بشعر يخالط بياضه سواده يكاد يغالبه، وصوت رجولي مميز، وطلة بها رقة وحكمة وخشونة، وابتسامة بها الكثير من الحنان، أتذكر محمود سعد مخزن في ذاكرتي على هذه الهيئة، لا أتذكر بداية رؤيته على الشاشة بالطبع، ولكني أعود بذاكرتي فلا أراه إلا على الحالة المذكورة.
يمتد حبي لمحمود سعد لسنوات طويلة، أكبر ويكبر معي وتكثر قضايا الوطن، أحبه لانضمامه للناس، وأختلف معه سياسياً في بعض المواقف، وأحبه أكثر لأنه يشبهني، يشبه الناس من طبقتي الذين يسمعون الغناء، ويزورن مقامات الأولياء، الذين يتمتعون ببعض الإباحية الكلامية في بعض المواقف، ويتدبرون آيات القرآن الكريم بصوت عبد الباسط عبد الصمد، الذين يقرأون لنجيب محفوظ، ويجلسون على الأرصفة مع العمال باليومية، ولأنني شخص مهووس بالاستماع للناس ولكلامهم وحكاويهم، وأحب الغطس داخل عقولهم، لم يقربني لمحمود سعد مثلما فعلت الفيديوهات التي ينشرها عبر صفحته الخاصة على الفيسبوك؛ ليحكي بها بنفسه عما يشغله من قضايا وأراء، أحاديث في شتى المجالات، أقرب للفضفضة من أي توصيف آخر، ولم يقرِّبني منه في كل تلك المقاطع مثلما فعل الفيديو الأخير الذي أعلن فيه عن عدم حبه لوالده.
أثار حديث محمود سعد الأخير عن والده الكثير من ردود الفعل المتباينة، فما بين البعض الذين رأوا أن سعد عاق لوالده، وهتك ستر الميت، وأنه يحمل قدراً من الكراهية البغيضة لأبيه، وما بين الكثيرين الذين أثار حديث سعد عن الأبوة السامة أوجاعهم الخاصة، أو أوجاع بعض ممن يعرفونهم، فتعاطفوا معه تعاطفاً غير مشروط.
ذكرى موت أمي
بعد أيام قليلة تحل الذكرى العشرين لوفاة أمي، في العادة تكون تلك الأيام مليئة بتذكر الأحداث والمواقف التي تتبعت موت أمي، منذ مدة ليست بالقليلة وأنا مشغولة بتحليل كل المواقف التي أتذكرها داخل رأسي لكل من جاورني من الأهل وقتها، أهل أمي وأهل أبي، أتذكر الكثير من المواقف الحسنة وأدعو لأصحابها، وأقف حائرة أمام كل المواقف المسيئة، حائرة لأنني أقع بين أمرين الأول الاعتقاد السائد بأنه يجب عليَّ أن احترام الكبير مهما فعل- اعتقاد تربينا عليه وأصبح من التعريفات الملازمة للأدب- والآخر برفض عقلي لتلك المواقف ورؤية قدر لا بأس به من انعدام الإنسانية وقلة الأصل، أفكر في الرجل الذي وبخ أخي الأصغر؛ لأنه شتم ابنه، متجاهلاً الحالة النفسية لطفل لم يتجاوز السابعة من عمره فقد أمه، وفي الرجل الذي يعتقد في نفسه كبر المقام المؤذي بكل أقواله وفي المرأة التي سمعتها تخبر أحد الجيران بضرورة أن يتزوج أبي، بينما لم يكن مر على موت أمي أكثر من أسبوعين، كل هؤلاء صلة قرابة من الدرجة الأولى، أفكر كيف لي أن أحب هؤلاء وأبرّهم وأصل رحمهم، أفكر في كل هؤلاء وأعتقد أنني لن أرتكب مثلما ارتكبوه أو على الأقل يُفترض أن تكون تصرفاتهم جميعاً أرحم من ذلك بكثير.
كل تلك المواقف جرت في حدث واحد في حياتي، لكننا لو اطلعنا على الحياة بالكامل- سواء حياتي أو حياتك- سنجد بالطبع الكثير من الجفاء وقلة الاحترام، وفي المقابل طلب تنفيذ الكثير من المسلّمات لتحقيق الأدب وحسن الخلق والفلاح في الدنيا، إما ستلاحقك اتهامات بالجحود والافتقار إلى الأدب وسوء الخلق.
أفكر أنني، وأنا الآن عمري يبلغ ثلاثة وثلاثين عاماً، بينما كانوا جميعاً أكبر مني، لو كنت مكان ذلك الرجل لتعاطفت مع طفل صغير فقد أمه أكثر من غضبي لابني الذي نعته الصغير بلفظ خارج، ولم أكن أذى مطلقاً مثل الرجل الآخر، وبالطبع لم أكن أفكر في زواج الرجل الذي ماتت زوجته للتو.
