من اتفاقية “سيزموا” إلى الوجود الروسي والعمليات السرية.. هل حطم نظام “3 يوليو” السيادة المصرية؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/08/08 الساعة 08:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/08 الساعة 08:15 بتوقيت غرينتش
قوات من الجيش المصري/ رويترز

قبل أن يتولى الحكم رسمياً، وعد السيسي المصريين، من ضمن ما وعدهم، بأن تكون حقبة ما بعد ولايته مختلفة تماماً عما قبلها في باب السيادة الوطنية، حيث قال نصاً، في خطاب الترشح بالبدلة العسكرية، إنّ حالة السيولة والتدخلات الخارجية، الإقليمية والدولية، في شؤون مصر، باتت غير مقبولة.

ومن المفترض بديهياً أن أحد مقومات شرعية الحاكم العسكريِّ، أي حاكم عسكري، إلى جانب دعم الاستقرار الوطني، هو أن يكون استقراراً مدعوماً بـ"السيادة"، والتي تشمل تعزيز سيطرة الدولة الوطنية على المنافذ الحدودية والمجالات الجوية والبحرية والأراضي، وإلا فماذا ستكون قيمة الحاكم العسكريِّ؟ 

لا نتحدث هنا إذاً عن "الاختراقات" العرضيَّة والطارئة التي قد تحدث صدفاً أو عمداً من دولة بحق أخرى، فهذا يحدث يومياً بين القوى الكبرى والإقليمية، وإنما نتحدث عن "فشل" ممأسسٍ في حماية السيادة الوطنية، بالمفهوم الحديث، وهو ما يطرح السؤال عما يقامر به السيسي المصريين؟ فإذا لم يكن هناك سيادة، فهل يتبقى إلا الاستقرار الهش؟ هل ذلك كافٍ لتدعيم "شرعية" أي حكم؟ 

باتت مصر الكبيرة تاريخاً وواقعاً، "ملطشةً" للجيران في كل الاتجاهات الاستراتيجية، برضا النظام الحاكم تارة وباضطرارٍ منه تارة، ومجدداً، فإننا لا نتحدث هنا عن الأمن القومي بمفهومه "الاقتصادي" مثلاً، والذي صار مستهدفاً هو الآخر بفعل الطموحات الإقليمية للجيران الخليجيين، وإنما نتحدث عن السيادة بمفهومها المباشر، ألف باء سيادة وطنية، تحديد الحليف والعدوِّ والمحايد، وإدارة العمليات العسكرية "الضرورية" داخل الحدود بقوات مسلحة نظامية تنتمي إلى المكان وحماية المقدرات الوطنية وغير ذلك من أشكال السيادة البحتة ووظائف الجيوش الأساسية.

من قاتل في سيناء؟! 

السردية التي روجها النظام المصري الحالي عن الحرب الدائرة في سيناء منذ أعوام ضد الجماعات المتمردة ذات الطبيعة الإسلامية والقبلية، أنه يخوض، وحده، حرباً كبيرة، وممتدّة، نيابة عن العالم. هكذا قال السيسي نصاً للداخل والخارج، في مناسبات كثيرة، عن معارك سيناء بين الجيش والمتمردين. 

لا مشكلة جذرية في أن يكون هناك استعانة بالدول الصديقة في المعارك الوعرة، سواء كان دعماً مالياً أو لوجيستياً، ولكن المهم من هي الدولة الداعمة تلك؟ وإلى أي مدى ستشارك في العمليات على الأرض؟ وما تأثير ذلك على العقيدة القتالية للمؤسسة الوطنية؟ وكيف تتعاطى الدوائر الضرورية في شبكات الرأي العام مثل لجان الأمن القومي في المجالس التشريعية، من زاوية الشفافية وإتاحة المعلومات، مع تلك العمليات؟ 

في فبراير/شباط 2018، كتب مراسل نيويورك تايمز المطلع على الحالة المصرية جيداً، ديفيد كيركباترك، مادة صحفية توثق توسع التعاون العسكري الميداني بين الجيشين المصري والإسرائيلي في معارك سيناء على امتداد عامين سابقين قبل نشر المادة، وهي المادة التي صارت مرجعاً في بابها بسبب اعتمادها على مصادر سياسية وأمنية، من الولايات المتحدة وإسرائيل.

