.14 مليار دولار.
كما تغطي الاحتياطيات النقدية الأجنبية حالياً 5 شهور فقط من الواردات المصرية، مقابل 5.4 شهر في أبريل/نيسان، في حين كان متوسط التغطية 8.6 شهر عام 2021.
ووفقاً لتقرير وكالة "رويترز"، يُفترض أن تسدد مصر من الدين الخارجي حوالي 100 مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة، منها 18 ملياراً في العام الجاري.
ويقول الدكتور كرم سلام، الخبير الاقتصادي، لـ"عربي بوست" إن على مصر أن تسعى إلى إتمام المفاوضات خلال شهرين على حد أقصى؛ لأنها لا تمتلك رفاهية الوقت في ظل التراجع المتتالي للاحتياطي النقدي وحاجتها إلى 35 مليار دولار خلال العام المالي الجاري 2022/2023 لتعويض خروج استثمارات أجنبية من البلاد بلغت قيمتها 20 مليار دولار، وسداد التزاماتها الدولية بقيمة 15 مليار دولار.
وتلقت مصر دعماً خليجياً سريعاً بعد إعلانها رفع أسعار الفائدة، وترك عملتها للتحرك أمام الدولار نهاية مارس الماضي، حيث حصلت على دعم من حلفائها بأكثر من 22 مليار دولار من الودائع والاستثمارات من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر.
ويمكن أن يوفر التمويل من دول الخليج دعامة أساسية لمصر في تحقيق استقرار الأوضاع المالية، لكنه يبقى دعماً وتمويلاً مشروطاً ومرتبطاً بحسابات سياسية، وبالتالي فهو يحقق أستقراراً مؤقتاً، ويؤجج من الوضع الهش للاقتصاد المصري.
وأضاف الدكتور "كرم" أنه حتى مع حصول مصر على المساعدات الخليجية، ما زالت لديها فجوة تمويلية بقيمة 13 مليار دولار تحاول الحكومة سدها من خلال الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، ومن خلال جذب استثمارات أجنبية مباشرة، وتمويلات من مؤسسات دولية أخرى.
ولم ينقذ الدعم الخليجي الجنيه المصري من الانهيار، حيث وصلت العملة المصرية إلى أقل مستوى لها منذ فبراير/شباط 2017.
وفي تقرير وكالة "بلومبرغ" الأخير عن العملة المصرية، تقول إنه في الوقت التي تتطلع فيه الحكومة إلى الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، فإن العملة مقيمة بأكثر من ثمنها بنحو 10%، وفقاً لسعر الصرف الفعلي الحقيقي، ويحتاج الجنيه إلى التراجع بنحو 23% لمساعدة الاقتصاد على التكيف وتقليص فجوة التمويل في مصر، كما ترى "بلومبرغ".
إذاً يبدو أن الوضع الاقتصادي متأزماً إلى أبعد حد، ولا يوجد خيار آخر أمام النظام المصري لتوفير سيولة عاجلة لتغطية الواردات وتسديد الديون وفوائدها إلا عن طريق الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي.
وحتى مع الآثار السلبية المحتملة للبرنامج الاقتصادي الصارم الذي يفرضه الصندوق، بات الحصول على القرض هو أكثر ما يتمناه النظام المصري والأمل الوحيد للخروج من المأزق الحالي.
وكما يرى الكثير من الخبراء والمحللين، فإن على النظام المصري أن يسرع من الخطوات التفاوضية مع الصندوق، التي بدأت منذ مارس/آذار الماضي دون الإعلان عن الوصول لأي اتفاق، بسبب شروط يراها النظام المصري صعبة، وأن الواقع لا يحتمل تلك المعايير الصادمة، كما ذكر الرئيس المصري.
ما هي مطالب صندوق النقد الدولي من مصر؟
كما أوضحنا سابقاً، فإن الضغوط الاقتصادية المتزايدة على مصر من هبوط في قيمة العملة وتراجع في الاحتياطي الأجنبي، دفعا مصر لطلب قرض يتجاوز عشرة مليارات دولار.
وعادةً ما يربط الصندوق تقديم الديون بإجبار الدولة التي تطلب الاستدانة على تنفيذ صارم لبرنامج تكيف هيكلي يحتوي على إجراءات تقشف مالي صارمة.
ويشترط الصندوق للحصول على هذا القرض، إجبار مصر على اتخاذ إجراءات اقتصادية أكثر تقشفاً وصرامة، كتقليص الدعم وتحرير سعر صرف الجنيه، وإفساح المجال أمام القطاع الخاص.
وركز الصندوق في مطالبه على تعزيز دور القطاع الخاص وتخلي الدولة عن الكثير من الشركات التي تملكها، ورغم وعد الدولة بطرح جزء كبير من أصولها أمام القطاع الخاص للاستثمار، بما في ذلك شركات يملكها الجيش المصري، ولكن يبدو أن هذا الطرح لا يزال غير كافٍ بالنسبة للصندوق.
وحول الإصلاحات التي يطلبها الصندوق لتعزيز دور القطاع الخاص، يرى الباحث الاقتصادي مجدي عبد الهادي "أن المشكلة تتعلّق بشبكات المصالح المهيمنة على الاقتصاد المصري والتي ترفض الحكومة الاقتراب منها، ومن المؤكد أن مصر ستوافق في النهاية على ما لا يمسّ مصالح هذه الشبكات المهيمنة".
ويتوقع عبد الهادي أن الصندوق سيوافق على إقراض مصر، كما أنه من المحتمل نجاح مساعي السيسي لتخفيف الشروط على مصر؛ لسببين أولهما المحدودية النسبية للقروض التي تطلبها مصر من الصندوق لتخفيف تأزمها المالي الحالي، وثانيهما للوضع الجيوسياسي المعتبر لمصر، لأهمية الاستقرار في مصر بالنسبة لمعظم القوى الكبرى، والمخاوف الكلاسيكية من تدهور الأوضاع بها لمستويات تخرج عن السيطرة.
وبالطبع لا يخفى أنه في حالة حصول مصر على قرض واتباعها لبرنامج الإصلاح الهيكلي الذي يفرضه الصندوق، فإنه قد يترتب على ذلك ارتفاع كبير في التضخم أكبر من الارتفاع الهائل في الأسعار الذي يواجهه المواطن المصري الآن، ووسط توقعات بخفض الدعم على سلع أساسية مثل الوقود ورغيف الخبز الذي يعتمد عليهما المواطن بشكل أساسي، مما يعني ارتفاعاً كبيراً في معدلات الفقر بنسب أكبر من الموجودة في الوقت الحالي.
ويقول الدكتور كرم سلام: "إن على الحكومة المصرية اتخاذ حزمة من القرارات التي تضيف حماية اجتماعية للفئات الأكثر احتياجاً لتخفيف الآثار السلبية المتوقعة بعد إتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي".
وقد سبق أن وافقت الحكومة في عام 2016 على برنامج صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار وخفّضت قيمة العملة، كما خفضت من الدعم على السلع الأساسية والتزمت بإجراءات تقشفية صارمة، وفي عام 2020 حصلت مصر من صندوق النقد، بموجب اتفاق استعداد ائتماني، على 5.2 مليار دولار، بالإضافة إلى 2.8 مليار دولار؛ لتخفيف آثار جائحة كورونا على الاقتصاد المصري.
وكان من شأن هذه الإجراءات التي كانت صعبة وضاغطة على حياة المواطنين، أنها زادت من جاذبية مصر للمستثمرين الأجانب، بالنظر إلى أسعار الفائدة المرتفعة في مصر، وقام الأجانب بضخ مليارات الدولارات في سوق ديونها.
ولكن مع قيام الحرب الروسية الأوكرانية، وفي ظل قيام البنوك المركزية حول العالم بتشديد السياسة النقدية، قام المستثمرون الأجانب بسحب نحو 20 مليار دولار من سوق الدين المحلية منذ بداية العام الجاري، كما قالت الحكومة المصرية.
الأمر الذي يمكن أن يعني أن كل المعاناة التي تكبدها المواطن المصري على إثر سياسات التقشف التي اتبعتها الحكومة المصرية من خلال تنفيذ برنامج الصندوق منذ 2016، ذهبت بلا طائل بعد قيام المستثمرين الأجانب بالهروب بأموالهم من مصر، وبعد كل ما قدمته الحكومة المصرية من وعود بأن الاقتصاد المصري تحسن وأصبح أكثر جاذبية للاستثمار الأجنبي.
وليس ثمة مجال للشك في أن صندوق النقد الدولي ليس إلا مؤسسة تهيمن عليها الولايات المتحدة ودول أوروبا، ولا تأتي سياسة الصندوق في صالح الدول النامية، بل تتركز على المصارف التجارية والمؤسسات المالية التي تتربح من بيع الديون للدول النامية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.