قابلت جاراً لي من الجنسية الهندية بسوق من الأسواق، بعد مدة طويلة لم نر فيها بعضنا بسبب أني غيرت محل سكني، ولأنه كان طيباً ودوداً هادئاً أقبلت عليه محيياً، وبينما كان الرجل يستعد للسلام المتعارف عليه في بلدته القابعة في أقصى جنوب الهند، كنت أستعد لأحضنه، وهو الذي لا يعرف عن الأحضان بين الرجال شيئاً.. فحصل مشهد مهلك من شدة الضحك والخجل!
ورغم ما بدا من عاطفة قوية من قبله ومن قبلي، تعكس ملمحاً إنسانياً خالصاً بعيداً عن الدين والمعتقد واللغة والثقافة، إلا أن هذا الخطأ الذي وقعت فيه تكرر قبله عشرات الأخطاء عند الاحتكاك بالثقافات.
وقبل يومين، وفي حديث مع عامل البوفيه بمحل عملي، باكستاني الجنسية، استنكر الرجل على الشعوب التي تأكل لحم الخيول، معتبراً أنهم آثمون؛ لأنهم يأكلون ما حرم الله، فشرعت أوضح له المسألة من وجهة نظر فقهية، وكانت صدمته كبيرة لما علم أن لحم الخيول حلال!
ويستغرب البعض حين يعلم أن إخراج الريح في كثير من بلدان أوروبا والغرب عموماً ليس عيباً، بل يرونه أمراً عادياً، على عكس "التكريعة" التي تعد من العادات غير المهذبة في العرف الغربي، وذلك على عكس كثير من شعوب آسيا التي تعتبر أن "التكرّع" سلوك تلقائي لا عيب فيه، ولكن العيب كل العيب في إخراج الريح!
أيضاً، قدر لي ذات مرة العمل مع طاقم من تونس الحبيب، ولما بادرت بالتعرف على زميلي الذي يقف بجانبي من باب (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، سُر الرجل وشرع يحدثني عن أهله وأسرته، وكان من ضمن ما قال: "أخي الأكبر معرس"، فانتفضت من مكاني وقلت له بتلقائية: "معرس إزاي يا جدع!".
وقبل أن أقرر الابتعاد عنه، لاسيما وقد اتضح أنه من عائلة "ربع كم"، كان قد أفهمني أن التونسيين يقولون على العريس: "معرس"!
أتذكر في أول يوم عمل لي في دولة ليبيا الحبيبة دخل عليّ موظف حكومي وسألني: وين الساعة؟
فأخذت أشير له على ساعة الحائط، وهو يكرر السؤال وأنا أكرر الإجابة، وأنا أظن أنه غبي، وهو يعتقد فيّ الغباء، وفي الحقيقة لا أنا غبي ولا هو غبي، فهو لم يدرك أنه اليوم الأول لي في البلد، ولم أعرف بعد معنى كلمة الساعة.. عموماً كان يقصد عداد الكهرباء ليحصل على القراءة!
ساعتها قررت أن أجلس مع أحدهم لأتعلم منه أبرز الكلمات المتداولة، وقد أفادني ذلك كثيراً، حيث حذرني من استعمال كلمة "فرخة" من صاحب المطعم، ذلك أن "فرخة" في اللهجة الليبية تعني "المرأة المومس"، كما حذرني من طلب "بيضة" واستبدالها بكلمة "دحية"، وغيرها من الكلمات التي إن تفوه بها شخص عُد من الهالكين!
ربما غضب زميل عمل ذات مرة من صديقنا السوري عندما سأله: "إيش لون المرة تبعك؟"، لأنه فسر الكلمة وفقاً لبنيته المعرفية، لكنه سُر لما علم أن الرجل يسأله عن زوجته التي كانت مريضة!
اختلاف اللهجات والثقافات والعادات بحر واسع، مخطئ من يستنكر على الآخرين وهو جاهل بطباع الشعوب، ومتهور من يتوسع في سب الآخرين وإلصاق التهم بهم، يسخر من طعامهم، وشرابهم، وملبسهم، متصوراً أنه مركز الكون، فربما كان صعلوكاً وهو لا يدري.
على كل، من مميزات السفر والترحال التعرف على ثقافات وعادات الآخرين، واتساع الأفق، واكتساب المهارات والخبرات، واكتساب المرونة في التعامل مع الآخرين.. ورحم الله الشافعي لما قال:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا ** وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم، واكتساب معيشةٍ ** وعلم، وآداب وصحبة ماجد
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.