ما كان معروفاً قبل نشر تلك المادة، أنّ هناك وقاحة إسرائيلية في استباحة الأجواء المصرية للقيام بأعمال رصد واسعة، وقصف محدود، على سيناء، في نهايات حكم مبارك، استغلالاً لضعف النظام الحاكم، وتساهله مع الاحتلال، وتواجده غير الكافي على الحدود، مما أدى إلى فوضى أمنية في تلك المنطقة، ولكن ما زاد في حكم السيسي، أنّ تلك العمليات صارت "طبيعية"، بعضها منسق بموافقة الجانبين، وبعضها روتيني يقوم به سلاح الجو الإسرائيلي بالمسيرات في سماء سيناء، كما لو كانت المجال الجوي المحكوم من قوى غير نظامية في شمال الاحتلال، جنوب لبنان. 

الأنكى، أن بعض تلك الأنشطة الجوية الإسرائيلية في سيناء كانت حاسمة في "إنقاذ" عناصر الجيش المصري ميدانياً على الأرض في معاركه ضد تنظيم الدولة، كما حدث في معارك 2015 حينما حاول التنظيم التوسع نوعياً كما حدث في سوريا والعراق، وذلك عبر احتلال رفح والشيخ زويد، ولكن تدخل الطيران الإسرائيلي كان حاسماً في منع ذلك الهدف.

سيزموا وزارة الداخلية المصرية سيناء مصر
عناصر من الشرطة المصرية في سيناء/ getty images

لا تؤثر استباحة المجال الجوي السينائيّ -على المدى الطويل- من قبل إسرائيل في سلامة ومستقبل الأنشطة الجوية المصرية في تلك المنطقة وحسب، إذ يقتضي العمل المشترك نوعاً من التنسيق اللوجيستي الميداني على مستوى الاتصالات البينية لتجنب أيّ كوارث طارئة بين الجانبين، وهو ما يعني انكشافاً كبيراً غير مبرر في البنية التقنية للجيش المصري أمام الإسرائيليين، وإنما كان يساعد هذا التعاون، حتى وقت قريب، في تقوية السردية المقابلة لخصوم الجيش المصري على الأرض والذين كانوا يقولون إنهم يحاربون جيشاً يحمي ظهر الاحتلال.

حسب المصادر، فإنه كان هناك محاولة إسرائيلية إلى حدٍّ ما، لتجنب الانكشاف التام أمام أبناء المناطق الحدودية وعناصر تنظيم الدولة في سيناء، بحيث يصعب لمن يتحرك على الأرض تحديد هوية الطائرات في السماء، ولكن هناك شواهد قاطعة، بعيداً حتى عن تصريحات مسؤولي الجيش الإسرائيلي للصحافة المحلية بخصوص تلك العمليات، تشي بهذا النشاط المكثف، بداية من حركة "المسيرات" الدائمة فوق المناطق الحدودية في وقت مبكر بعد 2013 في ظل عجز سلاح الجو المصري عن تدبير مسيرات متطورة للاستطلاع الحدودي حينئذ، إضافة إلى أنّ بعض القذائف من نوع "جو – أرض" كانت يُعثر عليها ممهورةً باللغة العبرية، ووفقاً للمرصد السينائيّ في المعهد المصري للدراسات فقد شملت أنشطة سلاح الجو الإسرائيلي، استطلاعاً وقصفاً، لمعظم قرى رفح والشيخ زويد، حتى عام 2019، وهي تلك الفترة التي قال الجيش المصري إنه يقوم خلالها بالعملية الشاملة في سيناء، بعد عمليات حق الشهيد ونسر.

ما الجديد؟ 

ربما كان كثير مما سبق معلوماً لبعض متابعي الشأن المصري جملة أو تفصيلاً، ولكنَّ الجديد الذي عرفناه مؤخراً عن معارك سيناء، بالتزامن مع ذكرى 3 يوليو/تموز 2022، للمفارقة، فإنّ الجيش المصري، أو وحدات معينة منه للدقة، كانت تعمل "رديفاً" لوحدات النخبة الأمريكية خلال الفترة من 2017 إلى 2020 ضمن برنامج سري للغاية يعرف باسم "127e". 

بدأت الشكوك لدى الرأي العام الأمريكي تدور حول ذلك البرنامج منذ عام 2017، حينما بثت وسائل الإعلام خبراً مقتضباً عن الفتك بـ 4 جنود أمريكيين في النيجر من قبل عناصر تنظيم الدولة، في منطقة وسياق عملياتيٍّ غير معلوم لدى وسائل الإعلام العسكرية والمسؤولين ذوي الشأن في الكونغرس ومجلس الشيوخ.

وعليه، ظلت منصة "إنتر سبت" تلاحق ذلك الملف، معتمدة على الهامش المعتبر الذي تتيحه قوانين حرية تداول المعلومات في الولايات المتحدة حتى توصلت إلى أبرز خيوط البرنامج، فهو برنامجٌ سري، إلى حد كبير، معروف لدى دوائر قليلة في الأوساط العسكرية الأمريكية، ويعتمد على "النوع" أكبر من "الكم" في تنفيذ الأهداف الأمريكية.

المشكلة الأساسية في ذلك البرنامج أن عناصر من نخبة الجيش الأمريكي تقوم خلاله بما يشبه "تجنيد" عناصر محددة بارزة في الجيوش الوطنية النظامية، في مناطق معينة من العالم، يصعب الوصول إليها بالوحدات التقليدية، من أجل تنفيذ مهمات نوعية، ضمن بنك أهداف أمريكي في الأساس، أي أن الطرفين يعملان على الأرض ضمن البرنامج لخدمة أهداف أمريكية قبل أيِّ شيء.

لدينا معلومات دقيقة عن أسماء الوحدات التي عملت رديفاً لقوات النخبة الأمريكية في بعض البلدان ضمن ذلك البرنامج السري، مثل الكاميرون ولبنان، ولكننا لا نعلم إلى الآن أي الوحدات في الجيش المصري كانت تنفذ الأهداف الأمريكية في سيناء، ولكنَّ المحسوم أن هذا البرنامج لم يشمل من الدول العربية إلا دولاً منزوعة السيادة تقريباً مثل اليمن وسوريا والعراق.. ألا يذكرك ذلك بشيء؟

سيزموا.. المزيد من التسليم للأمريكيين

إحدى الاتفاقات التي كان يرفض نظام مبارك الانخراط مع الجانب الأمريكي فيها هي اتفاقية مشبوهة تعرف بالإنجليزية باسم "CISMOA"، وهي اتفاقية تنتمي إلى مجال "اللوجيستيات العسكرية"، وكان سبب رفض مبارك ونخبته العسكرية لها حينئذ هو الاعتقاد بأنّ مستوى التعاون العسكري مع الولايات المتحدة كاف جداً، فلا داعي، في ظل الاعتماد على المعونة الأمريكية ومناورات النجم الساطع وتسهيلات العبور من قناة السويس، لمزيد من التنازلات. 

باختصار، كانت تلك الاتفاقية خطاً أحمر لدى النخبة العسكرية في فترة مبارك، ضمن عدة خطوط حمراء أخرى مثل تحويل قاعدة برنيس إلى ميناء لوجيستيٍّ عسكري للأمريكيين على البحر الأحمر جنوب البلاد، أو وضع ما يسمى بالحرب على الإرهاب ومكافحة التمرد على رأس أولويات الجيش المصري.

تعزز تلك الاتفاقية من التعاون "العميق" بين المؤسسة العسكرية الأمريكية وأي طرف آخر يوافق على بنودها، ولكنها، في نفس الوقت، تساهم في "ربط" ذلك الطرف الآخر، بنفس مستوى العمق، بالمنظومة الأمريكية، إلى حدِّ اعتبار أنّ كل طرف يشارك الأمريكيين فيها بات جزءاً عملياً من منظومة الاتصالات الأمريكية، على نحو يفيد الأخيرة حصراً تقريباً.

