الجوع هو أن تريد.. إنه رغبة أشمل من الرغبة ذاتها، ليس الإرادة التي هي قوّة، كما أنه ليس ضعفاً. لأنّ الجوع لا يعرف الخنوع، فالجائع هو من يسعى.
هكذا تعبّر الكاتبة البلجيكية إميلي نوثومب عن حالة الجوع بوضوح. تستعرض مفهومه الاستثنائي لتتجاوز معناه الأشمل، وهو الجوع إلى الطعام أو جوع البطن وتبتكر ديناميكية في الجوع كفعل إرادة.
إنه حاجة فظيعة تمسّ الكائن كلّه، ذلك الفراغ الآسر، وذلك التوق إلى الحقيقة البسيطة ليتحوّل إلى عملية بحث وتقصٍّ وريادة أيضاً. فحيث لا يوجد شيء، تتطّلع في جوعك لأن يكون ثمّة شيء فيغدو رغبة أشمل من استعراض القوّة أو استحضار الضعف.
الجاذبيّة والتحّدي
في رواية "بيوغرافيا الجوع" الصادرة عن المركز الثقافي العربي، ترجمة بسّام حجّار، تأخذنا إميلي نوثومب في رحلة لها من الجاذبيّة وحرارة التحّدي الكثير، لتغدق من ترف الأشياء بتقنية السرد السلس واللغة المشوقة والمكابرة للنمط المعتاد، لنعبر معها ذلك الجسر الميتافيزيقي، فتباغتنا فلسفة وجوديّة كينبوع يلسعنا بوافر الظمأ والجوع إلى مقاصد ومفاهيم مُكلّلة بالتوق والسعي دون هوادة.
إن البيوغرافيا هي "كتاب سيرة" أو بالأحرى تغطية السيرة الذاتية كما يُعرّفها المختصون، لكنها سيرة مُصاغة بأسلوب روائي وبشكل مختلف يلتحف الخبرات والمعارف، وهذا ما يعتريه قلب الرواية التي تستعيد فيه إميلي طفولتها في بلدان مختلفة؛ بدءاً من اليابان ثم الصين وأمريكا وبنغلاديش والهند وكمبوديا، ودول الشرق الأوسط بحكم وظيفة والدها الدبلوماسي.
مراحل حياة
وفي ظلّ تسلسل زمني نكتشف مراحل حياتها. في خضم كل ذلك يكمن الجوع وسرّه وترحال الكائن البشري بين التّوق الكامن كضرب من الجوع، وهو البحث الدائم عن إنجاز يغوص في تاريخ الشعوب ليقودنا إلى مادّة حكايات.
في هذا الصدد تقول إميلي "إن كلّ أمّة هي مُعادلة متمحورة حول الجوع".. ومن ثمّ فانواتو رغم عزلتها كأرخبيل في اليابان لم تعرف الجوع يوماً، فهي تنعم برتابة لافتة، وكانت خاضعة لحكم ثنائي فرنسي بريطاني، لكن حتى بعد استقلالها ظلّت مصابة بما يشبه الكدر، نظراً لوفرة الطعام الدائمة منذ الأزل في البرّ والبحر. إنها الحقيقة التي أدركتها إيملي: الوفرة والانعزال.
لذلك جاز لها أن تعتبر الأمر معقّداً ودقيقاً، بما أنّ فانواتو مُصابة بالتقاعس لانعدام الجوع. "إن انتفاء الجوع مأساة لم يتطرق إليها أحد من قبل".. هكذا تصف نوثومب اللاجوع كشعور بالسأم وحياة يُعوزها السعي.
أمّا في الصين فقد اكتشفت جوعاً كانت تجهله، هو الجوع إلى الآخرين. رغم أن الصين بلد متصل تاريخه بالمجاعة، فكان بمنزلة منشّط للاختراع والتألق والمهارة لتتفوّق كحضارة ذات طابع فريد من نوعه.
إنها الطفلة البلجيكية المتحّسرة على ذكريات بلاد الشمس المشرقة وحنينها إلى "شوكوغاوا" اليابانية، بقطع النظر عن جوعها إلى السكّاكر وشهيّتها الكبيرة إليها. وبما أنها خزّان للتوق، للتدفّق والكينونة. لتستنتج بعدها أن الغذاء الإلهيّ هو الشوكولاتة، فتكيّفت طفولتها مع أهوائها ليصلّب الجوع الخارق عودها.
لكن قصّتها انتهت مع فقدان أمّها اليابانية "نيشيو سان" مربيتها طوال خمس سنوات، والانتقال إلى الصين بعيداً عن بحبوحة العيش والوفرة في اليابان، لتكتشف أرضاً خصبة لعدّة تعقيدات، بدءاً بنظام الحكم.
مرايا المتعة والألم
ثمّة أمور تفوق التوقّع في إقبال إميلي على القراءة، فيستحوذ عليها شعور بالجوع إلى مرايا المتعة والألم التي تدّخرها الروايات "كمشهيات مغذية لتعطّش النفس".
وفي ظلّ انكماش الصين وتحوّلها إلى معتقل بعد الثورة الثقافية، وجدت إميلي في مغادرتها الخلاص أخيراً، لتفارقها رعشة الخوف مع رحلتها إلى نيويورك فيتعرّى أمامها عالم مشرئب وكوكب متفرّد يثير البهجة والحياة بما يشبه الجنون. منذ سنّ الثامنة حتى العاشرة من عمرها، بدءاً بحفلات الموسيقى الكلاسيكية وعروض الكوميديا الغنائيّة ومدرسة تعليم رقص الباليه والسّعي المحموم وراء المتعة. ثم ارتياد "ليسيه فرنسية" فتغدو متميزة وتحوز صداقة القلوب النديّة، إضافة إلى مباهج اللهو الطفولي والتوغل في أرض أمريكا وسط الغابات الشاسعة، في كنف الجوع والخشية من فقدان هذا القدر من الغبطة والثمالة.
لقد كانت إميلي جائعة وهي تبتكر لها عوالم تُشبع بها فضولها لتُقلّها كل مرّة إلى بيئة تثير فيها اللّذة حيث يكمن الظمأ والجوع. ورغم جرعات الحب التي حوّلتها إلى قبس في كنف الأسرة والأصدقاء والمُربّين، لكن ما لبثت أن تفطّنت أن عليها أن تشقى وتسعى لتشبع نهمها وتخترع لها وسيلة لكي تحظى بالحب والإعجاب واللذّة العظيمة.
إن الرحيل عن نيويورك كان يعني لإميلي نهاية للسعادة وخُفوتاً للبهجة، بعد أن أصبح والدها سفيراً، ليغادر مقرّ الأمم المتحدة غير نادم، وينتقل إلى بنغلاديش البلد الأشد فقراً وبؤساً في العالم، لتندلع الخرائب في داخل الطفلة البلجيكية بعد الشغف إلى الملذّات والجوع الخارق.
النقلة الصارخة
كان جوع البنغلاديشيين يجري في دمائهم ويلهبها بالمقاومة حيال الموت. إنه جوع صارخ لا حدود لنوباته.
في معقلها الحصين تنضمّ إميلي إلى أختها جولييت وتؤثر البقاء على الشعور بالغثيان خارجاً، بعد كرهها لكل أنواع الجوع الذي يتخبّط في جوفها والصدمات التي زجّت بها في حالة هلع، أمام المعاناة البشرية وفظاعة المشهد في بلد لا يمتلك أي محاسن ولا ثروات، غير شعب موشك على الموت.
ولا غرابة في خضم هذا البؤس أن تسعى نوثومب وراء الجمال المطلق المتمثل في الأدب، بعد أن أضحت الحياة أقلّ بهجة، خصوصاً في آخر عهدها بالطفولة. لكن الهند كانت أرض النعيم مقارنة ببنغلاديش، وزيارة معبد الإلهة فيفانت هزّ كيان إميلي بعد أن خبرت معاناة الفتاة النيبالية، حين تفقد صفاتها عقب بلوغها سنّ الثانية عشرة.
أما في بورما، فلم يعد حال إميلي كما في السابق، لتغدو أقلّ قدرة على الاستمتاع بأبهى بقاع الأرض، حيث صار الصمت حليفها مع نموّها المضطرب جسدياً وإحساسها بالجوع لإعصار مدمّر أثقل من هذا الاستياء الذهنيّ.
صوت الجائع
لقد أصابها توق إلى الجوع بالتوقّف عن الأكل ومكابدة العذاب، لكن الصوت الجائع داخلها صَمت، بعد أن فقدت الشعور بأي شيء في ظلّ زهد تغذّى به جسدها كما ذهنها.
ونظراً لغياب الغذاء، التهمت إيميلي قاموس الكلمات كعمليّة ردع للتصدّع الذي ألمّ بها في فترة ما، لكن غريزة البقاء كانت أقوى بانكبابها على القراءة في شغف آسر. ومن أوجه الوصل مقولة دانتي "لم يُخلق البشر لكي يحيوا كالبهائم" التي جعلتها تكتشف ما كانت عليه.
لكن ها هي تفوز على الجوع، لتصبح جائعة إلى الجوع.
ورغم انتقالها من بلد إلى آخر ظلّ مرض انعدام الشهيّة يصاحبها، وهي تزاول عذابها العتيد في كنف النشوة. لتصبح قصتها شبيهة "المسخ" لكافكا. وعلى غرار غريغوري سامسا كانت تحيا ملازمة غرفتها في كل بلد تقيم فيه.
معنى الانتماء
وفي بروكسل، فهمت معنى الانتماء إلى مكان ما، وذلك بعدم إدراك كنه رقعته أساساً، ليصبح المحفز الأقوى للكتابة وصياغة ذلك الشيء الذي ساعدها في إعادة تركيب جسد منهك بمرض فقدان الشهية، أو بالأحرى الجوع بشكل آخر.
إنها حركة دوران في الخواء الكونيّ، لتختزل إميلي هذه السيرة الذاتية بعودتها إلى اليابان، بعد نيلها الإجازة في الفلسفة، وتنعش ذاكرتها في طوكيو هذه المدينة التي منحتها تجربة عاطفية فريدة من نوعها، إضافه إلى مدّها بطاقة استثنائية للكتابة كوتيرة عمل ومصدر نشوة قصوى.
ثم تقرّر بمعيّة جولييت أن تزور قريتها "شوكوغاوا"، لكن خاصيّة الانصياع الكلّي للحنين تُقصي عادة التفكير في تراجيديا التّحول. ثمّة فقط إقليم جغرافي متوخّ ديمومته، بخلاف مملكة إميلي الطفلة التي اندثرت في خضم الترحال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.