أستطرد لأقول أخذ مني التفكير شهوراً طويلة، بل سنوات، إلى أن توصلت إلى أنه لا يجب احترام الكبير ما دام شخصاً جاحداً لا يرى سوى نفسه، وأن تلك المرأة التي لم تراعِ مشاعر الصغار لا يمكن حبها بأي حال، أما الشخص المؤذي فهو نار يجب الابتعاد عنها حتى لا تحترق، وهذا ما أكده كلام محمود سعد عن أبيه.
احترام الكبير والتنظيف للبنات مسلّمات يجب هدمها
ما معنى الاحترام؟ وهل هناك فارق بينه وبين الحب؟
ظل هذا السؤال يرادوني لسنوات طويلة، بل يتسبب في معركة نفسية محتدمة داخلي، أنا لا أحب فلاناً كبير السن؛ لأنه تسبب في أذى لي، ولو كان أذى لفظياً، وفي الوقت ذاته يفرض عليّ المجتمع احترام الكبير دون سبب، فماذا لو كان الكبير شخصاً غير محترم بالأساس؟
أسرح فيما عشت فيه طفولتي، فأرى الكثير من المسلمات المجتمعية التي فرضها عليّ المجتمع وعشتها مجبرة، أراني طفلة لم تبلغ العاشرة، أقف لجلي الصحون في منزلي القديم بأحد المساكن الشعبية ليخبرني أبي "اتعلمي، لأن دي المهمة الأولى للبنت، حتى لو بقت وزيرة، مهمتها الأولى هي المسح والكنس والتنضيف" أشعر بغصة، لا لأنني لا أؤمن بأهمية النظافة، ولكن لوجودي في مجتمع لا يرى فيّ إلا أداة لتنظيف أوساخه.
أرى الرجل صاحب الهيبة كبير السن، والذي يفترض في نفسه أنه كبير المقام، يوبخ زوجته؛ لأن الطعام به بعض الملح الزائد، أمام الجميع في أحد التجمعات الرمضانية، وما عليها سوى الابتسام؛ لأن المجتمع يتيح للزوج صب غضبه على زوجته "لأنه صايم طول النهار وعاوز لقمة مضبوطة".
أفكر كيف لي أن أسلم لمعتقدات أبي، وكيف لي أن أحترم رجلاً شاب شعره وخاب عقله، يهين امرأته أمام الجميع، أصل بعد سنوات طويلة من التفكير وبعد الوصول لمرحلة من النضج إلى أنه "مش لازم على فكرة"، لا يجب عليّ أن أحترم معتقدات تهينني، أو حتى تنقتص مني، أو لا تناسبني على أقل تقدير، ولا يجب عليّ أن أحترم "راجل مهزق".
الفعل في الخطأ نفسه لا في رد الفعل
المسلّمات المجتمعية التي نحياها تضعك دائماً في خانة المتهم، مع أنك الضحية في كثير من الأحيان، تضعك أمام طلب بر الوالد وحبه، حتى لو كان لا يعرف شيئاً عن الأبوة، تترك قسوة الأب أو الأم أو أي من صلة القرابة، تترك الجفاء والأذى البين، وتتمسك بردّ فعلك الرافض لكل هذا، المسلّمات تترك الفعل بكل خسّته ودناءته، وتتمسك بردّ الفعل الذي على الأغلب يكون رد فعل منطقياً وطبيعياً.
محمود سعد مرة أخرى
ما نشره محمود سعد لم يجعلني أحبه؛ لأنه عاش ما عاش من جحود أبيه عليه وعلى إخوته، لكنه أكد لي أنني على الطريق الصحيح، لا توجد مسلّمات، الحكم على العلاقات الإنسانية لا يتم من خلال بعض الاعتقادات التي توارثناها جيلاً بعد جيل، ولكن من خلال التعامل الثنائي في العلاقة، فالأب الجاحد لا يمكن لشخص أن يحبه، لكن أهم ما فعله كلامه هو أنه خلّصني من عقدة "القلب الأسود"، التي لازمتني؛ لأنني ما زلت أتذكر كل ما حدث لي من إساءات، رأيت في الرجل الذي وصل للسبعين من عمره، ووصل معها للنجاح ولحب الناس وللكثير مما يحلم المرء الوصول إليه غصة حقيقية، ما زالت موجودة بسبب هجران أبيه له.
ما فعله محمود سعد إنساني حقيقي وصادق وشجاع، لكننا مجتمع يخشى هدم الثوابت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.