في مارس/آذار 2018 علمنا صدفة من السفارة المصرية في واشنطن أنّ مصر صارت جزءاً من ذلك البروتوكول الأمني، الذي كانت ترفضه سابقاً، وما زالت دول أخرى تسير في الفلك الأمريكي، مثل الهند، ترفضه، وذلك لمدة 15 عاماً؛ دون اطلاع أو موافقة البرلمان المصري! 

بموجب الاتفاقية تستفيد الدولة المشاركة للولايات المتحدة بمنظومات اتصالات عسكرية حديثة، ولكنها لا يحق لها طبعاً أن تنقلها إلى أي أطراف ثالثة، ولا يحق لها المشاركة في تركيبها على أراضيها، كما أنها تؤدي إلى ربط شبه كامل بين وحدات معينة في الأراضي المصرية والدولة الأم، الولايات المتحدة، وهو ما كان يرفضه نظامُ مبارك، من باب: "يا نحلة لا تقرصيني، ولا عاوز عسلك"، كما يقول المثل المصري.

تيران وصنافير.. ليست الأرض فقط! 

لم يعد الأمر متعلقاً بالتخلي عن جزيرتين استراتيجيتين طالما كانتا موضوعاً للصراع في منطقة البحر الأحمر، بين الرباعي مصر وإسرائيل والسعودية والأردن، والكلام هنا عن تيران وصنافير، الجزيرتين الصغيرتين في الحجم، العظيمتين في الأهمية، والذي وافق السيسي على تسليمهما للسعودية، بثمن بخس، أبريل/نيسان 2016.  

وإنما تشمل تلك الصفقة مزيداً من التفاصيل التي تفوح منها رائحة التفريط الرخيص في السيادة، بما يخل أصلاً بمفهوم الدولة الوطنية، الذي تتبناه نظرياً دولة الـ3 من يوليو/تموز 2013 في مصر، فالصفقة -في شكلها الكامل والنهائي- هي معادلة رباعية بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، على أن تكون مصر هي الخاسر الأكبر فيها! 

تيران صنافير السعودية إسرائيل مصر
جزيرة تيران/Getty Images

إذ تعضد الصفقة من التعاون الإقليمي بين الدول الثلاث المجاورة في مشروع "نيوم" العملاق الذي يتبناه محمد بن سلمان لإعادة تبييض وجه الرياض بالقرب من إسرائيل وشرم الشيخ، وضمن تلك الترتيبات أيضاً، التي وافقت خلالها إسرائيل على عملية النقل من مصر إلى السعودية، فقد فازت إسرائيل بمزيد من التطبيع "الجوي" مع السعودية، تحت رعاية أمريكية، ظهرت في زيارة بايدن الأخيرة للمنطقة.

أي أنّ السعودية أخذت الجزيرتين، وإسرائيل ضمنت أن تكون الجزيرتان منزوعتي السلاح، وأن الرياض باتت جزءاً ضمنياً من اتفاق السلام المبرم 1979، فيما ترى إدارة بايدن أنها -بتلك الخطوة- تكرس لمزيد من الاستقرار في المنطقة في وجه إيران، فيما لم تحصل مصر على أي شيء، باستثناء بعض الأرز السعودي الذي ضاع في غمرة الديون والمشاريع الفارغة كغيره من الأموال.

إضافة إلى ذلك، فإنّ مصر لن تستفيد حتى من التخفف من الوجود الأجنبي على أراضيها والمعروف باسم "القوات متعددة الجنسيات"، فبحلول نهاية 2022، ستنسحب القوات الدولية الموجودة في تيران كما أوضح بايدن، ولكنها لن تعود إلى بلادها، وإنما ستأخذ مقراً جديداً في مصر، بالقرب من تيران، ولكن داخل الأراضي المصرية.. أي أنّ الجميع فائز في تلك المعادلة؛ إلا مصر!

الوجود الروسي في مصر

بالقرب من القوات متعددة الجنسيات في شرم الشيخ، ومنذ أغسطس/آب 2021، بات هناك تواجد "أمني" روسي دائم في أحد المنافذ الجوية الاستراتيجية من أقصى شمال البحر الأحمر بمطار شرم الشيخ، إلى مطار الغردقة.

