مَن يعرف الفلسفة فهو يعرف الكثير عن تاريخ الدفاع المستميت للفكر البشري عن فكرة الحرية، تلك الفكرة التي تسكن خيالنا وتتميز بالندرة في واقعنا، والتي تعد معضلة إبستمولوجية كبرى، لَطالما كان العقل البشري مشغولاً ببلورة أفكار ونظريات تسهل عليه فهم أسباب الوجود، وما قد يؤول إليه هذا الكون المليء بالأسرار، ولكن الحرية ليست فكرة تمت بلورتها، أو استنتاجاً توصّل إليه العلم الحديث، وإنما هي من المسلمات التي يؤمن بها معظم البشر، دون أي دليل ملموس يؤكد صحة هذا الزعم. وقد امتلأ تاريخ الفلسفة عن آخره بنظريات وأطروحات فلسفية تجيب عن أسئلة وجودية فيما يخص الحرية، ومن خضم هذا النقاش الفكري الذي طال سنوات عديدة ولد مبحث فلسفة الحرية، حيث يؤمن أصحاب هذا التيار الفكري بأنه لا وجود للحتمية، في ظل وجود إرادة حرة يتمتع بها الأفراد.
إن الحرية -بمعناها الأكثر بساطة وشيوعاً- هي أن يتمكن المرء من فعل كل ما يريد، لكن هذا التعريف البسيط يفشل في تحديد منبع الإرادة لدى النفس البشرية، وهو جواب يضعنا أمام تساؤلات أخرى، ماذا لو كانت إرادة الإنسان تسلبه حرية الاختيار واتخاذ القرار؟ ماذا لو كان البحث عن الحرية صراعاً أبدياً بين العقل وإرادة النفس وشهواتها؟ هل من وجود لحرية مطلقة؟ وهل تُعد حريةٌ غير مطلقة حريةً من الأساس؟ يقول الفيلسوف الفرنسي أندري لالاند: "إن فكرة الحرية المطلقة التي يمكن أن ننعتها بالميتافيزيقية، وخاصة في تعارضها مع الطبيعة تقتضي وجود فعل إنساني محرر من جميع العلل"، أي أن الحرية المطلقة هي استقلال المرء في اختياره لفعل كل ما يريده، وترك ما لا يريده بغض النظر عن الظروف والإكراهات الخارجة عن سيطرته.
إن الإنسان وإن كان حراً فهو ليس مخيراً في كثير من الأمور، فهو يولد في ظروف تقيده وتحدد مساره في الحياة بشكل أو بآخر، وهو أيضاً يعيش تحت سطوة القوانين والقيود الاجتماعية، ويعيش في سجن اللغة التي تحدد رؤيته للعالم، وفهمه لما يجري حوله.
ورغم كل هذا فإنني أؤمن بأن الإنسان لا يمكنه أن يكون حراً إلا بوجود قوانين وقيود تمنحه حق الاختيار، فإما أن يحترم القوانين ويسير مع التيار وإما أن يتمرد على كل ذلك ويشق طريقه بعيداً عن كل ما يقيده.
صحيح أننا نعيش تحت سطوة قيود كثيرة، لكن سجن اللغة الذي نولد فيه ولا نكاد نبرحه ليس بالضرورة سجناً يسلب منا الحرية المنشودة. يزعم البعض أن المعرفة اللغوية هي التي تمنح الإنسان الحرية في التعبير عن مكامن نفسه وإيصال صوته للآخرين، وهو أمر صحيح إلى حد ما، لكن اللغة -أو بالأحرى التمكن منها- سجن يمنعنا من بلوغ قيمة الكونية والحرية المطلقة، لأن الكلمات أحياناً تخنق المعاني وتختزلها، على عكس أدوات التعبير الأخرى، التي تبقي أفق الفهم والتحليل مفتوحة على الدوام.
وبالرغم من أن اللغة سجن للأفكار فإنها تمنحنا مساحة كافية من الحرية، لكن نجد ذواتنا من خلالها، ونرى العالم عبرها، يمكننا القول إذن إن للغة سطوة لا تسلب منا بالضرورة حريتنا الفكرية والشخصية، تماماً مثل القوانين الوضعية والمنظومات القيمية التي تجعلنا نفرق بين الصواب والخطأ، دون أن تجعلنا بالضرورة كائنات مسيرة بالكامل، وخاضعة للحتمية.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الحرية مفهوم يختلف من ثقافة إلى أخرى، ومن تيار فكري إلى آخر، فإذا كانت الليبرالية تحصر مفهوم الحرية في الحرية الشخصية، وتتخذ السياسة وسيلة لحفظ الحقوق الفردية، فإن الاشتراكية ترى أن حرية الإنسان تكمن في قدرته على المشاركة في عمل خلاق، يجد فيه نفسه دون أن يحتم عليه هذا العمل أن يغترب عن ذاته وطبيعته البشرية، أو أن يتم استغلاله وتسخيره من طرف الطبقة الحاكمة، لجلب الثروات وزيادة رأس المال.
وفي التيار الماركسي، لا يمكن للحرية أن تتحقق إلا في المجتمعات الشيوعية، حيث تلغى الطبقية، ويتحرر الإنسان من سطوة الرأسمالية، ويتمكن من اختيار مساره في الحياة دون أن تتحكم فيه الفاقة الملحة للمال، التي تدفعه أحياناً إلى البحث عن أي عمل كيفما كان، وتسرق منه أحلامه وطموحاته، وقدرته الطبيعية على الإبداع.
مهما اختلفت تصوراتنا للحرية وفهمنا لها يمكننا كبشر قادرين على التفكير والبحث عن ذواتنا في هذا الكون الشاسع أن نتفق على أمر واحد، ألا وهو أن الحياة رحلة نتعلم في خضمها العديد من الدروس، فلا يسعنا ونحن كائنات تتميز بالفضول والحب المزمن للمعرفة سوى أن نبحر في أسئلة وجودية، ونبحث عن أجوبة مقنعة لها، وحتى وإن كُلل بحثُنا المضني عن أجوبة الكون بالفشل فإننا نبقى كائنات محبة للحياة رغم قصور علمنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.