بعدما كانت حصن الطبقة الوسطى.. كيف استقرت الجامعات المصرية في أحضان السلطة؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/08/11 الساعة 12:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/11 الساعة 12:54 بتوقيت غرينتش
جامعة القاهرة في مصر (صفحة الجامعة على فيسبوك)

نشأت الطبقة المتوسطة المصرية في كنف ورعاية الدولة الحديثة. الطبقة المتوسطة هي تلك الشريحة الاجتماعية التي لا تكون من الشرائح العليا الحاكمة بحكم تملكها الأرض الزراعية أو الرأسمالية، أو حتى الشريحة الاجتماعية المحتكرة للوظائف الإدارية بقمة الجهاز الحكومي.

عندما دُفعت مصر للانخراط في العالم الحديث على غير مبتغاها بالحملة الفرنسية وما تلاها من إنشاء دولة محمد علي، ظهرت طبقة لصيقة بدائرة صنع القرار هي "طبقة العلماء" وكانوا تحديداً من مشايخ الأزهر المتعلمين الذين يجيدون القراءة والكتابة، بالاشتراك مع الأعيان من أصحاب الوكالات التجارية أو الأطيان الزراعية، ومجموع الطبقتين تجذَّر وجودهما أثناء قرون الحكمين المملوكي والعثماني، وإن ظل تأثيرهما أقل وتابعاً (مغلوباً على أمره) طوال تلك الحقبة الزمنية الممتدة من منتصف القرن الثالث عشر.

في أوائل عصر محمد علي، انتُخبت البعثات التعليمية لتكوين الطبقة الإدارية من الأزهريين، قبل نشوء طبقة متعلمين من غير الأزهريين، واتسعت الطبقة الإدارية التي كانت من خصائصها التنوع العرقي واللغوي، فضمت أرمن وشواماً وأوروبيين إلى جانب المصريين "المولودين في مصر من أولاد العرب أو غيرهم". وكان رخاؤها وتقدمها يعتمد على نجاح دولة محمد علي وخلفائه في التقدم والنفاذ الاقتصادي، واستبق ذلك بالتخلص من طبقة المماليك العسكرية والإقطاعية، ونشأت الطبقة المتوسطة الجديدة تابعة سياسياً، وموظفة لدى احتكار اقتصادي لدولة محمد علي (الدائرة السنية مثلت ٩٠٪ من الحيازة الزراعية، إلى جانب احتكار التعدين واستخراج الملح وعدة نشاطات اقتصادية أخرى).

بزوغ فكرة "المصرية" وتراكم أفكار الوطنية مع الحزب الوطني وحركة أحمد عرابي (حتى بعد انكسارها) أدخل الطبقة المصرية في حقبة ثانية من المزاوجة بين التقدم والتحديث، فلم يعد ممكناً التعبير عن الوطنية المصرية دون مصطلحات التحديث والمواكبة العالمية "الأوروبية"، واستوردت الطبقة الجديدة الاستقطاب الحادث بين مجمل الأفكار الفرنسية إلى جانب، والثقافة الأنجلوساكسونية على الجانب الآخر.

مع بداية القرن العشرين تميَّز الحراك الثقافي الوطني المصري، ببروز الطبقة المتوسطة المصرية المتعلقة بالثقافة الفرنسية في مواجهة الاحتلال البريطاني (مثل مصطفى كامل ومحمد فريد)، ومدرسة أخرى في المقابل وطنية مصرية، ولكنها تصنع خطاباً سياسياً أنجلوساكسوني الثقافة في مواجهة الاستعمار البريطاني.

مال التيار الأول لكونه "محافظاً تقليدياً" في عدة قضايا اجتماعية وسياسية، بينما مال التيار الثاني لكونه تقدمياً وليبرالياً (مثال: أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل)، ارتكزت التقدمية على مفاهيم علمية وأكاديمية واجتماعية.

في عقد العشرينيات تنوعت الجامعة الأهلية المصرية -حتى قبل أن تصبح جامعة فؤاد الأول- ببروز نجوم من المدرسة الفرنسية؛ مثل طه حسين ومحمد حسين هيكل في نفس الوقت مع أحمد لطفي السيد!

الأكاديميا في مصر هي الحصن الأول للطبقة المتوسطة المصرية، بما تمثله من قيم الحداثة والسعي للبعث الجديد للأمة "المصرية"، واستخدام العلوم الحديثة كوسائل عقلانية للتقدم والصعود الشخصي والجمعي.

التجاذبات والاستطرادات التي أدت لإدماج الجامعة الأهلية في مشروع الجامعة الحكومية المزمع إقامتها، فتتحول الجامعة الأهلية إلى جامعة فؤاد الأول. ربع قرن تقريباً عاشته الجامعة حتى ليلة انقلاب يوليو ١٩٥٢؛ عاشت الجامعة المصرية فترة شديدة الصخب والمخاض العنيف في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لم يكن هناك تعاطف واسع بين هيئة التدريس وحركة الطلبة والعمال مثلاً. سنوات ١٩٤٦ و ١٩٤٧ ربما تشير إلى بذور شقاق اجتماعي بين أكاديميا "محافظة وممكنة سياسياً" وبين جسم طلابي يميل لليسار في الأغلب وتيارات أخرى على أقصى اليمين (جماعة الإخوان المسلمين ومصر الفتاة). نظام يوليو ١٩٥٢ لجأ للأكاديميا كمستودع هائل وخام لطبقة إدارية جديدة بديلة عن الطبقة السياسية القديمة، المفارقة بينهما كان التوزير تنازلاً من الأكاديميا قبل ١٩٥٢، صارت الأكاديميا تسعى للترقي السياسي تبذلاً وترخصاً للسلطة الجديدة.

