الدين والاضطرابات النفسية.. هل التدين يحمي من الاكتئاب؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/08/08 الساعة 11:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/08 الساعة 11:45 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/ عربي بوست

في مقال سابق مطول، حاولت أن أعطي لمحة مبسطة عن أهم تيارات علم النفس الكبرى، ووجهة نظر روّادها لمسألة الدين، رأينا في المجمل أن تلك التيارات، معظمها كان منكراً لقضية الدين، وذلك بسبب النزعة الفيزيائية التي كانت سائدة إبان نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وهذه النزعة لم تصب فقط علم النفس، بل شملت باقي الفروع العلمية الأخرى. ولعل من المهم هنا الإشارة إلى قضية الاستشراق، ومدى تأثر رواده ومناهجهم بالنزعة نفسها أيضاً، وهذا انعكس على تأويلاتهم ونظرتهم للدين، والذي عنهم أخذ معظم مثقفينا في العالم العربي. 

لكن هذا ليس موضوع حديثنا في هذا المقال، كنت قد أشرت في المقال السابق، إلى نظرة يونج الإيجابية لمسألة التدين، وكيف رأى أنه من الممكن أن يكون التدين أحد العلاجات الناجعة للاضطرابات النفسية، هذا الرأي سيُعتمد بعد ذلك في علم النفس، وخاصة في البلدان الأنجلوسكسونية. لم تكن نظرة كبار علماء النفس وحدها هي العائق وراء إهمال التدين، كأحد عوامل العلاج، وإنما كانت هناك أمور أخرى، خاصة بعض التهم التي ألصقت بالدين، ولا شك أن الدين الإسلامي كان هو صاحب القسط الأوفر منها، غير أنه مع ظهور تيار علم النفس المعرفي، وظهور ما يسمى بالعلاج المعرفي، والذي يرى أن طريقة تفكير الناس هي السبب وراء الاضطرابات النفسية، ستتغير نظرة علماء النفس إلى قضية الدين.

المعرفية والدين

إلى حدود الخمسينيات من القرن المنصرم، كان هناك فقط تياران مشهوران في علم النفس، هما السلوكية، والتحليل النفسي، لكن مع بداية الستينييات سيبدأ في الظهور مصطلح علم النفس المعرفي، وهو مفهوم جديد، كان تركيزه على دراسات العمليات الذهنية، وبالتالي فهو تجاوز السلوكية، بل وقدّم بعض روادها انتقادات حادة لتيار السلوكية، ورأوها أنها نظرت إلى الإنسان وكأنه آلة، فهي ركزت فقط على السلوك والاستجابة، ولم تحاول الكشف عما يجول داخل العلبة السوداء؛ الذهن، لكن بفضل الثورة المعرفية، سيستفيد منها علماء النفس، وتتجه أنظارهم إلى معرفة ما يجري داخل ذهن الإنسان. 

في هذا الصدد ظهرت عدة نظريات جديدة، كان أشهرها النظرية البنيوية لجون بياجي، التي قسمت مراحل نمو الطفل إلى 4 مراحل، المرحلة الحسية الحركية، ثم المرحلة ما قبل الإجرائية، ثم مرحلة العمليات، وأخيراً المرحلة الرياضية المنطقية. التيار المعرفي بطبيعة الحال كان له رواد كثر، وفيه نظريات كثيرة، لا يمكن حصرها هنا، غير أنها كلها كانت تصبو إلى معرفة ما يجري داخل ذهن الإنسان، ولذلك فهي كلها كانت تركز على العمليات الذهنية، مثل الانتباه، والتذكر والإدراك، وتستأثر الذاكرة باهتمام خاص من قبل رواد التيار المعرفي، كما أن هذا التيار حاول دراسة عمليات التعلم وكيف تتم، وكذلك قضية اكتساب اللغة، غير أن هذا التيار، هو الذي أفسح المجال أمام علاجات بديلة، بخلاف التيارين السابقين.

كان أشهر رواد العلاج المعرفي، هو المفكر الأمريكي أرون بيك، فهو لم يتناول قضية الدين بشكل مباشر، غير أن منهجه يتوافق مع من يقولون بفعالية الإيمان في العلاج، حيث إن بيك يرى أن الأفكار الخطأ هي المسؤولة عن الاضطرابات النفسية، وبالتالي فمنهجه يقوم على تعديل تلك الأفكار والنظر بإيجابية للحياة. 

إذا ما تأملنا ولو قليلاً سنجد أن الكثير من الآيات والأحاديث القرآنية هي تذهب في هذا المسعى، بل النص القرآني نفسه، نجده جاء مصححاً، لكثير من المغالطات التي يؤمن بها الكثير من الناس، وليس فقط فيما يتعلق بالغيب، بل فيما يخص حياة الناس اليومية، إذا ما أخذنا على سبيل المثال الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا". بنظر بسيط في هذا الحديث، نرى كيف أنه يجعل الإنسان يشعر بالاطمئنان، بدل القلق الذي يعيشه كل يوم مجموعة من الناس، حتى ولو كانوا يملكون مال قارون، وهذا الأمر هو ما جعل بعض العلماء يجرون الكثير من التجارب، حول تأثير الدين على حياة الناس النفسية، وبشكل خاص في أمريكا.

نتائج التجارب السيكولوجية على المتدينين

تكاثرت الدراسات والتجارب في علم النفس منذ التسعينيات على المتدينين، معظم هذه التجارب كانت عن علاقة التدين بالسلوكيات العدوانية، وكذلك سلوكيات الجانحين، وكل هذه الدراسات كانت نتائجها إيجابية، أي أنها أثبتت أن للتدين دوراً مهماً في الحد من السلوكيات العدوانية، ومن اللافت للانتباه، أن هذه الدراسات كانت تجرى في وقت كانت كل الأجهزة الإعلامية تسعى جاهدة، لتجعل من التدين والعنف متلازمين، غير أن التجارب كانت تثبت خلاف ذلك، أجريت الدراسات ليس فقط في أمريكا وإنما في كثير من البلدان، منها البرازيل، وإفريقيا، غير أن الدراسات كان معظمها يتناول الدين المسيحي، وفي غياب لدراسات تتناول مسألة الدين الإسلامي، بل بعض من هذه الدراسات تناولت بعض الطلاب الذين يدرسون في الجامعات الغربية، من بين هذه الدراسات، تلك التي قام بها أحد الباحثين في ألمانيا، وأثبت فيها أن بعض سلوكيات المتدينين المسلمين، هي سلوكيات عدوانية، غير أن هذه النتائج كان يحكمها منطق أيديولوجي في التفسير، مثل تلك الادعاءات التي كانت تذاع صباح مساء على الفضائيات، والتي تلصق التهم الجاهزة بالمتدينين المسلمين.

هنا ينبغي أن نوضح أمراً مهماً، فيما يخص سلوكيات المتدينين المسلمين في البلدان الغربية، كنت أتابع حملات النازحين والمهاجرين إلى أوروبا من البلدان العربية، وكنت كذلك أتابع بعض التعليقات، ومما استرعى انتباهي ذات يوم، تعليق لصديق على حساب فيسبوك، يحكي فيه عن أحد المواقف الغريبة، حيث إن بعض الأطفال الذين كانوا حديثي عهد بإحدى المدارس في ألمانيا، وهم كانوا قادمين من أحد البلدان العربية، كانوا يلعبون، فإذا بامرأة تأمر أبناءها بأن يبتعدوا، حيث اعتقدت أن هؤلاء الأطفال يتشاجرون، فبادر الرجل إلى التدخل وشرح الموقف لها وأن هذا أمر طبيعي، وأن هؤلاء الأطفال يلعبون فقط لا غير، فما كان من المرأة إلا أن هدأت من روعها واعتذرت. قد يبدو للقارئ أن هذه قصة تافهة، لكنها تبين أمراً في غاية الأهمية، وهو مسألة العنف، فهي في جانب كبير منها، مسألة ثقافية، فلا يمكن أن نحدد السلوكيات العدوانية انطلاقاً من مرجعية معينة، وهذا للأسف هو ما يحصل حينما نتناول الدين الإسلامي، حيث نجد أن الكثير من الشعائر الدينية التي تعد بالنسبة للمسلمين أمراً عادياً، هي سلوكيات عدوانية بالنسبة للآخرين.

التدين والحياة الطيبة

لعل أبرز الاضطرابات النفسية الأكثر شيوعاً اليوم، هما اضطرابا القلق والاكتئاب، ولا يزدادان إلا توسعاً وانتشاراً بين الناس، وفيما يخص الاكتئاب فإن جميع الإحصائيات التي أجريت من طرف الكثير من الجمعيات عن الوضع في العالم العربي، تؤكد أنه لا يزداد إلا انتشاراً وخاصة بين الفئات الشابة، ورغم دخول علم النفس منذ زمن قديم إلى العالم العربي، وبشكل خاص التحليل النفسي في مصر، إلا أننا نجد أن الكثيرين لا يزالون قلقين من التردد على المصحات النفسية، حيث إنهم يرون أن في هذا الأمر حرجاً، وفي المقابل فإنهم يرتادون العرافين، أو بعض من يمارسون الطب البديل، معظم هؤلاء يفعلون ذلك تحت الزي الديني، ويمارسون ذلك تحت مسميات مختلفة، ومن ضمنها الرقية، غير أنه ينبغي التنبيه أن الرقية الشرعية، هي أمر معمول به، غير أن لها شروطها وضوابطها، وما ينبغي تأكيده هنا، هو أن معظم هؤلاء المترددين على هؤلاء، هم في غالب أحوالهم يكونون مصابين باضطرابات نفسية، وبسبب نظرة العار في المجتمع، أو بسبب التكاليف الباهظة للعيادات النفسية، فإنهم يفضلون أولئك على العيادات النفسية، وهذا يجعلهم ضحية النصب والاستغلال.

سؤال: هل التدين فعلاً يحمي من الاكتئاب؟ 

قد يبدو سؤالاً محيراً وغريباً، الكثيرون ينكرون، وبعضهم يستدلون على أن لا علاقة للدين بالاضطرابات النفسية، بل قد يستشهد بعضهم بوضعية لشخص ما كان متديناً، لكنه أصيب باضطراب معين، بل قد لا يستطيع بعضهم أن يصبر فيلجأ إلى الانتحار، غير أن هذه الملاحظات تظل سطحية إذا ما واجهناها بالدراسات التجريبية، والتي تؤكد أن التدين قد يكون مساعداً في الحد من اضطراب الاكتئاب أو غيره، غير أن هذا لا يعني بتاتاً أن المتدينين لا يصابون بالاكتئاب، بل الاكتئاب قد يكون من مسبباته عوامل وراثية، كما أن التدين وحده ليس كافياً، غير أن المعالج أو الطبيب النفسي قد يساعده ذلك في مساعدة المريض على تجاوز تلك الأزمة، سواء أكانت اكتئاباً أم قلقاً، أم اضطراباً آخر، الحديث هنا فقط عن تأثير التدين، ولا علاقة له بتفسير الدين، بل الحديث عن أثره على سلوك الناس، ولا يهم أصل هذا الدين أو نوع المعتقد هل هو صحيح أم باطل.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سفيان الغانمي
كاتب رأي مغربي
تحميل المزيد