العدد ليس كبيراً، ولكنَّ المشكلة تكمن في استمراء استباحة السيادة الوطنية عبر أجانب أمنيين يرابطون في نقطة استراتيجية، مثل المنافذ الجوية، حيث يعدُّ ذلك الوجود الروسي الدائم واحداً من أثمان صفقة عودة السياح الروس إلى مدن البحر الأحمر، نهاية العام الماضي.

وبلغةٍ أخرى، هي جزء من التعويض "السياسي" الذي دفعه النظام المصري لحليفه الروسي بعد الاختراق الأمنيٍّ الفظيع الذي أدى إلى مقتل أكثر من 200 روسي في رحلة جوية من سيناء إلى روسيا، على يد عناصر تابعة لتنظيم الدولة، أكتوبر/تشرين الأول 2015. 

وبهذه الصيغة، تكون مصر تكبدت في تلك المنطقة الحدودية، خلال حكم السيسي، جزيرتين مع تواجد عسكري للقوات المتعددة الجنسيات وتواجد أمني دائم للعناصر الروسية التي ستقوم بكل ما يلزم من إجراءات لتفادي تكرار الحادثة المروعة، ووفقاً لماكسيم سوكولوف وزير النقل الروسي في تصريح سابق، فإنّ للعناصر الروسية الحق في تفتيش "كامل" الموانئ الجوية المصرية لضمان أمن السياح الروس الذين مُنعوا من زيارة البلاد لمدة 6 أعوام، مما أثر سلباً بشدة على عوائد السياحة المصرية.

منابع النيل 

هناك العديد من الوقائع شديدة الغرابة في ملف إدارة النظام المصري لأزمة سد النهضة، والتي تشي بأنّ هناك ما يشبه "التواطؤ" وعدم الجدية في حماية الحقوق التاريخية للبلاد، والتي هي متواضعة وغير كافية أصلاً، في مياة النيل الأزرق.

أبرز الوقائع الغريبة تلك، كان نجاح بعض فروع البيروقراطية المصرية في استصدار قرار دولي بتعليق أعمال البناء في سد النهضة، اتساقاً مع المبدأ الرئيس الذي ينص على ضرورة التوصل إلى اتفاق بين الدول المشتركة في نهر واحد، قبل الشروع في أي إجراءات من شأنها التأثير على حالة النهر 2013، ولكنَّ أطرافاً أخرى داخل الإدارة المصرية أوعزت إلى الأطراف الأولى بالعدول عن تلك الخطوة الخاصة بالضغط الدولي من أجل تعليق بناء السد، وصولاً إلى فشل النظام في الاستفادة من الاضطرابات السياسية الهائلة التي ضربت أرض الحبشة بما يؤثر إيجاباً على موقف مصر في ملف السد، بنفس الطريقة التي استغلت فيها أديس أبابا التوترات "التي عرت مصر كتفها وكشفت ظهرها" خلالها يناير/كانون الثاني 2011.. لماذا نجحوا ولماذا لم ننجح؟ 

غير أنّ من أكثر المحطات التاريخية المثيرة للجدل والتساؤلات عن أولويات النظام المصري تجاه هذا الملف، هل هي أولويات وطنية أم سياسية؟ هو ما جرى في قمة الخرطوم مارس/آذار 2015، بالتوقيع على ما عرف باتفاق المبادئ بحضور القادة السياسيين للدول الثلاث. 

وفقاً لخبراء قانونيين انسحبوا من الدعم الفني في ملف مفاوضات سدّ النهضة عقب هذا الاتفاق، فإنّ إعلان المبادئ -المكون من 10 بنود- لم يتضمن أيَّ جديد في صالح دولتي المصب، وإنما، على العكس من ذلك، كانت الإضافات "الحقيقية" التي تضمنها الإعلان كلها تصب في صالح السردية الإثيوبية.

