كيف وضع سيد قطب الفكر الإسلامي في مأزق معقد؟

عدد القراءات
699
عربي بوست
تم النشر: 2022/08/10 الساعة 08:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/10 الساعة 08:54 بتوقيت غرينتش
المفكر سيد قطب/ مواقع التواصل الاجتماعي

في المقال السابق، تحدثت عن المقاربة الخطأ لفكر الأستاذ سيد قطب بالاختزال في قضيتي التكفير والعنف؛ لأن هذه المقاربة، من وجهة نظري، تشوش على النقاش الأساسي الذي يجب أن يجري حول التحول الراديكالي الذي أحدثه قطب في الفكر الإسلامي المعاصر، والذي مازال له أثرٌ بالغ على التصورات التي تتبناها الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية، ويتسبب في حالة من التوتر الدائم بينها وبين النظم والأفكار السياسية القائمة. وقد تناولت في مقال سابق بشيء من التفصيل مفهوم "الحاكمية" كما عبر عنه سيد قطب، لكن ما يهمني في هذا المقال هو الإشكالية التي يمكن تسميتها بالمقاربة العقائدية للنظم السياسية والاجتماعية، أو بمعنى آخر استخدام المنطق العقائدي في الإجابة على سؤال: ما هو النظام الإسلامي السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي؟

المنطق العقائدي له سماتٍ مميزة؛ فهو منطق حديٌّ بالتعريف، فهناك توحيدٌ أو شرك، إيمانٌ أو كفر، ولا يمكن أن يقبل المنطق الرمادي أو التبادلي "نعبد إلهك عاماً وتعبد إلهنا عاماً"، وثانياً هو إلهيٌ توقيفي، نتلقاه عن الوحي نصاً وتفصيلاً، كالتعريف بالله وصفاته، واليوم الآخر، والحساب والجزاء، والجنة أو النار، ونحو ذلك، وكذلك فإن تعامل المؤمنين مع المعتقد يكون بالتسليم والاعتناق، ولا يتطلب في بعض الأحيان أن يكون معقولاً وفق المنطق البشري التقليدي، فعلى سبيل المثال فكرة الحياة الأبدية ذاتها فكرة غير معقولة وفق إدراكنا الإنساني، لكنها، في الوقت ذاته، مما نؤمن به تسليماً وفق معتقدنا الإسلامي.

لذلك فأنا أزعم أن أحد أهم نتائج التحول الراديكالي في الفكر الإسلامي المعاصر على يد سيد قطب هو انتقال الجدل حول الأحكام الإسلامية المتعلقة بتنظيم معايش الناس من الإطار الفقهي والفكري إلى الإطار العقدي، لتكون مسألة إيمان وكفر؛ إذ يقول سيد قطب في كتاب "مقومات التصور الإسلامي":

"إن قضية الحاكمية والشريعة في هذا الدين، هي قضية عقيدة ودين قبل أن تكون مسألة حكم ونظام، هي قضية إيمان بالله أو كفر قبل أن تكون مسألة صلاح أو فساد، هي قضية دخول في دين الله أو خروج من هذا الدين، قبل أن تكون مسألة شكل من أشكال الحكم، أو نظام من أنظمة المجتمع.. إنها قضية وجود هذا الدين في الأرض أصلاً، أو محو هذا الدين!!".

هذه المقاربة قد تكون متفهمة في سياق أن قطب كان يحاول أن يدافع عن مرجعية الشريعة الإسلامية في مواجهة النظم والأيديولوجيات الغربية التي حملها الاستعمار إلى المجتمعات المسلمة وتبنتها بعض الحكومات العربية ما بعد الاستقلال، لكن هذا الدفاع، في رأيي، قد وضع الفكر الإسلامي في إشكالية معقدة. فوفقاً لهذه المقاربة، أصبح إقامة النظام الإسلامي في مجالات الحياة متطلباً من متطلبات التوحيد، وهذا النظام ليس فقط في الحكم والتشريع، بل كما ذكر قطب فهو يشمل "كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، من الاعتقاد والتصور، إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلى التشريعات القانونية، إلى قواعد الأخلاق والسلوك، بل والمعرفة بكل جوانبها، وفي أصول النشاط الفكري والفني جملة… وفي هذا كله، لابد من التلقي عن الله، كالتلقي في الأحكام الشرعية، بمدلولها الضيق المتداول، سواءً بسواء"، أي إن هذا النظام هو إلهيٌ، نتلقاه عن الله توقيفاً، وتفاعله مع الأفكار والمؤسسات القائمة في المجتمع هو من قبيل الخلط غير المقبول؛ لأن الهدف هو "قيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها، وإلغاء القوانين البشرية".

هذا التأطير لمرجعية الشريعة الإسلامية إشكالي من عدة أوجه:

أولاً: كيف يمكن تحديد النظام الإسلامي الذي يتوافق مع مقتضيات الحاكمية؟ فسيد قطب أشار في عدة مواضع أن هذا النظام الإسلامي لا يحتكر التعبير عنه "رجال الدين" كما في النظم الثيوقراطية، وأنه لا يتأتى بمجرد التجديد الفقهي النظري؛ لأن شرط التسليم للحاكمية غير متوفر في هذه المحاولات، وفي مواضع أخرى، أشار قطب إلى أن هذا النظام سيتكشف ويتطور بالتطبيق، والتفاعل مع الواقع، وهذا تناقض مهم، فمن جهة يكون التسليم بالحاكمية مسألة إيمان وكفر، ومن جهة أخرى تمثلها في النظم الحياتية للمجتمع المسلم غير معروف الماهية، ولا من هو المنوط باستنباطه وإقامته.

ثانياً: أن كثيراً من الأحكام الشرعية التي تتناول تنظيم معاش الناس بطبيعتها حمالة أوجه، وبالتالي لا تخلق نظاماً إسلامياً محدداً، بتعريف الألف واللام، بل إن الاجتهاد في ضوء هذه الأحكام قد ينتج أنظمة متعددة وأحياناً متناقضة، فعلى سبيل المثال، الأمر بالشورى من أساسيات القيم السياسية الإسلامية، ولكن هناك الجدل الشهير حول مدى إلزامية الشورى، بين رأي أقرب للمزاج الديمقراطي يرى أن نتائجها ملزمة للحاكم، وإلا فما الجدوى منها، وبين رأي سلطويّ يراها فقط مُعْلمة، وأن الحاكم هو صاحب البيعة، وهو المسؤول أمام الأمة، فكيف نلزمه برأي آخر ثم نحاسبه عليه؟ وبغض النظر عن هذا الجدل، وفقاً للرؤية الحدية للفكر الراديكالي، أي من هذين النظامين، على اختلافهما، يمثل الحاكمية التي يعد ما عداها من الجاهلية؟

ثالثاً: القول بأن النظم الحياتية يتم تلقيها إلهياً، وأنه إما شرع الله أو قوانين البشر هو طرح غير دقيق؛ فهذا الفصل والعزل بين الوحي الإلهي والعقل البشري مسألة غير ممكنة، فالنصوص الشرعية المرتبطة بالنظم الحياتية، كما ذكرنا، محدودة نسبياً وحمالة أوجه، لذلك تفاعل معها العقل المسلم في ضوء منهجيات الاستنباط القائمة وفي ضوء الخبرات الحياتية المعاشة، والمثال الشهير في ذلك، في سقيفة بني ساعدة، في اللحظة التأسيسية لدولة الخلافة، حين غابت النصوص الشرعية الواضحة لتنظيم عملية الاستخلاف، لجأ الصحابة إلى استعمال المنطق العقلي: "منا أمير ومنكم أمير.. هذا أول الوهن"، وإلى الخبرات الحياتية التي تحددها الأعراف القبلية القائمة: "إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش".

وإيجازاً قام الفكر الراديكالي لسيد قطب على مقاربة النظم الاجتماعية بمنطق المقاربة العقائدية؛ حيث إنها تدخل ضمن إطار الحاكمية، التي تدخل بدورها ضمن توحيد الألوهية، ومن ثم بنى على ذلك أن هناك نظاماً حياتياً إسلامياً بعينه، نتلقاه عن الله وحياً، وهو مغاير للنظم المجتمعية القائمة، وبالتالي فإن المجتمعات القائمة، بما فيها المسلمة، جاهلية، وإن وجود الإسلام ذاته قد توقف. 

هذه الفرضيات المتتابعة لم تؤدّ فقط إلى أن حمل البعض أفكاره على محمل التكفير، واتخذها ذريعة لممارسة العنف، وهو ما ناقشناه في المقال السابق، لكنه، من وجهة نظري، أصاب الحركات السياسية الإسلامية والفكر السياسي الإسلامي المعاصر بالتشويش؛ إذ أصبح لديهم هاجس البحث عن "النظام الإسلامي" بمواصفات سيد قطب، الذي هو، على النسق العقائدي، واحدٌ في مقابل الجاهليات الأخرى، ولا يتعدد كما أنه لا يوجد إسلام متعدد، وهو متفردٌ لا يتقاطع مع منتجات الفكر البشري من أفكار ديمقراطية أو اشتراكية أو ليبرالية، وبالتالي، لم تعد فكرة تعدد النظم السياسية والاجتماعية ضمن المرجعية الإسلامية فكرة مقبولة، أو دليلاً على ثراء المرجعية الإسلامية، بل انخرطت هذه الرؤى المتباينة في معركة وجود، تحاول كل منها أن تكتسب لنفسها الصفة الإسلامية الحصرية، وتتهم الرؤى الأخرى بالانحراف، وكذلك، أصبحت مقاربة الشورى بمنطق مشابه لليبرالية الديمقراطية، أو العدل الاجتماعي بمنطق وأدوات اشتراكية أو ليبرالية اجتماعية من قبيل الهزيمة النفسية و"الغزو الفكري"، وليس من قبيل التفاعل الطبيعي، وإن شئت الصحي، مع الحكمة البشرية المتراكمة. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد عفان
باحث في دراسات الشرق الأوسط
تحميل المزيد