كلما عُرض المسلسل أتأمل تلك العلاقة، وتذهلني من جديد كل مرة، يمتعني مشهد الصلح بين الست إحسان وزوجها عبد البديع، بعد أن فقد الأخير أعصابه في مرة لشدة صلف زوجته، فوكزها في كتفها، وناداها باسمها مجرداً من "ست"، فاعتبرتها إهانة تستوجب الغضب، وتركت البيت. أتأمل المشهد التمثيلي البديع بين الاثنين حين راح يصالحها كي تعود إلى بيتها في الفيوم، كيف كانت تنتظره وتصده في الوقت ذاته، لكنه تمكن أخيراً من احتوائها بلطف وهدوء، ملخصاً علاقته بها "انتي ست الكل".
الخدعة الكبرى و "علقة الشبشب"
قبل ولادتها توفي الطفل البكري لوالديها، وكان يُدعى رجاء، لذا قررت الأسرة أن تسميها بالاسم ذاته، ولكن مع تغيير ربما يساعدها لتبقى على قيد الحياة، لذا كتبوا اسم ابنتهما الكبرى في شهادة ميلادها "عايشة رجاء حسين زكي إسماعيل"، وهو ما حدث فعلاً، حيث بقيت ابنتهما الكبرى على قيد الحياة، لينجب والداها من بعدها 7 أشقاء.
فتاة مجتهدة، وأم وأب صارمان: "مكنش عندي نية أمثل، في يوم مروحة بيتنا من المدرسة الابتدائي لقيت مدرج الأحياء فيه همس، ولقيت راجل واقف بيدرب زميلاتي، اتسحبت وقعدت أتفرج، طال بيا الوقت، خدت بعضي وروحت لاقيت والدتي واقفة على الباب، خدت علقة بالشبشب على تأخيري، لكن الغريب إني رغم التزامي لقيتني بحضر البروفات واتأخر واتضرب، وراحت الأيام ولقيت هوسة، قالوا البنت اللي بتعمل الدور وقعت على رجلها عاوزة 15 يوم ما تتحركش، قولتله أنا حافظة الدور يا أستاذ، دور سندريلا، وفي يوم العرض حصل الشيء اللي خلاني أقرر أكون ممثلة، تسقيف الجمهور ليا".
كان "التصفيق" بمثابة السحر الذي ألقاه الجمهور في وجه رجاء، التي كانت على موعد مع القدر، في ذلك اليوم الذي دعتها فيه زميلتها وداد لحضور حفل زفاف قريبة لها: "يومها غنيت يا دبلة الخطوبة، وكان موجود يوسف عوف، قالي صوتك حلو، في برنامج إذاعي قدمي فيه، روحت ونجحت وغنيت يا دبلة الخطوبة ونجحت، وادوني لواحد اسمه يوسف شوقي عملي لحن خاص بيا، وغنيت أغنية كانت بتتذاع الساعة 4 الصبح"، لكن نجاح رجاء في الغناء لم يخطفها من شغفها الأثير، لذا قامت بتنفيذ الخدعة الكبرى في حياتها، حين أوهمت والديها بأنها التحقت بكلية الحقوق، بينما هي قد التحقت بالفعل بالمعهد العالي للسينما.
لم تكن كذبة لتستمر، لذا لجأت لعم يدعى "محمود" تصفه بأنه "فرفوش مش متزمت زي أمي وأبويا"، هكذا جاء العم ليقنع والدها، الذي اقتنع أخيراً مع اشتراطات واضحة في هذا الشأن: "لا لبس مكشوف، ولا لبس قصير، ولا حد ييجي ليكي، ولا تروحي لحد، وتخلصي شغلك وتيجي على البيت على طول، فضلت طول عمري حافظة كلمات أبويا، وأنفذها بالحرف"، عند هذه النقطة انطلقت والتحقت بعدد من الفرق المسرحية، حيث زاملت أسماء كبرى في بدايتها، مثل حسن الشرقاوي، وعبد الرحمن أبو زهرة، وجمال إسماعيل، وكرم مطاوع، ونبيلة السيد، ونجيب سرور، تقول: "كنا بنعمل روايات عظيمة".
من المسرح في فرقة نجيب الريحاني، إلى المسرح القومي، إلى التلفزيون، حيث عدد من المسلسلات الناجحة، قبل أن تلحق بركب يوسف شاهين، والذي قدمت بصحبته خمسة أعمال، ترى رجاء أن ما تعلمته بين الفنانين الكبار أكبر مما تعلمته في المدارس والمعهد: "اتعلمت الصبر واحترام الصغير قبل الكبير واحترام الكلمة والمواعيد، ربوني، وكان يومي مقسم من الإذاعة للتلفزيون بروفات من 11 لـ2 ظهراً، ومسرح من 9 لـ12 صباحاً".
لم يسطع نجم رجاء حقاً إلا عقب مشاركتها مع المخرج نور الدمرداش في مسلسل مارد الجبل، حيث قدمت دور "عوالي"، ومن بعده قدمت مع المخرج محمد فاضل: "أحلام الفتى الطائش"، وهو ذات التوقيت الذي تزوجت فيه من زوجها الأول والأخير سيف عبد الرحمن، وكذلك أدوارها المميزة في السينما في أفلام مثل: "العصفور" و"الإسكندرية كمان وكمان" و"حدوتة مصرية"، و"أبناء وقتلة"، وتعاونها اللافت مع فاتن حمامة في "أفواه وأرانب"، و"أريد حلاً".
حين ماتت للمرة الأولى
"في بيتي بعد الجواز كنت بعرف إزاي أقسم وقتي، عندي بروفة الصبح من 11 لـ2، عندي عرض من 9 لـ12، مواعيدي واضحة، أروح أحط الغسيل في الغسالة، آخد فم غسيل، أحط التقلية على النار، أطفي على الأكل، أرتب البيت، بحيث لما أنزل تاني يوم أروح شغلي أبقى مخلصة غسيلي وعاملة أكلي، ومرتبة نفسي، ولادي ييجو من المدرسة يلاقوني، نستنى باباهم، كلنا لازم نقعد على طرابيزة واحدة نتجمع كأسرة"، لم تتعامل رجاء حسين من بدايتها وحتى نهاية حياتها كنجمة، ظلت طوال الوقت تتحدث باعتبارها امرأة عادية، هكذا عاشت 51 عاماً مع زوجها، في واحدة من أكثر الزيجات الفنية طولاً، وسط أسرة صغيرة من ولد وبنت، وأسرة كبيرة تكفلت بها رجاء عقب وفاة والدها: "توليت أمورهم، وفضلت معاهم لحد لما توفاهم الله جميعاً، وسترتهم وأديت رسالتي كاملة".
انتهت الأسرة الكبرى، فلم يبقَ لرجاء أحد، هكذا كانت توضح في كل لقاء "أنا مقطوعة من شجرة، لا خال ولا عم ولا أخت ولا أخ"، ربما لهذا حرصت بشدة على أسرتها الصغيرة، رغم الأسباب القوية التي كانت تدفعها إلى الانفصال أبرزها الخيانة، لكنها كانت تمتلك فلسفة خاصة: "مادام اتجوزتي وخلّفتي يبقى تستحملي.. اللي تطلق وهي معندهاش أسباب قوية مجرمة، الولاد ذنبهم إيه؟".
عانت رجاء غياب والدها، الرجل الذي كان يمسك بيديها من وإلى المسرح القومي، ينتظرها حتى تنهي عملها خوفاً عليها، اختفى فجأة تاركاً لها تجربة مريرة "عرفت يعني إيه الأب مش موجود، محبتش ولادي يمروا بالتجربة دي، كنت عاوزة أربي ولادي تربية كويسة، كنت مؤمنة مادام في أطفال عدم الانفصال أصح حتى لو على حساب كرامتي، أنا رايحة، لكن ده الجيل الجديد، لازم يطلع في بيئة سوية، أي ست بتطلق وعندها أولاد بدون سبب قوي عاوزة الحرق، تتخان مرة واتنين وأربعة عادي مش مشكلة، تستحمل لحد لما يقفوا على رجليهم، كنت بسأل نفسي هاعيش ازاي واقعد لوحدي ازاي واصرف ازاي؟".
هكذا واصلت تجربتها حتى العام 2014، حين توفي ابنها الأكبر، ثم انتهى كل شيء في العام 2016، حين انتهت رحلة زواجها الطويل بالطلاق، لتخرج عن صمتها أخيراً، معللة بوحها "اللي كنت مكملة عشانه راح، مكانش ليا غير سيف وبنتي".
اعترفت رجاء حسين بوفاتها مع راغدة شلهوب، في جملة من أكثر الجمل المؤثرة التي سمعتها عموماً حين سألتها المذيعة: "بتتخاني في كل وقت وصبرتي كأم، لكن كست إزاي تعاملتي مع أنوثتك" هنا بكت رجاء بحرقة، وتماسكت وهي تقول "المرأة اللي جوايا ماتت، إنسي الست اللي جوايا، القسوة تعلم البكاء، تخليكي تفكري في اللي حواليكي، مش نفسك، رغم كل شيء فضلت ست محترمة، ولحد ما أقابل وجهه الكريم مش هاعمل الغلط، أيوه على حساب صحتي، ونفسيتي، وعلى حساب كل حاجة، لكن أنا مش أنانية، وأحب أسعد اللي حوليا، حتى لو كانت النتيجة إني أنسى الأنثى اللي جوايا، ماتت أكيد".
الموتة الثانية لرجاء حسين
ربما كان آخر ما خطر للسيدة التي احتملت "المستحيل" لأجل "أسرة" أرادت لها أن تبقى متماسكة قوية، أن تفقد "درة العقد" الابن البكري، وحصيلة عمرها، ذلك الذي استثمرت فيه كل ما تملك، عقيد أركان حرب بالدفاع الجوي في القوات المسلحة المصرية، المهندس كريم سيف عبد الرحمن، الابن البالغ من العمر 42 عام، توفي فجأة نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية، تاركاً ثلاثة أبناء، كانت أصغرهم "ليلى"، التي تبلغ من العمر وقت وفاته أربعة أشهر فقط.
حين أبلغوها خبر الوفاة ظلت تضحك: "أصل مش ممكن، في حاجات كدا صعب العقل يستوعبها، شاب يفرح راح فجأة في غمضة عين، كان صديقي وحبيبي، بحكيله اللي مقدرش أقوله لحد، كان بيصبرني على أبوه وعلى الدنيا، كان العقل في حياتي".
كانت كلما استضافوها في برنامج يقومون بعرض صورته، في تلك اللحظة كانت تضع يدها على قلبها، في كل مرة، وتقول: "دقات قلبي زادت" رحل كريم عن العالم، لكنه لم يرحل عن أمه: "بحس بيه على كتفي اليمين، بسمع صوت المفتاح في الباب وهو داخل عليا، بقوم ألاقيه قاعد على الفوتية قدام السرير، عايش معايا وساعات أسمعه وهو بيقولي يا جيجي".
كانت كلما نطقت اسم "كريم" يختنق صوتها بالبكاء، فتبعث له قبلات في الهوا، قبل أن تؤكد أنها إرادة الله، وأنها قد اشتاقت إليه كثيراً، وتتمنى لو تراه قريباً، هكذا كانت تتمنى الموت في كل لحظة، فقط لتقترب من حبيبها "كريم"، ذلك الذي فارقها فماتت على قيد الحياة، وظلت بانتظار لقائه حتى فعلت أخيراً.
هكذا قتلوا رجاء حسين للمرة الثالثة
من بعد العام 2016 تجردت رجاء حسين من كل شيء، صارت بلا عائلة، ولا زوج، ولا عمل، راح كل شيء، وبقيت المرأة الثمانينية تفكر فيما يمكن أن تقوم به حقاً كي تواصل حياتها، لكنها فوجئت بمعاملة تشبه "خيل الحكومة"، حيث لا أدوار لها ولِمن هم في مثل عمرها.
السيدة "الجريئة" خرجت غير مرة لتؤكد أنه لا يتم منحها أدواراً، كانت المرة الأخيرة التي تحدثت فيها بهذا الشأن خلال لقائها مع راغدة شلهوب، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، حيث أكدت: "أنا قاعدة في البيت مبشتغلش، إحنا قادرين رغم السن الكبير نشتغل، لكن أنا وزمايلي ممثلين ومخرجين في البيوت، فين إنعام محمد علي، محمد فاضل، جمال عبد الحميد، سميرة فاضل، الفنانين الكبار في البيوت، والدراما عندنا وحشة جداً، دراما متشبهناش".
كانت تلك هي الموتة الثالثة في حياة السيدة التي أفنت عمرها في العمل "باحترام"، دون عري أو مشاهد خارجة، لتأتي مكافأة نهاية خدمتها بهذه الطريقة، حيث بقيت في منزلها تتأمل الحصيلة، وتشعر رغم كل شيء بالرضا: "عندي جوايز كتير، تعالي بيتي واتفرجي على مكتبي".
كلمة السر في حياة رجاء حسين
يمكن اعتبار كلمة السر في حياة تلك المرأة المميزة والممثلة القديرة "الرضا"، قبلت أقدارها كاملة، وتصالحت مع كل التفاصيل، حتى أكثرها قسوة، هكذا ظلت علاقتها طيبة مع طليقها الذي أوصته بسرعة دفنها في حال توفيت، واشتهرت بعلاقتها الطيبة جداً مع الزوجة الثانية لطليقها، والتي كانت تناديها بـ"ماما"، حيث أكدت غير مرة: "ست محترمة جداً، سيف اختار ست كويسة أوي، بحبها، قابلتني عند البيت باستني وخدتني في حضنها، قالتلي أنا بحبك أوي، فمحبتها نزلت في قلبي، محسيتش تجاهها غيرة، أمها ست لن تتخيلي لطيفة قد إيه، أنا صاحبة أمها جداً، ودينا دي حبيبتي"، هكذا تحولت محاولات بعض البرامج لعمل "شو" بين الاثنين إلى درس في التسامح وقبول الأقدار.
لم تكن تخشى الموتة الأخيرة، في الواقع كلما حدثها أحدهم عن الموت كانت تتحدث بمنتهى الثقة "لكل أجل كتاب، يا عم اللي بييجي دوره يلا محدش يعلم هيقابل وجه كريم أمتى"، هكذا راحت تؤكد قبل وفاتها بوقت قصير "وصلوني"، و"لما أموت اترحموا عليا"، في الواقع ختمت رجاء امتحانها بجملة هي الأبرز والأعظم، حين قالت: "أنا سعيدة وجوايا إيمان ورضا رهيب.. راضية رضا بشكل غير طبيعي"، ربما كانت تلك هي جائزتها الحقيقية في الحياة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.