 فباستثناء المعاني النبيلة والعبارات الإنشائية الواردة في الإعلان، لن يتبقى من مضامينه إلا موافقة دولتي المصب قانونياً بشكل رسمي على قرار إثيوبيا بناء السد دون الحصول على موافقة مسبقة منهما، والقبول والاستعداد لما يسميه الإعلان في مادته الثالثة "الضرر غير ذي الشأن"، وحتى الثناء على إثيوبيا في اتباعها معايير الأمن والسلامة الإنشائية حسبما ورد نصاً في المادة الثامنة.

ما الجديد الذي قدمه الإعلان لدولتيِّ المصب ومصر تحديداً؟ لا شيء، غير الكلام الإنشائي! وإذا كان التوقيع عليه من السودان، التي كانت ترى في أديس أبابا حينئذ "أخت بلادي" مفهوماً، فإن ما يظل غير مفهوم هو توقيع القاهرة على تلك الورقة، التي تستخدمها إثيوبيا حالياً لإثبات صحة موقفها في الملء والتشغيل، بعد أن وصلت إلى المرحلة الثالثة في الملء، وهو ما يلخصه أحمد المفتي أحد الخبراء القانونيين المطلعين على الملف متسائلا:"إذا كان الاتفاق أقر لأثيوبيا بالحق في البناء، والملكية، وبيع الكهرباء لدول المصب (السودان) ولم يذكر ضرورة الحفاظ على الحصص التاريخية لدولتيِّ المصب في مياة النيل.. فمن المستفيد؟ ولماذا؟".

العمليَّة سيرلي: من قتل أبناء المصريين؟ 

لم تقتصر الأنشطة العملياتيَّة الأجنبية في مصر على الولايات المتحدة وإسرائيل في نطاق شمال سيناء على الحدود الشرقية للبلاد، وإنما شملت نشاطاً جوياً مكثفاً من فرنسا على الحدود الغربية للبلاد مع ليبيا في وقت متزامن مع العمليات العسكرية شرقاً، أي أنه في الفترة من 2016 إلى 2018 كان هناك نشاط خارجي مكثف ضد مصريين، في معظم الوقت، على الحدين الإستراتيجيين الشرقي والغربي. 

تعجُّ الملفات التي كشفتها استقصائية "ديس كلوز" الفرنسية عن العملية "سيرلي" بالمفارقات: 

1- إذا كانت تلك العملية، التي أمدت خلالها باريسُ القاهرة بخبراء عسكريين وأدوات اتصال حديثة لمسح الحدود الغربية، بطلب ومبادرة مصرية، ولم تكن بطلب فرنسي.

2- أن الفريق الأمني الفرنسي المؤلف من 15 خبيراً عسكرياً عرض على الجانب المصري المشاركة في معارك سيناء شرقاً، والتي كانت أكثر سخونة، إلا أنّ الجانب المصري قد رفض هذا العرض، مفضلاً أن يقتصر الدور الفرنسي على المنطقة الغربية.

3- أن معظم القتلى الذين سقطوا إثر تلك العملية، وهم بالمئات في أقصى تقدير، لم يكونوا، في معظم الوقت، من المسلحين العابرين للحدود، وإنما كانوا من المهربين والعمال المصريين في المناطق الحدودية، وبعضهم كان يخاطر بحياته في تلك المناطق الوعرة لأسباب اقتصادية. 

وفي الأخير، فإنّ كل تلك الوقائع المذكورة، إن دلت على شيء، فإنها تدلُّ على أنّ الأمور ليست كما تبدو من الخارج، وأنّ ما يسمح بتداوله في الرأي العام المصري عن الملفات الحقيقية ليست إلا قشرة تخفي تحتها كثيراً من التفاصيل الخطيرة، التي تؤدي، في مناطق أخرى من العالم، إلى الإطاحة بحكومات وقادة أجهزة أمنية، ليست فقط بسبب آثارها السلبية على الأمن القومي والسيادة الوطنية، وإنما لأنّ هناك استمراء مطّرداً لتغييب الرأي العام عن الصورة، واحتكار الوطنية، وإشاعة روح التشكيك والخيانة في كل من يتساءل عن الحقيقة. الحقيقة فقط، أو حتى الحد الأدنى منها!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد