شاهدت المسلسل الكوميدي الأمريكي ساينفيلد (Seinfeld) لأول مرة على الطائرة خلال رحلتي الأولى لأمريكا في عام 1993، للوهلة الأولى لم أفهم إلى ماذا يهدف هذا المسلسل الكوميدي، والذي يتحدث عن 4 أصدقاء يعيشون في نيويورك، ونسيته بعد ذلك. زيارتي الثانية لأمريكا كانت في نهاية عام 1995، وسنحت لي الفرصة بأن أقضي عام 1996 بأكمله في ولاية كاليفورنيا، برفقة أخي الذي كان يدرس الهندسة في إحدى جامعاتها.
قام أخي مشكوراً بتعريفي على معظم المعالم المثيرة والممتعة في تلك الولاية الجميلة، من الطبيعة الخلابة إلى ضواحيها الجميلة ومراكز التسوق الضخمة التي تزخر بأسماء وكالات الأزياء التي أعرفها والتي لم أسمع عنها قط. الذي لفت انتباهي هو ثراء الحياة الثقافية عندهم، ففي صباح كل يوم سبت كنت أجد جريدة نهاية الأسبوع لمقاطعة أورانج (Orange County) على عتبة باب الشقة، والتي تزيد صفحاتها عن المائة، وتتحدث عن مختلف النشاطات والفعاليات المتاحة للمواطنين، من برامج تلفزيونية إلى حفلات موسيقية إلى المسرحيات إلى الأفلام السنمائية… إلخ، طبعاً هذا كان قبل عصر الإنترنت.
ليلة الأربعاء كان موعد برامج الذروة في المحطات التلفزيونية الرئيسية في أمريكا، وكانت المنافسة على أشدها بين المسلسلين الكوميديين، فريندز (Friends) وساينفيلد (Seinfeld)، وكانت شوارع الضواحي الأمريكية تخلو من السيارات والمارة خلال فترة عرض المسلسلين.
تذكرت شخصية بيزارو (Bizarro) النسخة المشوهة لسوبرمان (Superman) عند متابعتي لساينفيلد بعد فريندز كل ليلة أربعاء طيلة فترة إقامتي في كاليفورنيا. بيزارو هي الشخصية المضادة لسوبرمان، من حيث الهيئة والقيم والقدرات الخارقة، ويختلفان كاختلاف الليل عن النهار. الشيء الغريب أنني صرت أنجذب تدريجياً لمسلسل ساينفيلد مع أنه لم يكن متوهجاً بوسامة نجومه وجمال نجماته وأزيائهم وقصات شعرهم عند مقارنته مع مسلسل فريندز، ولم يتطرق كتّاب السيناريو لمواضيع حساسة تهم المجتمع وتثير الجدل كما كان يحصل عند عرض حلقات فريندز، حتى إن الممثل الأساسي جيري (Jerry) كان الأقل إضحاكاً مع أن مهنته الأصلية هي كوميديان إرتجالي (Stand-up Comedian).
لكن المثير للدهشة، مدى قدرة كتّاب النص لساينفيلد ومساعديهم على كتابة حوار محكم ومتقن يتناوب في إعطاء الأهمية حتى للشخصيات الثانوية، واستطاعوا أن يجذبوا انتباه المشاهدين لمدة 30 دقيقة أسبوعياً على مدى 9 سنوات، مع العلم أنه في نهاية الحلقة تتساءل عماذا كان موضوع الحلقة، وتكتشف أن الحلقة كانت عن اللاشيء. حتى إنه تم تخصيص عدة حلقات من ساينفيلد لشرح تلك الفكرة من خلال أحداث شبيهة بتلك التي حصلت في الحقيقة مع جيري ساينفيلد وشريكه في التأليف لاري ديفيد (Larry David).
قارنت بين مسلسل ساينفيلد الذي تم عرضه في أمريكا خلال الفترة (1989-1998) وبعدها في جميع أنحاء العالم، وبين الأفلام والمسلسلات الكوميدية العربية التي تم عرضها من السبعينيات وليومنا هذا، فوجدت أن هناك فرقاً كبيراً في النوعية والإتقان والحبكة والأفكار. ليس سراً أن عادل إمام قد احتكر الكوميديا العربية بمسرحياته وأفلامه منذ بداية السبعينيات وبمسلسلاته التلفزيونية لاحقاً، لكني لم أستطع إكمال مشاهدة مسرحية "الواد سيد الشغال" وكذلك "الزعيم"، أما "بودي جارد" فلم أحاول حتى مشاهدتها.
أما بالنسبة لأفلامه، أعترف بأنني ضحكت كثيراً عند مشاهدتي لفيلم المتسول، ولكن يجب ألا أنكر مساهمة الممثل وحيد سيف في إنجاح الفيلم مع أن بعض الأحداث مقتبسة من رواية أوليفر تويست (Oliver Twist) للكاتب الإنجليزي تشارلز ديكينز (Charles Dickens). ولكن ما يعيب كوميديا عادل إمام ومنافسيه من الجيل القديم والجديد، أن النصف الأول من الفيلم يكون متقناً ومضحكاً، وعادة ما تكون الأحداث عن فترة رحيل الشاب الصعيدي البريء إلى القاهرة ومحاولته للتأقلم مع تعقيدات الحياة العصرية في المدينة.
المشكلة تبدأ في النصف الثاني من الفيلم، عندما يتقمص بطل الفيلم الكوميدي دور جيمس بوند (James Bond) ويبدأ انهمار سيل الأحداث، سأقول "المقتبسة" عوضاً عن "المسروقة"، من الأفلام الأجنبية، ويصر بطل الفيلم على تقديم الكثير من الإيحاءات الجنسية والألفاظ المبتذلة، وبالتالي يقع المشاهد في فخ الملل والإسفاف.
