معجزة أولمبياد بكين التي ابتلعها البحر.. هكذا أنهت الميليشيات حياة البطلة الصومالية سامية يوسف عمر

عدد القراءات
644
عربي بوست
تم النشر: 2022/08/08 الساعة 09:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/08 الساعة 09:14 بتوقيت غرينتش
سامية يوسف عمر - وسائل التواصل الاجتماعي

لا يهرب أي شخص منا من الموت، ولا أحد ينجو من قدرٍ محتوم، ولكن الأسباب تتعدد برغم النتيجة الحتمية. وحينما ننبذ الحرب ونُعدد فظاعاتها ونحن نعلم أن القتل هو قانونها الأول، فإننا نفعل ذلك تجنباً لقتل الملايين الذين يحملون في داخلهم ما يمكنه حقاً أن يُغير هذا العالم البشع.

لا تقولي إنك خائفة

"لا تقولي إنك خائفة، أبداً، يا صغيرتي سامية، أبداً. وإلا فإن ما تخافينه سيتعاظم حتى يهزمك".

هذه هي كلمات "يوسف عمر"، رجل صومالي شاء القدر أن يكون والد واحدة من أعظم الفتيات الملهمات في تاريخ دولة الصومال الإفريقية، ولا شك في أن القصة الحزينة لفتاته سامية التي بزغت كمعجزة في أولمبياد بكين عام 2008 وانتهت كمأساة قبل شهور قليلة من افتتاح دورة الألعاب الأولمبية لندن 2012، كانت تستحق أن تكون في مصاف القصص الملهمة على مستوى العالم، ولكنه التاريخ يفرز ويرتب كيفما يشاء بحسب ترتيب الدول في سلم القوى العظمى. ولأن القدر قد يكون غير عادل في بعض الأحيان بحسب رؤيتنا المحدودة فإن القصة الحقيقية لم تمُت، ولم تختفِ كما اختفت صاحبتها في عرض البحر في أبريل/نيسان عام 2012.

من اللحظات الأولى في نص الكاتب الإيطالي "جوزِبَّه كاتوتسيلا" المنشور في لغته العربية عن دار "منشورات المتوسط  – إيطاليا" ومن ترجمة "معاوية عبد المجيد" نعرف أننا على أعتاب نص حقيقي استعان الكاتب لكتابته بأغلب أفراد القصة الحقيقبين باستثناء صاحبته التي غيبّها الموت عنّا منذ ما يقرب من عشرة أعوام. يُقدم كاتوتسيلا حضوراً بديلاً للعداءة الرياضية الصومالية "سامية يوسف عمر" لتحكي بنفسها الحكاية التي عاشتها بشكل حقيقي، والتي نقلتها على مسامعه "هودان يوسف عمر" أخت الراحلة التي عاشت معها التفاصيل لحظة بلحظة حتى قبل رحيلها بقليل.

سامية يوسف عمر
سامية يوسف عمر

ولدت سامية في "مقديشو" في 25 مارس/آذار عام 1991 وستُعرّف الظروف التي نشأت فيها هي وأخواتها- بحسب رواية كاتوتسيلا- على أن الحرب كانت شقيقتهن الكبرى التي ولدت قبلهن بكثير حتى إن لا أحد يتذكر يوم ميلادها تحديداً أو سببه.

خلال السنوات ستزداد الأمور سوءاً، وستسيطر الميليشيات على دولة الصومال التي لم تكن تعافت بأي شكل من الأشكال بعد جلاء الاستعمار الإيطالي. ستكبر سامية لتحضر قتل والديها على يد أحد أفراد الجماعات المتطرفة وسيفقد المنزل شيئاً فشيئاً واحداً تلو الآخر من أفراده ليخوض كل شخص منهم رحلته الخاصة للنجاة. الرحلة التي ستبدأ بـ"هودان يوسف عمر" ويُكتب لها النجاح في الهرب من شبح الموت أو الخطف على يد الجماعات المسلحة لن تنجح مرة أخرى مع الفتاة التي أرادت أن تركض لتُلهم جميع النساء بالحرية. 

"الشكوى تزيدنا تعاسة في القيام بما لا نحب".

– جوزِبَّه كاتوتسيلا/لا تقولي إنك خائفة

الحقيقي والمُتخيل في النص الأدبي

يكتب "جوزِبَّه كاتوتسيلا" بلغة المحتل عن فتاة وصلت لأولمبياد بكين في عام 2008 بلا أي إمكانيات، بلا مدرب وبلا تدريب بسيط، بلا ملابس مناسبة للركض وبلا دعم. بأقدامها فقط كفتاة جسورة ذهبت هذه الفتاة وحدها وكأنها تنافس العالم كله لبلوغ هدفها، وكأنها ركضت من مقديشو إلى بكين لتوصل رسالتها التي أرادت إكمالها على أكمل وجه في الدورة القادمة قبل أن يبتلعها البحر الفاصل بين حدود إيطاليا وليبيا مع أحلامها وأهدافها النبيلة.

لا يكتب كاتوتسيلا قصة سامية ليغسل عار بلاده وتاريخها غير المشرف في احتلال البلاد الإفريقية، ولا من منظور مُتخيل كُلياً ليُحاكي قصة حقيقية ويتقاطع معها في نقطة وسط، ولكنه فعل هذا-كتابة هذه الرواية تحديداً- ليُتوج سامية يوسف عمر العداءة الصومالية بالميدالية التي كانت تستحقها. يمنحها الحق في أن تكون ملهمة من خلال لغة شفافة، يجعلها كبطلة القصة في الحقيقة وفي الرواية، تسرد ما حدث بعينها كما شاهدته وبلسانها كما لو كانت تروي القصة بعد انتهاء كل هذا ووصولها فعلاً إلى لندن لتشارك في الأولمبياد.

تصل هودان يوسف عمر أخت سامية بالقصة لأقرب لقطة كانت تشاركها فيها حينما كانت مجرد جسد مهرب من بلد لبلد عن طريق دفع الأموال لتُجار البشر المهربين، ولكن كاتوتسيلا يرفض أن يكتب النهاية الحقيقية ربما لشدة قسوتها، أو لأن الأدب الإيطالي يغلب عليه الطابع الكلاسيكي للقصة التي تنتهي نهاية سعيدة، وربما لأن قصة سامية يوسف عمر تحديداً لقسوة ما لاقته كان يجب أن تنتهي بنهاية أكثر شاعرية من أن تموت في عرض البحر وهي على بُعد مسافة قصيرة جداً من النجاة لإكمال مهمتها.

ما الذي تفعله الحروب في العالم الثالث؟

هذا أيضاً ما لن يخبرك به أحد، ستظل حروب العالم الثالث جزءاً من خبر صغير على شاشة إعلامية عالمية، ستظل حروبنا التي تطحننا بين شقي الرحى أمراً ثانوياً بالنسبة لعالم واسع يبذل فيه البعض قصارى جهدهم لتشتيت وحدة كل وطن وتمزيقه، وسنظل نحن كضحايا مهما تعددت مواهبنا أو تفردنا مجرد ذرة رمل في صحراء جرداء واسعة لا يعلم أحد من أشعل شرارة الحرب والفتنة بها.

لا يعرف أغلب الناس عن الصومال سوى أنها بلد حرب ومجاعات نشأت قبل ميلاد أكبرنا، كما لا يعرف الكثيرون عن إيطاليا سوى أنها نهاية الرحلة التي يسعى إليها كل سكان إفريقيا الذين يبدو الموت في عرض البحر بالنسبة لهم أقل الخسائر مقابل ما يلاقونه في وطنهم.

في إفريقيا حيث نعيش نحن كدولة في دول العالم الثالث لا يتطلع أكثر المتفائلين إلا لاستنشاق هواء عادي بلا رائحة بارود، والعيش بلا تهديد السلاح، وبلا تهديد باسم الجماعات المتفرقة أو التمييز بحسب الديانة أو العرق.

تبدو الهوة متسعة سعة المسافة بين شطيّ بحر، عالم أول ينظر للعالم الثالث الذي ما زال محكوماً بالقوة العسكرية الغاشمة نظرة شفقة ممزوجة باحتقار، وكأن كل هذه البلاد التي تم امتصاص خيرها وثروتها من كل دول العالم الأول مكتوب عليها أن يظل مواطنوها ضحايا.

الحكاية التي كان يجب أن تكون حقيقية وملموسة بدلاً من تحولها لأسطورة هي حكاية سامية يوسف عمر التي كانت من المفترض أن تظل تركض لتحرر كل العالم من العبودية وليس فقط نساء شعبها، كان من الممكن أن تستمر الفتاة في الركض لتلهم الجميع ليتحرروا من الظلم والفقر والعيش تحت تهديد السلاح في أوطان لا صوت يعلو فيها فوق صوت البنادق. لم يكتب القدر النهاية الأكثر عدلاً لحياة سامية، ولكنه دفع كاتباً إيطالياً لكتابتها وإيصالها لأكبر عدد من الناس حتى يدركوا أن الرحلة بالتغيير ما إن تبدأ حتى يبدأ كل شيء حولنا بالتغيير فعلاً.

البناء السردي في نص حقيقي

لم يحتَج جوزِبَّه كاتوتسيلا لأكثر من راوٍ، ولا لأكثر من حكاية ليُطرز بها نصه الهادئ المكتوب بتقريرية صحفية في أغلب فصوله؛ اعتماداً على رواية الشقيقة الكبرى لسامية التي شكرها في نهاية الرواية؛ لأنها فتحت قلبها ليكتب هو قصة فتاة ركضت روحها نحو السماء؛ لأن الهدف كان أكبر من السبيل. في الرواية تروي سامية قصة هروبها من إثيوبيا بعد فشل تسلم كل ما يخص تاريخها في دولتها المشغولة بالحرب وإسقاط الضحايا. تهرب من إثيوبيا بعد الفشل في التدرب بشكل قانوني للالتحاق بأولمبياد لندن 2012.

ومن إثيوبيا إلى السودان، ومن ثم إلى ليبيا، تحكي سامية التي كانت تتواصل مع أختها عبر القمر الصناعي لطلب المزيد من الأموال للمهربين ما عانت منه في الرحلة، الرحلة التي كانت تعرفها هودان لأنها خاضتها من قبل. ومن السودان إلى صحراء ليبيا ومن ثم إلى عرض البحر، لم يتمكن الجسد الهزيل الذي زاد هزاله بسبب سوء التغذية والتكدس في شاحنات تهريب البشر كأجولة القمح من مقاومة الموج، ليسقط الجسد الذي أقسم كل من شاهدوه في أولمبياد بكين 2008 أنه جسد لموهبة حقيقية تحتاج للاهتمام فقط لتصبح أسرع امرأة في العالم في عرض البحر ليستحوذ على مساحات صغيرة في نشرات الأخبار ووكالات الأنباء الدولية ومن ثم تختفي القصة للأبد. لذا فإن كاتوتسيلا لم يكن يحتاج لأكثر من ورقة وقلم وأذن تلتقط كل الحكاية ليُعيد لهذه الفتاة قدرتها على الحديث لتحكي عن الألم الذي شهدته، ولتسرد بنفسها حكاية فريدة من الألم الإنساني الذي يؤلمنا كلنا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد