أنا عربية ولا أتحدث إلا الفرنسية.. كيف حطمت الهيمنة والاستعمار الغربي اللسان العربي؟

تم النشر: 2022/08/11 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/11 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش

أخبرتني برحيل والدتها، وفي حديثها سمعت ألفاظ الدعاء تخرج من ثغرها وفيها معاني الألم والحزن، وفيها أيضاً الوفاء والإخلاص، والحب الذي يتركه الميت وراءه إذا ترك خلفه ابنة صالحة مثل هذه السيدة، التي تحاورت معها هناك في مطار تونس – قرطاج..

كانت تتحدث إليَّ بلسان عربي مُرقع تتصارع فيه الألفاظ الفرنسية مع العربية؛ وهي تسعى جاهدة إلى تشكيل جملة مفيدة، بالرغم من تبعثرالألفاظ الفرنسية في ذهنها، ومن شدة هذه البعثرة يشعر المنصت إليها بأن لغتها الأم هي الفرنسية، لا العربية، لذا كانت تتلعثم بالعربية عندما كانت تحاول التحدُّث بها..

حدثتني أيضاً بأنها ستعلِّم أبناءها القرآن الكريم، والسبب أن يدعوا لها بعد موتها، استناداً إلى الحديث النبوي الشريف الذي فيه انقطاع عمل الميت إلا من ثلاث، ومنها إذا ترك وراءه ولداً صالحاً يدعو له، أو صدقة جارية؛ وهي لا تزال تحافظ على الدعاء لوالدتها؛ لأنها تعلمت العربية، بينما أبناؤها لم يتعلموا العربية بعد.

وكان برفقتها نسوة جلسن بقرب منها، وانضممن إلينا في نهاية الحوار؛ وبسبب ضعفهن في اللغة العربية لم يتحدثن إلا بكلمات عربية فرنسية وهن أكثر انتماءً للثقافة الفرنسية من العربية، وملابسهن وكلماتهن تحمل دلالات ثقافية بهما، يتأكد من خلالها عشقهن للفرنسية وثقافتها، وقد أحلن سبب عدم قدرتهن على التحدث بالعربية إلى صعوبة اللغة العربية، وفي المقابل يعني ذلك سهولة قواعد اللغة الفرنسية، لهذا السبب هن يتحدثن الفرنسية بطلاقة بدلاً من اللغة العربية الفصحى.

 وانتهى الحوار بيننا، وسمعت النداء الأخير لرحلتي المتجهة إلى المدينة المنورة. وقمت بتوديع السيدة آمنة ورفيقاتها، وطلبت مني الدعاء لها عند زيارتي للمسجد النبوي الشريف الذي تتمنى أن تزوره يوماً ما. وقمت بتوديعها وهي متجهة إلى باريس..

حقيقة الاستعمارات الأوروبية المتوحشة

لقد انتهى المشروع التنويري الغربي. وتلك الشعارات الإنسانية المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة، لم يعد لها أي قيمة في الحضارة الإنسانية، وإن كانت الحداثة قامت على مركزية الإنسان والعقل والعلم والتقدم التكنولوجي، فإن ما بعد الحداثة لم يأتِ إلا لفضح هذه الشعارات والكشف عن الخدع السياسية الموجودة فيها، والآباء المؤسسون لمدرسة فرانكفورت كشفوا بسهولة زيف هذه الشعارات بعدما حللوا المركزية الأوروبية والحروب الأوروبية والهيمنة الغربية على شعوب العالم.

وإن كان الفلاسفة الأوروبيون ناقشوا قديماً زيف هذا المشروع الغربي التنويري، وقاموا بانتقاده تحت مفاهيم عدة، فإن رواد الفكر في المجتمعات المستعمرة لم يفهموا حقيقة الاستعمار إلا بعدما استفاق الأوروبيون من أوهام الحداثة وسحرها، وقاموا بتمرير مصطلح ما بعد الاستعمار لكي يستغفروا عن الجرائم التي ارتكبتها حكوماتهم في حق الشعوب الأخرى، ومن هنا استفاق التيار المنبهر بالثقافة الغربية أيما انبهار، دون نظرة عميقة في التاريخ السياسي الاستعماري الأوروبي وتحليله والتأمل فيه.

الحضارة الأوروبية تجد حقيقتها في سرعة الانتشار، وهذا ما يفسر الثورة الصناعية والمكائن البخارية والسكك الحديدية التي بدأت بها أوروبا ثورتها الصناعية، فهي إذ تسعى إلى بلوغ أطراف العالم دون النظر إلى النتائج الأخلاقية المترتبة على ذلك، لذا نجد مفهوم الإمبريالية حاضراً.

والإمبريالية تتوافق تماماً مع الأهداف التي قامت عليها هذه الحضارة، وتلك الأهداف لا يتم الوصول إليها إلا من خلال هذه الوسائل المادية التي تخدم هذا المشروع الإمبريالي القائم على القوة والانتشار قدر الإمكان، وبما أن القوة هي التي تنطلق منها هذه الحضارة، فإن القيم الإنسانية لم يعد لها أي اعتبار، ولم يعد للضعفاء أي مكانة أمام هذه الحضارة الممتدة إلى شعوب العالم.

الاستعمار الفرنسي وتحطيم اللسان العربي

لقد ارتكب الاحتلال الفرنسي جرائم بشعة في وطننا العربي، وأكبر جريمة هي على المستوى الثقافي، عندما تلاعبوا بألسنة الشعوب وأبعدوهم عن لغتهم الأصلية، وفرضوا عليهم لغتهم، فهم بهذه السياسة اغتالوا روح الحضارة الإنسانية وفصلوا الإنسان عن تاريخه وثقافته التي يجد فيها هويته المعنوية من خلال الأرض واللغة، وتلك هي الجريمة الأولى للاحتلال الفرنسي في حق الشعوب المستعمرة.

واستهداف القوى الاستعمارية الفرنسية للغات الشعوب المستعمرة هو من أجل ترك ذكرى بشعة، يتجدد فيها تاريخ المستعمر على ألسنة الشعوب المستعمرة، لذا نجدهم يرددون اللغة الفرنسية بكل فخر، ويقدمونها على أنها لغة التحضر والتقدم، بدلاً من التعامل معها على أساس التواصل الإنساني لا أكثر.

أنا لست ضد الإثنيات اللغة والدين، ولست ضد أن تتحدث جميع شعوب العالم بلغاتهم الأصلية التي ينتمون إليها، فأنا أدعم هذا الحق وهو تنوع اجتماعي راقٍ، ويجعل المجتمعات الإنسانية واعية ومتقدمة، ولكنني أنا ضد الثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية، لذا أرفض بشدة أن يتم تفضيلها على العربية في أي بلد عربي؛ لأننا نملك ماضياً أليماً مع القوى الاستعمارية الفرنسية، وقد أذقناهم الويل في نضالنا ومحاربتنا لهم، ولا أرغب في أن تحل لغة العدو المستعمر مكان لغة أجدادنا الذين ماتوا دفاعاً عن الأرض واللسان.

ساعات قضيتها مع السيدة آمنة ونحن نتحاور بصالة الانتظار في مطار تونس – قرطاج، وأخبرتها بكل شيء عن سياسة الاستعمار الفرنسي بالوطن العربي. وكشفت لها انتقاداتي الشديدة للسياسة الاستعمارية الفرنسية، وقدمت لها جميع أفكاري السياسية المعارضة للغرب وللفرنسيين. وقلت لها: تلك هي محاولات الاستعمار الفرنسي لتحطيم اللسان العربي وهيهات.

والآن ذلك هو النداء الأخير لرحلتي الذي قطع حواري معها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إدة جعفر مولاي الزين
كاتب وصحفي موريتاني
تحميل المزيد