كنت أتساءل دائماً إذا كان والدي على حق، عندما كان يعيد على أسماعنا، مقولته المعتادة "الذوق العام في انحدار في هذا الزمن"، وذلك بعد مشاهدته لفيلم عربي أو أغنية عربية أو أجنبية بعد السبعينيات.
أعتقد أن تراكم الأعمال الفنية العربية الرديئة منذ بداية الثمانينيات، أثّر بطريقة غير مباشرة على أذواق الناس، فالتكرار يؤدي إلى التقبل واللامبالاة، وبالتالي انعدام الإبداع وانخفاض إنتاج الأعمال الفنية ذات الجودة العالية، أي إننا دخلنا في حلقة مفرغة وللأسف لم نخرج منها للآن.
نرجع لساينفيلد، لفت انتباهي عند تحليلي لمسيرة الشخصين اللذين أوجدا هذا المسلسل الكوميدي، جيري ساينفيلد ولاري ديفيد، أنهما من أصل يهودي، وترعرعا في ضواحي مدينة نيويورك، وأكملا تعليمهما الجامعي، وعملا في مجالات مختلفة، حتى إن لاري التحق بالجيش والتزم بالخدمة العسكرية لعدة سنوات. الاثنان فشلا في بداية عملهما كممثلين وتم فصلهما، ولكنهما لم يستسلما، بدأ لاري بالكتابة في عام 1980، أما جيري فصار كوميدياناً ارتجالياً، مع ذلك لم يتمتعا بالنجاح والشهرة.
التقى الاثنان لأول مرة في عام 1988، وتشاركا في كتابة حلقات لمسلسل يتحدث عن يوميات كوميديان ارتجالي مبنية على أحداث حقيقية مرت بهما خلال عيشهما في نيويورك، وتم تسمية المسلسل بساينفيلد وهو اسم العائلة الحقيقي لجيري.
الفرق بين كتّاب النص التلفزيوني أو السينمائي في أمريكا والبلاد العربية، أن الكتّاب الأمريكيون لديهم قدرة على قراءة الجمهور المستهدف، بغض النظر إذا كان المسلسل أو الفيلم هادفاً أو يمرر رسالة معينة للمشاهدين أو يتكلم عن اللاشيء، أو أنه فقط من أجل الترفيه والتسلية، فهم يملكون الأفكار التي تجذب انتباه مختلف أنواع المشاهدين وتجعلهم يتسمرون في أماكنهم مبهورين.
امتلك لاري وشريكه جيري هذه المهارات والمعارف؛ ما أدى إلى النجاح الهائل لهذا المسلسل الكوميدي، مع العلم أنه خلال السنوات الثلاث الأولى من عرضه كان نجاحه باهتاً، ولكن بعد ذلك استوعب المشاهدون فكرة المسلسل وأدمنوه، وانتقل من نجاح إلى آخر طيلة فترة عرضه وحصد جوائز التميز والتقدير المختلفة كالجولدن جلوب (Golden Globe Awards) والأيمي (Emmy Awards)، عدا الأرباح التي حققها المسلسل والتي تم تقديرها بأكثر من 3 بلايين دولار منذ انتهائه والناتجة عن حقوق الملكية ومبيعات الأقراص المدمجة ومن خلال إعادة عرض الحلقات على المحطات التلفزيونية المختلفة وآخرها نيتفليكس (Netflix).
بصورة عامة، لدينا مشكلة كبيرة في خلق الأفكار وكتابة النص للسينما والتلفزيون، وهي شبيهة بمشكلة عدم وجود ملحنين قادرين على كتابة موسيقى جميلة وآسرة كما في الزمن الجميل. حالياً أستمر في مشاهدة بعض المسرحيات الكوميدية والأفلام السينمائية القديمة العربية، وبصراحة من الجديد لم أشاهد إلا فيلمين لمحمد سعد، وهما اللمبي وكتكوت، ومجموعة الحلقات الكوميدية للممثل الفلسطيني عماد فراجين والتي تعرض على قناة اليوتيوب (YouTube).
هذان الممثلان، لو كانا يعيشان في أمريكا لأصبحا أسطورتين في عالم الكوميديا عندهم، لديهما مواهب ومهارات تفوق ما يملك جيري ساينفيلد، حتى ملامح وجهيهما والهيئة والحركات تدعو للضحك قبل أن ينبسا بكلمة، ولكن المشكلة تكمن في النص. محمد سعد وعماد فراجين وغيرهما من فناني الكوميديا العربية بحاجة ماسة إلى كتّاب نص مبدعين لديهم مجسات استشعار مدمجة لالتقاط الأفكار الجميلة والهادفة من بيئتهم ومن العالم الخارجي وتقديمها في قوالب هزلية مضحكة محلية بعيدة عن التقليد والتعقيد. هذا الأمر يحتاج إلى معرفة ومهارات تراكمية تنتج عن الانكشاف على حضارات وثقافات مختلفة، والتجارب الحياتية الغنية، والتي تزدهر فقط في جو ينعم بحرية الكلمة والرأي والإيمان الصادق بالحرية والديمقراطية والتعددية ونبذ التمييز والعنصرية.
أرجو من كل قلبي ألا تكون هذه مجرد أمنيات، أو أن تكون فقط أضغاث أحلام، لأنه كما قال الممثل الإنجليزي مايكل كين (Michael Caine) عن فيلمه الكوميدي (Going in style): كان عملاً شاقًا للغاية، فالكوميديا أصعب من الدراما، يمكنك أن تجعل أي شخص ينفجر من البكاء، لكن محاولة إضحاكه إجرام (أي بالغة الصعوبة).
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.