الثمن الذي دفعته الأكاديميا لعلاقتها المريبة مع نظام يوليو، كان أن انحدرت سريعاً إلى تسلط وامتهان، هذان كانا بمساعدة وبأيادي مبتذلي السلطة من الأكاديميا، بينما عاش اليسار الأكاديمي فترة "شهر عسل" قصير من منتصف الستينيات حتى ١٩٧٧، حتى برز تيار "ساداتي" إلى السطح كانت مهمته تبرير اتجاهات السلطة والتنظير لمشروعاتها الاقتصادية والسياسية، ثم أظهر ذلك التيار قدرة فريدة في التقلب و"التشقلب" بزغ فيها نجوم الأكاديميا عندما تم الانتقال من المديح والابتهال الساداتي إلى المديح والابتهال المباركي.

وعندما استقرت الأكاديميا في حضن السلطة، لم يعد هناك مبرر ولا أوراق لعب للحفاظ على استقلالية الجامعات أو ضمان مستوى معيشة لائق بمرتبات تليق بالطبقة المتوسطة وشرائحها العليا، بل صار الحرس الجامعي والتدخل الأمني يمتد من التعيينات للمعيدين إلى ترقيات رؤساء الأقسام إلى اختيار عمداء الكليات ورؤساء الجامعات، بل تعدى ذلك إلى حصر ومنع رسائل البحث العلمي والتحكم في البعثات الداخلية والخارجية.

لذا كانت حركة "٩ مارس" لاستقلال الجامعات صوتاً منزوياً ووحيداً للدفاع عن الجامعات المصرية في وقت طحنته مطرقة السلطة على سندان الشعبوية! الشعبوية تلك التي وُلدت في خضم المشروع الساداتي لأسلمة المجتمع ونزع أظافر اليسار والناصريين داخل الجامعة وخارجها.

قائمة انتهاكات السلطة بحق الجامعة والأكاديميا طويلة ومحزنة، قبل يوليو ١٩٥٢انتصر أحمد لطفي السيد، رئيس الجامعة، لطه حسين عندما فصله رئيس الوزراء، لم يستطع أحد أن ينتقد أو ينشر أخبار إقالة عميد كلية الطب وفرض الحراسة عليه سنة ١٩٦٥، ولا انتفضت الأكاديميا عندما جعل السادات التهكّم والتندّر على أستاذ الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية "لازمة" في خطبه العامة. في زمن مبارك، انتصرت السلطة انتصاراً نهائياً على الأكاديميا المصرية وصارت الجامعات "مفرخة" لنقيضين؛ الأول فيض لا ينتهي من الأكاديميين الذين يقودون الأمة للابتهال والثناء على السلطة وغسيلها من أي إثم، والثاني قيادات جماعة الإخوان المسلمين وقادة التطرف.

شيء قليل بقليل، صار أستاذ الجامعة مرادفاً لترزية القوانين، أصحاب سياسات الجباية في وزارة المالية، أصحاب سياسات الإغلاق الكامل أو الانفتاح السائح في التجارة الخارجية أو الداخلية، سياسات  التعليم والصحة التجريبية التي لا تذهب ولا تجيء! رئيس الغرفة البرلمانية باذخة الانسحاق أمام السلطة وشخوصها! باختصار؛ نجوم في مسرح العرائس المتحركة سياسياً، وفي الأثناء وقع ويستمر تردٍ أكاديمي في كل الجامعات القديمة والحديثة، مع سيادة منطق تجاري في التعليم الخاص والأهلي، ومناخ جامعي مكبل ومقيد ومنسحق حتى في غياب الحرس الجامعي الشرطي، فلقد سكن الحراس في عقول وأرواح الأساتذة والطلبة وصار الركود هو ضمان السلامة والسكون الشاملين.

وهكذا صارت الأكاديميا المصرية برغم نوابغها وعبقريتها رديفاً للسلطة مبتذلاً وراضخاً ووضيعاً، خائنة وخائرة عن الدفاع عن طبقتها الوسطى، عاجزة وقاصرة عن رؤية واضحة للتقدم بمجتمعها أو حتى الدفاع عن نفسها أمام تغوّل السلطة وامتهانها المستمر. قبل الختام أؤكد قابلية الإنسان المصري على الازدهار والابتكار والإبداع؛ ما يمنعنا ويحدنا نظام إداري سياسي خرج عن السيطرة وصار مزهواً بنفسه وبقدرته على البقاء ضد كل دعاوى الترشيد أو الإصلاح، ويظن نفسه عصيّاً على الإزالة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

شريف العصفوري
روائي وكاتب مستقل
تحميل المزيد