جلس الطفل علي بن كاشة حزيناً يبكي في غرفته، بعدما أبلغته أمه حليمة وكانت "طرّاحة"، أي نساجة أفرشة تارة، ومنظفة بيوت تعمل في بيوت الفرنسيين، أن طلبه الاستفادة من منحة دراسية قد رفض.
شعرت والدته بالإحباط وبظلم الاستعمار، لكن ما بيده ولا بيدها حيلة، رغم تفوقه في الدراسة، وحصوله على شهادة التعليم الابتدائية بتقدير "جيد"، وقد ظن أن مستقبله بين يديه دون أن يدرك أن للاستعمار أحكاماً أخرى، ترتكز على العنصرية العرقية، وبما أنه جزائري أهلي أو "أنديجان" فلا يحق له أن يصبح معلماً يدرس أبناء المعمرين المتفوقين على السكان الأصليين.
فاجأها وهو يدير وجهه صوب الشمال
-إن هذا ليس وطني، بل وطني وراء البحر. إن الجزائر ليست فرنسا، هي مجرد مقاطعة مستعمرة، ولكي أحقق شيئاً ذا بال، عليّ أن أرحل إلى هناك.
عدّاء بالصدفة يطيح ببطل 1500 متر ست مرات في أول مشاركة له
ولد "ابن الطرّاحة" العام 1921 في تلاغ قرب سيدي بلعباس غربي الجزائر، وكان اسمه علي ولد كاشا ميمون. والده كان فقيراً ويعمل خمّاساً عند الفرنسيين، أي يتقاضى خمس الفائدة من العمل مزارعاً في أرض أجداده التي يستغلها الأغراب المحتلون، لذا فقد شعر بإحباط مركب وهو يعلم فيما بعد بأن منح الدراسة تمنح أولاً لأبناء المعمرين، لذا سيقرر الرحيل إلى فرنسا لإثبات ذاته وأنه يستحق مكاناً تحت الشمس التي خلقها الله للجميع، ويأبى الأسياد البيض الذين سموا حي الجزائريين السمر "قرية الزنوج" سوى إعدامه حياً في الظل.
في العام 1939 يفيق العالم على بداية الحرب العالمية الثانية، وقد لاحت لعليّ فرصة أولى للرحيل من أجل إثبات الذات في أتون أخطار تلك الحرب، شأنه شأن جزائريين اعتقدوا في تلك السنوات أن المساواة مع الأوروبيين التي ضاعت في الحياة يمكن اكتسابها بالحرب وبالتضحية والدم، فانضم في ربيعه الثامن عشر لفرقة للفوج السادس للرماة الجزائريين بفرنسا،وشارك في معارك بالحدود البلجيكية، ثم ضد النازيين ثم لما هزمت فرنسا نهائياً عاد ليتمركز مع فوجه في مدينة بورغ أونبراس.
كان حلمه في تحقيق الذات بالحياة العسكرية ينهار أمام عينيه، ثم وبينما كان يتسكع بين الشوارع والأزقة مرّ بملعب ترابي وراح يحملق في العدائين، فتملكته مسرة غامضة؛ إذ تذكر أنه محب للعدو منذ الصغر وكان يركض بشكل جيد في مسالك تلاغ ودروب قريته المنسية" الميدر".
قال: "لم تكن بيدي وبيد والدتي حيلة كي أصبح مدرساً، قد تكون برجلي حيلة لأصنع شيئاً يليق بي".
وفي اليوم التالي، نزل يتدرب بمفرده في الملعب البلدي لويس باران، تحت أنظار هنري فيارد مدرب فريق العدو للمدينة الذي وقف مذهولاً من طريقة جريه فسأل عنه، ولكن ما من أحد كان يعرف هذا العداء الغريب.
ثم إنه قرر بعد ذلك بمحض الصدفة أنه لأول مرة في حياته، في سباق محلي في المسافات المتوسطة 1500 متر، ولم ينقض السباق حتى كان يفوز به مجرداً بطلاً كان فاز به ست مرات متتالية، أمام ذهول المتفرجين والمدربين ومبعوثي وسائل الإعلام المحلي.
قذيفة ألمانية كادت تحوله إلى مبتور القدم مدى الحياة
عاد إلى الجزائر لفترة قبل أن يعاد تجنيده في فرقة عسكرية لمفككي الألغام، دون أن يتوقف عن الجري في الثكنة؛ إذ انضم لفريق العدو الريفي لها محافظاً على تلك الرغبة التي ولدت فيه فجأة.
ولمّا اشتد وطيس الحرب العالمية الثانية، كان ينضم للكتيبة الثالثة للمشاة الجزائريين التي أوفدت لقتال الألمان وعبور خط جوستاف العتيد، فشارك في معارك ضارية بمونتي كاسينو، بدءاً من شتاء العام 1943 حتى ربيع العام 1944، هناك كاد الشاب المتحمس الحالم أن يمنى بأكبر هزائمه الشخصية في الحياة.
ذات يوم أصيب علي ميمون بشظية قذيفة ألمانية، أصابت قدمه اليسرى، فترنح أرضاً يصرخ من شدة الألم، ينظر إلى السماء التي ظلت تعانده، مقدراً أنه سيعيش بقية حياته أعرج، ولن يكتب له النجاح في مضامير ألعاب القوى، بعد أن أيقن أنه سيذهب بعيداً في هذا المشوار.
ما كان يخشاه بات وشيكاً، ذلك أن أطباء أمريكيين، فحصوه راحوا يتهامسون فيما بينهم:
-إن إصابته معقدة. لا حياة له دون بترها.
يصف لاحقاً ما وقع له بمستشفى نابولي يوم 29 يناير/كانون الثاني 1944 بالجحيم الذي لا يطاق، إذ ظن أن كل شيء كان انتهى لولا كلمة واحدة قالها " أرفض أن تجز قدمي".
لقد ظل الأمريكيون يراودونه على فكرة قطع رجله للنجاة ببدنه، غير أنه كان يرفض التخلي عن الحلم الشخصي".
ولعل رفضه ذاك منحه فرصة أمل يسيرة، إذ جاء للمصحة طبيب فرنسي كان يعرف مسار علي ميمون الرياضي وموهبته الناشئة في العدو، فقرر أن يفعل المستحيل لإنقاذه، حتى لا يكون مصيره شبيهاً بمصير بطل فرنسي شهير اسمه جون بوان كان قضى نحبه في معارك الفردون الرهيبة إبان الحرب العالمية الأولى تاركاً صدمة عظمى في الوسط الفرنسي.
وتحققت المعجزة بأن بدأت قدمه تورد وتتعافى حتى كان يقف عليها، لا بل إنه عاد خلال أشهر ليشارك في معارك نهايات الحرب العالمية الثانية، منح له فيها وسام استحقاق عسكري لبسالته.
بطل الأبطال يعاني من عقدة "ظل زاتوبيك"
عاد علي الذي صار اسمه "ألان" إلى مضامير الجري بقوة مراكماً نتائج مبهرة، بداية من سنة 1947 حتى العام 1956، في المسافات نصف الطويلة، بـ32 لقباً في بطولة فرنسا لمسافات 5000 و10.000 متر، حطم خلالها 12 رقماً قياسياً، كما حاز 4 ألقاب في سباقات الكروس كونتري للأمم، غير أنه لم يكن راضياً تمام الرضا عن مساره بعد أن صار إميل زاتوبيك القاطرة التشيكية شبحاً شخصياً له، على مدار أعوام لم ينجح خلالها في تجاوزه مكتفياً بالتفرج عليه من خلف ظهره وهو يجتاز خط النهاية، فطاردته كنية سيئة نغصت عليه حلاوة خزانته المليئة بالجوائز والميداليات، كانت تلك الكنية هي "ظل زاتوبيك" الذي حرمه لأكثر من مرة من اللقب الأوروبي والأولمبي.
بدأ التحدي المشهدي بين الرجلين من أولمبياد لندن سنة 1948 لما حل ثانياً خلف زاتوبيك في سباق العشرة آلاف متر، ثم تكررت الهزائم في بطولة أوروبا العام 1950، ثم أولمبياد هلسنكي العام 1952، بميداليتين فضيتين في سباقي الخمسة آلاف والعشر آلاف متر.
بدا واضحاً أن زاتوبيك صار كابوساً مزعجاً لعداء لقبه الفرنسيون "بطل الأبطال" لذا قرر بحلول أولمبياد ملبورن أن يثأر لنفسه من خصمه اللدود ويكتب اسمه في سجل الأبطال. لاحت له البشارة الأولى عندما أجرى خصمه زاتوبيك عملية جراحية في القدم ذكرته بقصة بتر رجله، لكنه كان يتمنى ألا يغيب غريمه حتى يكون لانتصاره معنى، إذ كان ينوي تحطيم النحس الذي لازمه 10 سنوات وتلك الكنية اللعينة "ظل زاتوبيك"، لذا شعر بالغبطة عندما ظهر له شبحه المزمن في خط البداية، لا بل إنه أحس بحدس غريب ليلة قبل السباق الكبير، لما جاءه خبر ميلاد رضيعة له، فقرر أن يسميها "أولمب"، كأنه كان واثقاً من التتويج بأول لقب أولمبي له بعد رحلة طويلة من الصبر والمعاناة.
رزق بطفلة سماها "أولمب" ليلة تتويجه بالذهب الأولمبي
وتحت درجة حرارة قاربت الأربعين كان علي ميمون يتجاوز الجميع، بمن فيهم زاتوبيك، في ذلك اليوم المشهود 1 ديسمبر/كانون الأول 1956 لقد كان يعدو بطريقة جنونية، امتنع فيها عن شرب الماء على قارعة الطريق، إذ دلت له التدريبات الشاقة التي خاضها على مدار ستة أشهر، أن تلك الحركة البسيطة التي يقوم بها العداؤون تكلف الكثير، وقد اعتمد تكتيكاً مغايراً عندما رأى أن خصمه كان غير قادر على مجاراة النسق فأخذ مقدمة السباق، ربح خلالها 4 كلم جراء امتناعه عن شرب الماء، ثم إنه لم يكن متيقناً البتة أنه أولاً سوى عندما دخل مضمار الملعب تحت تصفيقات الجماهير، فراح يلتفت وراءه خوفاً من الشبح الذي جعله ظلاً فلم يره كما لم ير أحداً، وظل كذلك غير مصدق أنه الأول، فراح يسب نفسه حاثاً إياها على عدم التراخي، متذكراً تلك العبارات العنصرية المهينة التي سمعها من مدلك الفريق الفرنسي الذي رفض تطبيب عضلاته في تربص لبطولة أوروبية العام 1947 "أنت لست أهلاً لذلك"، ثم تلك الأوصاف التي كان يناديه بها رفقاؤه الفرنسيون باسم العرق لا الشخص، فهو تارة "العربي" وتارة أخرى"البربري".
عندما قص شريط الوصول بجسمه، نظر إلى قدمه اليسرى شاكراً في قرارة نفسه ذلك الطبيب المغمور الذي صنع منه نجماً اولمبياً، أما زاتوبيك فقد جاءه خصوصاً ليقدم تحية عسكرية اعترافاً له بالرحلة الطويلة التي قطعها منذ أكثر من عقدين، لقد كان التشيكي الذي تحول إلى صديق له على مدار أعوام، يقر له بالنصر، محققاً حلمه الذي وُلد معه ذات عام في قرية الميدر قرب تلاغ، وبأنه حُرم من إتمام الدراسة، وبأنه شاب فقير ابن الفلاح ولد كاشة وحليمة "الطرّاحة"، كيف لا وقد صار ثالث فرنسي يفوز به على مدار التاريخ، بعد ميشال تياتو العام 1900، وبعد مواطنه الوافي بوقرة الفائز بذهبية أولمبياد أمستردام 1928، كأول عداء عربي يفوز بلقب أولمبي في التاريخ.
***
وفي السنوات التي تلت التتويج، صنف الرجل الذي اكتسب الجنسية الفرنسية رغم معارضة أهله في الجزائر، نتيجة خياراته الشخصية والدينية التي اتخذها بتأثير من الآباء البيض التي كانت سبباً في حمله لاسم آلان، من أفضل رياضيي القرن في فرنسا، وإلى جانب عدة أوسمة عسكرية نالها في الحروب التي خاضها والسباقات التي شارك فيها، والتكريمات الوطنية التي لم تنقطع عنه من ديغول وميتران وشيراك وساركوزي، سمي خمسون ملعباً للعدو باسمه، وكذلك عشرات الشوارع الفرنسية.
توفي العداء شهر يونيو/حزيران 2013 عن عمر ناهز 92 عاماً، وقبل وفاته بأعوام ظل محافظاً على هوايته، إذ رغم سنه المتقدمة فقد داوم على الجري لمسافة 15 كلم يومياً، ذلك ما دفع بالكاتب المتخصص آلان بيلون بتخليده في كتاب عن سيرته الذاتية عنوانه "حياة كاملة في الجري".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.